مراجعة مفرطة التفاؤل مِن صندوق النقد الدولي للأوضاع الاقتصادية في مصر
تم ترجمة هذا المقال من اللغة الإنجليزية، وتحديثه ببعض المعلومات التي توافرت في الفترة بين نشر النسخة الإنجليزية ونشر النسخة العربية. لقراءة النسخة الأصلية .اضغط هنا
***
على مدار الأشهر القليلة الماضية، شهدنا عدة مؤشرات تتعلّق بقرض صندوق النقد الدولي لمصر، إذ وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على الدفعة الثالثة من القرض بقيمة مليارَي دولار أمريكي في نهاية يونيو، وبذلك يصل إجمالي الأموال التي حصلت عليها مصر منذ توقيع اتفاقية القرض في نوفمبر 2016 إلى 8 مليارات دولار أمريكي. وفي يوليو، أصدر صندوق النقد الدولي مراجعته الثالثة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، وقد جاءت تشبه إلى حد كبير المراجعتين السابقتين، تحديدًا في كيل المديح للسلطات المصرية والمبالغة في الثناء على التنفيذ الفعّال لبرنامج الإصلاح الاقتصادي. وأشار البيان الصحفي الذي نَشره صندوق النقد الدولي فور الانتهاء من المراجعة الثالثة إلى «استمرار تحسّن الوضع الاقتصادي خلال عام 2018، فقد لعب التنفيذ الفعّال للبرنامج والأداء الإيجابي عمومًا دورًا كبيرًا في تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي.» وأضاف البيان أن «توقعات النمو على المدى القريب تتسم بالإيجابية، ويدعمها انتعاش السياحة وارتفاع مستويات إنتاج الغاز الطبيعي، في حين من المتوقع أن يظل عجز الحساب الجاري أقل من 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي مع انخفاض نسبة الديْن العام انخفاضًا ملحوظًا بحلول عام 2023.»
ورغم هذا الثناء لا يزال الوضع الاقتصادي في مصر يبدو ضبابيًّا وتشوبه الشكوك والتقلبات منذ تنفيذ البرنامج؛ إذ تأثّر معظم المصريين تأثرًا سلبيًّا بالبرنامج نتيجة ارتفاع مستويات التضخم والزيادات غير المسبوقة في أسعار الخدمات العامة. كما يتناول التقرير الأخير بعض هذه القضايا، لكنه لم يعترف بالبعض الآخر ولم يتناولها تناولًا وافيًا، لا سيما أثّر خفض الدعم على السكان ذوي الدخل المنخفض.
المخاطر الهيكلية
حدّد صندوق النقد الدولي في تقريره خطرًا رئيسيًّا يلوح في الأفق؛ ألا وهو تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج نتيجة الأوضاع المالية العالمية المقيدة. ونظرًا لأن مصر خفّضت قيمة عملتها في نوفمبر 2016 ورفعت أسعار الفائدة لاحتواء الأثر التضخّمي لخفض قيمة الجنيه المصري، دخلت تدفقات كبيرة مما يطلق عليها «أموال جائلة» (رؤوس أموال غير مستقرة بسبب الأحوال الاقتصادية) إلى البلاد، وشهد العام التالي لخفض قيمة الجنيه استثمارات بقيمة 17 مليار دولار في أذون الخزانة بمصر، وهي بمثابة صكوك دين قصيرة الأجل.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من المحللين حذّروا مِن تدفّق رؤوس الأموال دون قيد أو شرط لأنه إذا تغيّرت ظروف تدفقات رؤوس الأموال تغيّرًا طفيفًا قد تحدث عمليات سحب كبيرة، بما يزيد من تقلب الوضع ويعرّض الاقتصاد لمخاطر جسيمة. وفي الوقت الذي أعرب فيه المحللون عن مخاوفهم، رأى صندوق النقد الدولي في هذا التدفق علامة إيجابية، إذ إن المراجعة الثالثة أظهرت الآن أن صندوق الدولي يعترف بتلك المخاطر. وذكر التقرير «شهدت تدفقات رؤوس الأموال تحوّلًا خلال الشهور الأخيرة؛ إذ أسهمت الأوضاع المالية العالمية المقيّدة في انسحاب منظّم للمستثمرين من الأسواق الناشئة على نطاق أوسع. وفي حال زادت هذه الأنماط من الممكن أن تؤدي إلى المزيد من الانكماش المالي.»
وذكرت أخر بيانات للبنك المركزي المصري أن الأجانب خفضوا استثماراتهم في أذون الخزانة الحكومية بقيمة 6.5 مليار دولار في أربعة أشهر فقط من مارس إلى يوليو 2018 لتسجل 15.01 مليار دولار بنهاية يوليو، مقابل 21.5 مليار دولار بنهاية مارس الماضي كجزء من موجة تراجع الاستثمارات التي تهدد الأسواق الناشئة كنتيجة لرفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي.
من ناحية أخرى، أشاد صندوق النقد الدولي في تقريره بتعزيز الاحتياطي الأجنبي، وذكر أن «المستوى الجيّد من احتياطيات النقد الأجنبي وسعر الصرف المرن يجعلان مصر في وضع جيّد للتعامل مع أي زيادة في تدفقات رؤوس الأموال خارج البلاد». وهذا من شأنه أن يعيد شكوك العديد من المحللين بشأن إمكانية قياس الاحتياطي النقدي الأجنبي برقم مطلق بدلًا من رقم يتعلق بمؤشرات أخرى مثل التزامات الدين الخارجي قصيرة الأجل، كما ارتفع الاحتياطي الأجنبي بشكل مطلق ارتفاعًا كبيرًا من نحو 15 مليار دولار في يونيو 2016 إلى نحو 40 مليار دولار في 2018.
ومع ذلك، فإن أحد مُؤشّرات استدامة الديْن، بصرف النظر عن حجمه المطلق، هو الدين الخارجي قصير الأجل نسبة إلى الاحتياطي الأجنبي. وبلغت هذه النسبة 10 في المائة في العام المالي 2011-2012، ويعني ذلك ببساطة أن التزامات الديْن قصيرة الأجل شكّلت 10 في المائة من حجم الاحتياطيات الدولية، وبلغت هذه النسبة 30 في المائة في الربع الثاني من العام المالي 2017-2018.
الديون والضرائب
ومن الملحوظ أن التقرير أفرط في تفاؤله بخصوص ديون مصر المتزايدة، ومن المتوقع أن ينخفض الديْن في العام المالي 2018-2019 ليصل إلى 86 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وبلغت نقطة الأساس في التقرير 103 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2016-2017، وبالتالي تجاهل التقرير تمامًا الزيادة التي حدثت في عام 2017-2018 عندما ارتفع حجم الدين إلى 105 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في مارس 2018، ومِن المتوقّع أن تزيد هذه النسبة لتصل إلى نحو 108 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ويعدّ تسجيل انخفاض من 108 في المائة إلى 86 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في بضعة أشهر، بينما لا يزال الاتجاه مستمرًّا في التصاعد، أمرًا غير واقعي إلى حد ما، ولا يبدو من الواضح سبب إغفال تقرير صندوق النقد الدولي التام لعامَي 2017 و2018 في معرض تحليله.
وفيما يتعلق بتدابير خفض العجز في الإيرادات، توقّع تقرير صندوق النقد الدولي زيادة في الإيرادات بنسبة 0.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي نتيجة «تأثير عام كامل من تطبيق ضريبة القيمة المضافة والضرائب على التبغ، وزيادة رسوم الدمغات، وتحسين إدارة الضرائب». ويعكس هذا التركيز على الضرائب غير المباشرة وزيادة رسوم الدمغات بشكل معبّر التوجّه الذي بسببه أصبح هيكل الضرائب أكثر تراجعية. ووفقًا للأرقام التي نشرتها وزارة المالية المصرية شهد النصف الأول من العام المالي 2017-2018، للمرة الأولى، تجاوز إيرادات ضريبة القيمة المضافة نحو نصف الإيرادات الضريبية كافة (53.6 في المائة).
ولا يتعارض ذلك فحسب مع مبادئ الضرائب والعدالة الاقتصادية، بل يتعارض أيضًا مع توصيات صندوق النقد الدولي في تقرير المراجعة الثاني للبرنامج الاقتصادي التي نادت بالزيادة التصاعدية للضريبة على الدخل الشخصي وتحسين أداء ضريبة الدخل على الشركات من خلال التصدي لتآكل الوعاء الضريبي وتحويل الأرباح ومراجعة خطط الحوافز الضريبية للاستثمار الأجنبي المباشر والمناطق الاقتصادية الحرة.
وفوق هذا وذاك، ينص أيضًا تقرير المراجعة الثالث على أن هناك جهودًا متزايدة بُذلت من أجل التصدي لحالات عدم الامتثال الضريبي وزيادة كفاءة تحصيل الإيرادات بهدف تعزيز الإيرادات «وخلق حيز مالي للإنفاق على الاستثمارات» في قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية وشبكة الأمان الاجتماعي المستدامة، غير أن هذا النهج لجمع الضرائب لا يعالج المشكلات الأعمق والأكثر هيكلية المتعلّقة بتجنّب الضرائب والتهرّب من دفعها، المنتشرة بين الشركات. وكَشف تقرير غير منشور لصندوق النقد الدولي يعود لشهر ديسمبر من العام ٢٠١٧، تحصّل عليه «معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط»، عن أن الصندوق يدرك تمامًا مدى خطورة المشكلة.
وذكر التقرير أن «نسبة كبيرة من [الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة إلى مصر] مصدرها بلدان تتسم بمعدّل [ضريبة دخل على الشركات] منخفض للغاية أو استقطاعات ضريبية عبر الحدود منخفضة للغاية على الأرباح والفوائد والرسوم أو من كلا المصدرين»، ويوضّح تقرير ديسمبر أن هذا «يشير في الغالب إلى تخطيط ضريبي صارم لأن [الشركات متعددة الجنسيات] من الممكن أن توجّه استثماراتها الأجنبية المباشرة على نحو غير مباشر من خلال تلك البلدان للاستفادة من انخفاض معدلات الضرائب.»
أما فيما يتعلق بتدابير خفض العجز في النفقات، فقد حدث خفض كبير في فاتورة أجور موظفي القطاع العام، التي من المتوقع أن تشهد انخفاضًا آخر بنسبة 0.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن انخفضت بالفعل بنسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على مدار العامين الماضيين. وفي مقال سابق، ذكرت أن فاتورة الأجور مرتفعة فقط بالنسبة للضرائب والإيرادات الحكومية وذلك لأن هذه الإيرادات الحكومية منخفضة للغاية وليس لأن الأجور مرتفعة جدًّا. وبالنسبة للناتج المحلي الإجمالي فإن فاتورة الأجور في مصر في ذروتها كانت قريبة من المتوسط العالمي إن لم تكن أقل منه فعليًّا.
ويجب توزيع الأجور الحكومية بصورة أفضل، عن طريق التوازن بين توزيع مُقدّمي الخدمات الفعليين مثل الأطباء والمعلمين وهم غير المتوافرين بدرجة كافية، والعاملين الزائدين عن الحاجة في الوظائف والخدمات الإدارية.
إن زيادة كفاءة البيروقراطية أمرٌ حاسمٌ، إلا أن التركيز غير الضروري للبرنامج الاقتصادي على الحجم المجرّد لفاتورة الأجور يتسم بقصر النظر، وستكون له آثار خطيرة طويلة الأجل على مستقبل الطبقة المتوسطة وتوظيف النساء، وذلك لأن القطاع العام هو إحدى جهات التوظيف الرئيسية للنساء.
خفض الدعم
يُعدّ حفض دعم الطاقة بنسبة يُتوقع أن تصل إلى 1.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أحد التدابير الأخرى المتعلّقة بخفض العجز في الإنفاق. وذكر صندوق النقد الدولي في تقريره أن دعم الطاقة يصبّ في مصلحة الأثرياء بدرجة غير متناسبة، وهذا الرأي صحيح لأن الأسر والأفراد الأكثر ثراءً -ناهيك بالمؤسسات التجارية التي تستخدم الطاقة بشكل مكثّف- تستهلك قدرًا أكبر مِن الطاقة. ومع ذلك، فإن الطريقة التي زادت بها أسعار الوقود أثّرت بدرجة غير متناسبة على المجموعات منخفضة الاستهلاك (وبالتالي منخفضة الدخل). على سبيل المثال، ارتفع سعر الديزل، الذي يُستخدم في عربات الميكروباص التي يستقلها مُعظم الأفراد من ذوي الدخل المنخفض، بنسبة 50 في المائة في يونيو 2018. كما زاد سعر أسطوانات الغاز التي يستخدمها غالبًا سكان المناطق الأقل ثراءً والتي لا تتوفر بها توصيلات الغاز في المنازل، بنسبة 66 في المائة. ومن ناحية أخرى، زاد سعر بنزين السيارات الخاصة بنسبة 35 في المائة لأوكتان 92 و17 في المائة لأوكتان 95.
وبالنسبة إلى المياه شهدت أقل شريحة استهلاكية أكبر زيادة، وهي الزيادة الثالثة في عامين، مع زيادة تراكمية تزيد على 100 في المائة. علاوة على ذلك، كانت الزيادة الأخيرة في أسعار الكهرباء انتكاسية للغاية، إذ كانت الزيادة لأقل شريحة استهلاكية نحو 70 في المائة، في حين بلغت الزيادة على أعلى شريحة استهلاكية نحو 7.4 في المائة فقط.
الإيجابيات المُحتمَلة
مِن الجوانب الإيجابية في تقرير صندوق النقد الدولي التركيز على جعل المشتريات العامة أكثر شفافية وتنافسية لتحسين الإنفاق العام والحدّ من الفساد، ويرتبط ذلك بدعوة التقرير إلى إصلاح النظام الحالي المتعلّق بتخصيص أراضي المناطق الصناعية، إذ تُباع الأرض بسعر مُحدّد مسبقًا بناءً على مراجعة الحكومة للطلبات؛ وهذا يجعل النظام بالكامل عُرضة لتفشّي الفساد والمحسوبية. وعانت خزانة مصر العامة في الماضي كثيرًا من خصخصة أراضٍ بالأمر المباشر بأسعار أقل من سعر السوق لأفراد على صلة بالنظام السياسي.
ورغم أن هجوم برنامج الإصلاح الاقتصادي على القطاع العام وهو جهة التوظيف الأكبر للنساء سيؤثّر تأثيرًا غير متناسب على النساء، فإن الحكومة تعمل -كجزء من البرنامج- على تطبيق موازنة عامة تراعي النوع الاجتماعي بدايةً من العام المالي 2018-2019، وعلى زيادة إنفاقها على الحضانات العامة لتعزيز قدرة النساء على العمل. ونظرًا للصعوبات الحقيقية التي تواجه النساء في سوق العمل مِن المهمّ ألا ينتهي الأمر بهذه البرامج إلى أن تكون طريقة سطحية للوفاء بمتطلبات «الإدماج والمساواة بين الجنسين» خاصة بعد انخفاض معدل مشاركة النساء في القوى العاملة منذ عام 2013.
تم نشر هذا المقال عبرموقع التحرير بتاريخ 09 اكتوبر 2018