الخطف وفرض الجزية على أقباط الصعيد
تستدعى الاستغاثات اليومية القادمة من أعداد متزايدة من المواطنين الأقباط في الصعيد بخصوص عمليات الخطف والاعتداء البدني، الذى يفضى للقتل في الكثير من الأحيان، والاستيلاء على الممتلكات والإجبار على دفع إتاوات إلى الذاكرة مشاهد مؤلمة من ذاكرة مصر الحديثة، عندما لجأ قسم من الجماعات الإسلامية المسلحة لاستهداف ممتلكات الأقباط في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لشراء السلاح ثم استخدامه فيما بعد في استهداف حياة الأقباط أنفسهم. وهي ممارسات قد اعتقدنا أنها انتهت بلا رجعة، وأصبحت جزءاً من فصول التاريخ.
على سبيل المثال لا الحصر، اختطف ٣ أقباط في ثلاث مناطق مختلفة بمحافظة المنيا أول أمس السبت بينما قضت محكمة جنايات قنا بإحالة أوراق ثمانية متهمين إلى المفتي - الثلاثاء الماضي- تمهيداً لصدور حكم الإعدام عليهم في واقعة قتل قبطي ونجله أثناء محاولة اختطافهما خلال العام ٢٠١١.
لاشك أن السنوات التي سبقت ثورة الخامس والعشرين من يناير كانت تشهد احتقانا طائفيا لا تغفله عين. وفي ظل حكومات لم تملك الحد الأدنى اللازم من الإرادة السياسية لوضع نهاية لهذه الممارسات، فكان من السهولة بمكان أن تتحول مشكلة عادية أسبابها سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية إلى اعتداءات طائفية يتخللها عقاب جماعي واستهداف لمواطنين على الهوية الدينية، لكن كانت هذه الأحداث بالرغم من خطورتها وتزايدها محدودة بإطارها الجغرافي والزماني.
ومع انطلاق الثورة، انهارت سطوة الدولة البوليسية، وامتنعت الأجهزة الأمنية عن القيام بدورها في فرض الأمن للمواطن، وما صاحب ذلك من غياب آليات الضبط والمحاسبة الجنائية، فيما عرف بين الناس باسم الفراغ الأمني ، وبالرغم من انتشار قوات الجيش لمساعدة أجهزة الأمن الداخلي على القيام بدورها، وإعلان القيادات العسكرية الكبيرة أنها تقف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين، وأنها لن تطلق رصاصة واحدة على مواطن، وفي حين كانت قيادات الشرطة تؤكد أنها لن تصطدم مع المواطنين، ولن تستخدم العنف ضدهم مرة أخرى إلا أن أدائها قد اتسم بما يمكن وصفه بالحياد السلبي والذى تحمل كلفته المواطنين الأقباط في أغلب الأحيان*.
في ظل هذه الظروف، استغل آلاف من البلطجية والمسجلين خطر الفراغ الأمني لترويع المواطنين والاعتداء على ممتلكاتهم، وكان للأقباط نصيب من هذه الاعتداءات. فقد انتشرت عمليات السطو على ممتلكات الأقباط وأراضيهم وفرض إتاوات عليهم، سواء بشكل مباشر أو تحت دعاوى حمايتهم، وفي الكثير من الأحيان قُتل وهجر من يرفض الابتزاز أو يعلن مظلمته حتى لو ذهب إلى مؤسسات الدولة الرسمية. ومثلت عمليات الخطف أخطر هذه الاعتداءات لما تضمنته من ترويع وتهديد وابتزاز ومعاملة غير إنسانية، لم تفرق بين كهل تجاوز السبعين من عمره وطفل لم يتجاوز السادسة.
هذه العصابات تختار ضحاياها بعناية، وتدرس أحوالهم المالية قبل أن تحدد قيمة الإتاوة المفروضة، ثم تتصل بأسرة المخطوف لتجبرها على دفع الإتاوة مع تهديد بقتل الضحية في حال قاموا بتبليغ الجهات الأمنية، وما يزيد الأسى أنه في بعض الحالات رضخت الأسر وباعت كل ما تملكه واستدانت حتى تكمل مبلغ الفدية، إلا أن المخطوف قد عاد في الكثير من هذه الحالات لذويه جثة.
وأتذكر أنى قد ذهبت أكثر من مرة مع أهالي من قريتيّ البدرمان ونزلة البدرمان بمركز ديرمواس جنوب محافظة المنيا، لتقديم استغاثات إلى النائب العام والمجلس القومي لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يدير البلاد خلال عامي ٢٠١١-٢٠١٢، يشتكون فيها من سطوة بلطجي يدعى "هولاكو الصعيد" كان يعمل قبل الثورة مرشدا للشرطة، ثم سجن في عدة قضايا، وهرب من السجن فور انطلاق الثورة، فرجع إلى المنيا، وقام بتشكيل عصابة من المجرمين كانت تفرض إتاوات ثابتة على عدد من أقباط القريتين والمناطق المجاورة لهما، ومن كان يرفض الدفع يخطف أطفاله أو يجبر على ترك أرضه ومغادرة سكنه، وعندما اعترض أحد المواطنين وأرسل شكوته إلى وسائل الإعلام، قتلت هذه العصابة هذا المواطن ونجله.
ووفقاً للكثير من الشواهد، فأجهزة الأمن لم تتحلى بالجدية المطلوبة في القبض على أفراد هذه العصابة. تارة يتعللون بعدم قدرتهم على مواجهتها والتصدي للأنواع المتقدمة للأسلحة التي يستخدمونها، وتارة تتذرع الأجهزة الأمنية بقيام المواطنين بسحب البلاغات المحررة ضد العصابة تحت التهديد والترويع، وغيرها من الحجج الواهية أسوأها – وفقاً للكثير من شهادات الأهالي- وجود مصادر أمنية من الشرطة كانت تخبر زعيم هذه العصابة مسبقا بخروج أي حملة أمنية للقبض عليه.
جدير بالذكر أن هذا البلطجي قد قُتل، دون تدخل من الشرطة، في معركة بالأسلحة النارية مع عائلة مسيحية هاجمها بغرض خطف إحدى السيدات المتزوجات، فتبادل الطرفان إطلاق الأعيرة النارية فقتل قبطيان وقتل هو خلال الأحداث، وهدأت الأوضاع فترة ثم عادت العصابة من جديد مع نهاية العام الماضي لتمارس نفس الاعتداءات السابقة.
وبالرغم من استرداد الأجهزة الأمنية لكامل قوتها، وعودتها إلى سابق عهدها قبل الثورة في البطش والقبض العشوائي وغيرها من مظاهر الدولة البوليسية، لكنها ظلت على حالها في عدم التعامل مع هذا الاعتداءات، والتباطؤ الذي يصل إلى حد التواطؤ في الاستجابة لاستغاثات المواطنين ونجدتهم قبل فوات الأوان. فقد تزايدت حالات خطف الأقباط وإجبارهم على دفع إتاوات بعد أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة – ١٤ أغسطس ٢٠١٣- وساهمت الأجهزة الأمنية بتراخيها في زيادة هذه الانتهاكات بشكل ملحوظ. وأصبحت بعض القرى في صعيد مصر مثل البدرمان، دلجا، الشامية، بهجورة في صدارة عناوين الصحف وبرامج الفضائيات خلال الفترة الماضية، ليس لإنجاز أو شيئا إيجابيا لكن كرمز للظلم والقهر الاجتماعي وغياب حكم القانون.
ووفقا لتقديرات الأنبا مكاريوس أسقف المنيا يزيد عدد الأشخاص الذين تعرضوا للخطف بالمحافظة عن مائة مواطن مسيحي، في حين يبلغ عدد الحالات في نجع حمادي أحد مراكز محافظة قنا ٣٤ مواطنا وفقًا للأنبا كيرلس أسقف نجع حمادي. ونعتقد أن هذه الأعداد أقل من الحالات الفعلية لأن كثير من الضحايا لا يحررون محاضر رسمية، ولا يعلنون عن تعرضهم للخطف أو الإجبار على دفع إتاوات لأسباب مختلفة أهمها الخوف من رد فعل البلطجية خصوصًا أن أجهزة الأمن غالبا ما تطالبهم بالتفاوض مع الخاطفين أو المعتدين عليهم من أجل سلامة المخطوفين، وكذلك مخافة أن يشجع الإعلان عن دفعهم للإتاوات آخرين على تكرار الاعتداء عليهم، طالما هم قادرين على دفع مبلغ الفدية التي تراوحت ما بين العشرة آلاف وبين نصف المليون جنيه.
والسؤال الآن: لماذا يجرى إقحام الدين في هذه الاعتداءات، فهي جرائم يعاقب عليها القانون أيا كان مرتكبيها؟ وكذلك ما علاقة ذلك بهويتهم الدينية؟
لا نملك معلومات دقيقة عن معدل الجريمة في مصر بشكل عام، وعدد حالات الاختطاف بشكل خاص، فالشفافية وتداول المعلومات لم تكن من أولويات الحكومات المتعاقبة منذ ٢٥ يناير، كما أن وزارة الداخلية امتنعت منذ نهاية التسعينيات عن نشر تقرير الأمن العام الذي كان يتضمن معلومات وإحصائيات عن كافة الجرائم كالقتل والشروع فيه والخطف والسرقة والنصب والحرق وجنايات النصب والأموال العامة وغيرها من الجرائم. فأصبحت أيدي الباحثين مغلولة عن الوصول إلى معلومات دقيقة وكافية من الجهات الرسمية.
في هذا السياق أصبحنا نحصل على المعلومات من الضحايا والقيادات الدينية وشهود العيان بشكل مباشر، أو من خلال وسائل الإعلام التقليدية التي انتشرت خلال السنوات الأخيرة ويهتم بعضها بعرض شكاوى المواطنين، هذا إضافة إلى وسائل الإعلام الشعبي الحديثة التي أتاحت للمواطنين عرض مظالمهم بدون قيود، وجميعها أكدت أن هناك استهدافاً لأقباط في محافظات الصعيد خصوصا المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا من أجل إجبارهم على دفع إتاوات سواء بشكل فج صريح أو تحت مسميات أخرى كمقابل الحماية أو فدية لتحرير مخطوف، وأن نسبة هذه الاعتداءات لا تقارن بمثيلتها الواقعة ضد المواطنين المسلمين.
في هذا السياق، رصد تقرير حقوقي لمركز "وطن بلا حدود للتنمية البشرية وحقوق الإنسان وشئون اللاجئين" بالأقصر وقوع ٣٧ حالة خطف بمركز نجع حمادي خلال الفترة من نوفمبر ٢٠١١ إلى أغسطس ٢٠١٢، كان منهما ٣٢ قبطيا وخمسة مسلمين، وقتل قبطيان، وجرت ٩ محاولات أخرى للخطف والتهديد به. ونشدد مرة أخرى أنه لم يصدر عن أي مصدر رسمي بيانات ومعلومات للتيقن من الأرقام الدقيقة.
وبشكل عام، لا نعتقد بانتماء الخاطفين إلى جماعات إسلامية منظمة معروفة تدير وتنظم عملياتهم، لكنهم عصابات محلية متفرقة، استند قليل منهم إلى فتاوى ضعيفة وقديمة بـ"استحلال أموال النصارى" كسند لأنشطتهم المسلحة. تغذت هذه الفتاوى على اعتقاد غير منطقي بأن الأقباط يفوقون المسلمين ثراءً، ومن ثم فاستهدافهم الاقتصادي والمالي يهز صورتهم أمام جيرانهم المسلمين بأنهم أصبحوا يحتاجون من يحميهم ويدافع عنهم.
أما معظم هذه العصابات فترى في الأقباط صيداً سهلاً مستضعفا، وتستغل عدم امتلاكهم النفوذ والقوة الذي يمكنهم من مواجهة الاعتداءات عليهم، ومن ثم الرضوخ بسهولة للمجرمين والإذعان لمطالبهم دون مقاومة نظراً لرؤيتهم كمستضعفين لا سند لهم، لاسيما أن الصعيد مهمش ولا تهتم حكوماتنا بالشكل الكافي بمشاكله وأخباره ومعاناة أهله، وبخاصة صعوبة استخدام المسيحيين للأسلحة النارية حتى لو توفرت لديهم، لما قد ينتج عنه من تداعيات كارثية، ويحول أي حادثة من اعتداء فردي إلى اعتداءات طائفية واسعة النطاق.
والملفت أن بعض هذه العصابات يضم فرداً أو أكثر مسيحي الديانة يستخدم كمرشد ومقدم معلومات عن الحالات التي سيتم خطفها. وما يثير الدهشة، وفقاً للعديد من شهود العيان، أن بعضًا من هذا المجموعات استخدم الأسلحة النارية لحماية الكنائس أثناء موجة الاعتداءات عليها بالتدمير والحرق عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة ومنع أنصار الرئيس المعزول من استهدافها، مدفوعا بعدم إلصاق التهمة بهم أو مقابل مبالغ مالية.
في النهاية نشدد على أن الدولة بكافة أجهزتها مطالبة بحماية كل مواطنيها، وبالأخص الفئات الأضعف منهم، وفي مقدمتهم الأقليات الدينية، هذا هو دور الدولة وفقا للدستور والقانون والمواثيق الدولية، ولا يمكن التعلل بافتقاد أجهزة الأمن لوسائل القمع السابقة وضعف هيبتها لتبرير فشلها في فرض الأمن للمواطن والمجتمع. وإذا كانت الأجهزة الأمنية قد ارتبط أداء دورها باستخدام العنف المفرط ضد المواطنين بدلًا من التحريات الدقيقة والعمل الشرطي السليم، فحل مشكلة العنف المجتمعي يكمن في بناء نظام أمني عادل وقوي وقائم على سيادة القانون، وعلى مسافة واحدة من جميع المواطنين، سواء كانوا رجال أو سيدات، مسلمين أو غير مسلمين، سنة أو شيعة... إلخ.
الأمن سيأتي من خلال تطبيق القانون بحزم دون أخذ عقيدة الجاني أو المجني عليه في الاعتبار، فالمجتمع سيعدو آمنا لو تأكد المسلمون والمسيحيون من أن عقيدتهم لن تكون سبباً في حمايتهم أو حرمانهم من حقوقهم.
*لمزيد من التفاصيل راجع تقرير "الأقباط تحت حكم العسكر: وقائع عام ونصف من جرائم "المرحلة الانتقالية""
تم نشر هذا المقال علي موقع مدي مصر بتاريخ 10 مارس 2014