المنيا.. عندما تفشل الدولة ينجح المتطرفون؟
اكتسبت محافظة المنيا سمعة محلية ودولية سيئة باعتبارها بؤرة لاعتداءات ممنهجة على المسيحيين، وأنها أكثر المحافظات المصرية من حيث الممارسات الطائفية، و التي تعكس فشلت الحكومة في تعاملها مع ملف علاقات المسيحيين بالمسلمين. فالاعتداءات الأخيرة التي شهدتها المحافظة من نهب وحرق منازل وإيذاء بدنى وقتل على خلفية شائعات تحويل منزل لكنيسة أو لمشاجرات عادية سرعان ما تتحول إلى اشتباكات طائفية لم تكن الفصل الأول في موجة التوترات في عروس الصعيد كما يحلو لأبناء المحافظة تسميتها.
حسب توثيق المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، تم رصد سبع وسبعين حالة توتر وعنف طائفي، بمختلف مراكز محافظة المنيا، منذ الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، منها عشرة منذ يناير الماضي فقط، وهذا الرقم لا يتضمن حالات العنف والاعتداءات على الكنائس و المباني الدينية والمدارس والجمعيات الأهلية والممتلكات الخاصة التي تعرض لها الأقباط خلال الفترة من ١٤ إلى ١٧ أغسطس ٢٠١٣، عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة، والتي جاءت انتقامية لاحتجاجات المصريين وعزلهم الرئيس الإخواني محمد مرسي، حيث اندلعت موجة واسعة من الاعتداءات الطائفية التي تم خلالها نهب وحرق عشرات الكنائس و المبانى الدينية والممتلكات الخاصة بمراكز المحافظة التسع، بالإضافة لاستهداف بعض المواطنين على أساس ديانتهم، إضافة إلى حرق عدد من المبانى والمنشآت الحكومية.
جاء مركز المنيا في المقدمة بنسبة ٪٣٠ من الإجمالي، ثم مركز سمالوط بنسبة ٢١٪، أى أن المركزين اللذين يقعا في قلب المحافظة شهدا وحدهما أكثر من نصف حوادث التوترات والاعتداءات الطائفية. بنسبة ٥١٪، كانت التوترات والعنف الطائفي على خلفية ممارسة الشعائر الدينية كمنع افتتاح كنيسة جديدة، أو منع الصلاة في كنيسة قائمة، أو منع أعمال ترميم كنيسة أو مبنى خدمى قائم أو الاعتراض على تركيب جرس، وفي بعض الحالات تم وقف استكمال بناء منازل أقباط بعد تقديم شكاوى بأن أصحابها سيحولونها إلى كنائس للصلاة داخلها.
جاء في المركز الثاني للأسباب الظاهرية للاعتداءات الطائفية، المشاجرات والخلافات العادية، والتي تبدأ لأسباب عادية متنوعة سواء، خاصة بالعمل أو مشاكل مالية أو التحرش بسيدات، لكن فور تفجرها يتم استدعاء الدين واستخدامه للحشد وعقاب مواطنين لمجرد اشتراكهم مع أطراف المشاجرة في الانتماء الديني، وهذا يعود لاعتقاد سائد يتعامل مع جميع الأقباط كطائفة دينية، ومن ثم هم مسئولون عن أى خطأ يقوم به نفر منهم حتى لو لم يجمعه مع باقي الأقباط سوى الرابطة الدينية، في المقابل هناك طرف أخرى هو المسلمين عليهم القصاص من الأقباط كما أشرنا، بغض النظر عن علاقتهم بأطراف المشكلة.
وفي هذا السياق، تلعب الشائعات دوراً مؤثراً في وقوع المصادمات الطائفية أو عاملاً مساعداً على تصاعدها وتفاقم نتائجها، لاسيما أنه في عدد من الأحداث يتم الترويج لرفض بناء كنيسة أو مبنى دينى جديد أو تلك الخاصة بأسباب لها علاقة بالعلاقات العاطفية بين أطراف مختلفة الديانة، حيث يستغل ذلك في حشد طائفي يتجاوز نطاق الوحدة المحلية التي تشهد التوتر لينتقل إلى أماكن مجاورة ومواطنين ليس لهم علاقة بطرفي الأحداث نهائيا. وبقراءة الأحداث الأخيرة نجد أن ما حدث في قرى: البيضاء المهندسين بالعامرية، وكوم اللوفي بسمالوط، وعزبة يعقوب بالمنيا، وصفط الخرسة بدفش نماذج واضحة لدور الشائعات في الحشد الطائفي، أحداث تكررت بالكربون ﻹطلاق شائعة تحويل منزل إلى كنيسة بدون ترخيص، تجمع مئات أغلبهم من الشباب تحت العشرين ينظمون مسيرات تستهدف منازل الأقباط ثم إشعال النيران في المبنى والمنازل المجاورة كما حدث في المنيا وسمالوط أو الاكتفاء بالاعتداءات وسرعة تدخل الأمن لفض التجمهرات كما حدث في العامرية والفشن.
لماذا المنيا؟ ما الأسباب؟ وأين دور الدولة والمجتمع بمختلف تنوعاته؟ تساؤلات تحتاج الإجابة عنها إلى قراءة واقع الحال في هذه المحافظة بعناية ودقة، ثم الاعتراف بوجود مشكلة تحتاج إلى التدخل العاجل المتجاوز للشعارات المحفورة عن الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي، وغيرها من الكليشيهات التي تفرغ أى تحرك حتى لو جاد من مضمونه.
تتداخل مجموعة كبيرة من العوامل التي خلقت و مازالت تزكى تربة صالحة للفرز الدينى والانقسام المجتمعي، والتي تجعل أحيانا من مشاجرة بسيطة تحدث عشرات المئات يوميا بين مواطنين من نفس الديانة حدثاً غير عادي قابلا للانفجار والتمدد، خصوصا لو عرفنا أنه في بعض الأحداث يتمدد التوتر والعنف لقرى متجاورة، ولا قدر الله إلى مراكز متجاورة، وهو ما حدث في العام ٢٠١٠ عندما وقعت اعتداءات متزامنة في مراكز أبو تشت وفرشوط ونجع حمادى في محافظة قنا على أثر اتهام قبطى بالاعتداء على طفلة مسلمة.
نبدأ من الخصائص السكانية والاجتماعية لأهل المنيا، حيث يبلغ عدد سكان المحافظة نحو ٥ ملايين و١٥٦ ألف نسمة خلال عام ٢٠١٥، وهى أكبر محافظات الوجه القبلى بعد الجيزة، ويغلب عليها الطابع الريفي، يعيش نحو ٨٢ ٪في القرى والنجوع، بينما يقطن نحو ١٨ ٪ المدن التسع التي تمثل عواصم المراكز الإدارية للمحافظة، التي تضم ٩ مراكز، و٦١ وحدة قروية، ٣٥٨ قرية، ١٧١٣ تجمعا سكانيا (عزبة وكفر ونجع).
تتنوع التركيبة السكانية والخصائص الديموجرافية لأبناء المحافظة، يمثل الأقباط نسبة معتبرة من عدد السكان، لا يوجد إحصاء رسمى يحدد أعدادهم، لكن مؤشرات من مصادر محلية متنوعة قدرت نسبتهم بنحو ٣٠ ٪من سكان المحافظة، وهو ما يخلق مساحات من التعامل اليومى بين المواطنين، بما يحمله ذلك من خلافات ومشاجرات يسهل تحريكها طائفيا كما سبق الإشارة. كما تضم المحافظة عدداً من أبناء القبائل العربية، بعضا منهم يحمل الجنسيتين المصرية والليبية، ويعيشون في قرى بالقرب من الظهير الصحراوي الغربي للمحافظة، تأثر عدد منهم بأفكار التنظيمات الإرهابية والمتشددة المنتشرة في ليبيا، وانخرط نفر منهم في هذه التنظيمات خصوصا خلال السنوات الأخيرة.
كما كانت محافظة المنيا تربة خصبة في السبعينيات والثمانينيات للتطرف، وخرجت منها الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تورطت في اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات ورفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق، كما أن كثيرا من قادة حزبى البناء التنمية التابعة للجماعة الإسلامية والوسط الذى خرج من رحم جماعة الإخوان المسلمين وبعض التيارات السلفية الحاليين من أبناء المحافظة، وقد عانت المنيا من أعمال إرهابية واسعة خلال التسعينيات.
وبالرغم من تعدد الموارد الطبيعة والاقتصادية للمحافظة، تغيب عن المحافظة العدالة بأوجها المختلفة، سواء كانت عدالة اقتصادية، ممثلة في ضعف مخصصات التنمية، وعدم فاعليتها، أو عدالة اجتماعية، ممثلة في تزايد نسب الفقر والأمية، وحتى عدالة ثقافية ناتجة عن ضعف المراكز الثقافية وبيوت الشباب.
تقدر نسبة الأمية (١٥ سنة فأكثر) بنحو ٤٤.٥ ٪ ويتركز معظمهم في الريف، أما السكان الحاصلون على مؤهل تعليمى متوسط أو أعلى فلا تزيد نسبتهم عن ١٩.٢ ٪من السكان فوق سن ١٥ سنة، وهى نسبة كبيرة تعكس فشل برامج محو الأمية بالرغم من وجود مخصصات مالية سنوية لهذا القطاع. واستمرت نسب الأمية المرتفعة تلقى بظلالها على نوعية المشكلات التي تواجهها المحافظة وخطط التنمية بها.
وعلى سبيل المثال، قرية دلجا التي تعد من أكثر قرى المحافظة التهاباً وتوتراً سواء من حيث عدد حوادث العنف الطائفي أو من حيث كم وتأثير الاعتداءات، وسيطر عليها أنصار جماعة الإخوان المسلمين عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة عدة أسابيع قبل أن تدخلها قوات الجيش والشرطة، خلال هذه الفترة تم نهب وحرق عشرات المنازل وعدة كنائس بها. تبلغ نسبة الفقراء بدلجا ٥١.٤٧ ٪وهى نسبة كبيرة جدا تعكس غياب الخدمات عن القرية، القرية التي يقترب عدد سكانها من المائة ألف نسمة لا توجد بها أية مستشفيات وبها مدرسة ثانوية وحيدة، ولا وجود لمركز شباب أو بيت للثقافة!.
في ظل هذه المشكلات تبرز دور الجمعيات الدينية مثل أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية، والتي تملأ الفراغ الذي تركته الدولة، فمن جانب تقديم للمواطنين احتياجاتهم الأساسية عن طريق المستوصفات الصحية والحضانات والمدارس والمساعدات الاجتماعية، ومن جانب آخر تغذى فيها رؤية محافظة ومنغلقة للدين ترى الآخر مواطنا من الدرجة العاشرة ليس له حقوق متساوية.
فقد عرفت المنيا العمل الأهلي منذ سنوات طويلة، حيث يقدر عدد الجمعيات الأهلية بنحو ألف جمعية تعمل في مجالات تنمية المجتمع المحلى والرعاية الاجتماعية والاقتصادية للفئات الأضعف والتصدي للمشكلات القومية مثل المشكلة السكانية، والأمية، والبطالة، وحماية البيئة. لكن دورها في ألتضدي للعنف الطائفي غائب ومغُيب من أطراف كثيرة مستفيدة من الوضع الحالي، وينطبق هذا على جامعة المنيا التي لا تقوم بواجبها الأكاديمي أو المجتمعي، فلم تضع هذه المشكلة على خطورتها على أجندتها البحثية كما لم تفتح نقاشاً حول سبل التعامل معها، وكأن دورها منعزل عن المجتمع الذى يحضنها وأنشئت من أجله.
نعود إلى دور أجهزة الدولة مع هذا الملف الشائك، فقد احتكرت الجهات الأمنية مسئولية ملف الأقباط، وتعاملت معه على أنه ملف أمنى فقط، ورث جهاز الأمن الوطني من جهاز أمن الدولة قبل حله عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١ المسئولية، إذ يتم النظر إلى المشكلات كحوادث منفصلة في غياب أى رؤية شاملة للأسباب أو المظاهر أو الحلول، وعادة ما تكون الحلول قاصرة، وقصيرة النظر، لفرض تهدئة سريعة بدون إزالة أسباب الاحتقان. كما عمل المسئولون الأمنيون في الكثير من الأحيان على إغلاق الكنائس أو المباني الدينية، بمجرد وقوع مشكلة على خلفية ترميمها والطلب المباشر من الأقباط عدم الصلاة فيها. وصاحب عدد من الاعتداءات عمليات احتجاز عشوائية لأعداد متساوية أو متقاربة من الطرفين بغض النظر عن دورهم في الاعتداءات للضغط من أجل فرض صلح عرفي كخطوة تالية.
بطبيعة الحال، أى دور اجتماعي لحل التوترات الطائفية مهم ومطلوب، لكن ما يحدث فعليا أن الجلسات العرفية التي تعقد برعاية أجهزة الدولة تحولت لبوابة هروب الجناة من المحاكمة، وبذلك انتهكت الحقوق الدستورية والقانونية للمواطنين من جبر الضرر واللجوء للعدالة، حيث إن الرسالة التي تصل للمواطنين أن الدولة تعاملهم على مستويين، مواطنين vip يمكنهم ارتكاب جرائم تصل للقتل وحرق المنازل وحمل السلاح وترهيب الآخرين بدون أن يتعرضوا للعقاب، وهناك مواطنون آخرون من درجة أدنى يتم الضغط عليهم من اجل التنازل عن حقوقهم من أجل أن يقال أن الوضع هادئ وكله تماما، بغض النظر أن هذه الحلول تساعد على تكرار الاعتداءات، علاوة على أنها ترسخ بذاتها الانقسام المجتمعي.
إذا استمرت مؤسسات الدولة على حالها وطريقتها في التعامل مع الاعتداءات الطائفية، فقد نصحوا غدا أو بعد غدا على كارثة، لذلك على كبار المسئولين أن يصدروا تعليمات واضحة برفض جلسات الصلح العرفي وأن يترك للقانون أن يحكم بين الأطراف، فليس من الطبيعي والمنطقي أن كل الأحداث التي شهدتها المحافظة لا يصدر فيها حكما واحدا! وللأسف برغم تأكيد رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة مؤخراً على تطبيق القانون، إلا أن ما يحدث على الأرض مخالف لذلك، فقد نظمت جلسات عرفية في أحداث قرى نزلة يعقوب ودموا وصفط الخرصة، وأفرج عن عدد كبير من المقبوض عليهم فيها!
تعد الأحداث الأخيرة على خطورتها فرصة مناسبة، لأن تعلن محافظة المنيا أنها وضعت قضية تصحيح العلاقات بين المسلمين والمسيحيين وترسيخ التعايش المشترك على أجندتها، وأنها ستستخدم جزءا من موازنتها في دعم الأنشطة المشتركة، تملك المحافظة من خلال مديريات الثقافة والشباب والتعليم والأوقاف والتضامن الاجتماعى التأثير، بأن تتبنى برامج تخاطب الشباب والأطفال من الجانبين، وأن تنظم لهما أنشطة ورحلات ولقاءات منتظمة، بما يساهم في توثيق العلاقات وغرس قيم القبول بالتنوع واحترام حقوق الآخرين.
أخيراً، الحكومة مطالب بسرعة تقنين الكنائس القائمة بالفعل منذ سنوات، بمعرفة أجهزة الدولة والمواطنين، ولكن لم تحصل على ترخيص رسمي، وأن يسرع مجلس النواب بتلبية الاستحقاق الدستوري بإصدار قانون يتيح بناء الكنائس دون أن يعطى ذريعة لجهة في الدولة أو قطاع من المواطنين في التحكم في بناء الكنائس، قانون يحل المشاكل لا يعيد إنتاجها.
تم نشر هذا المقال بجريدة المصور بتاريخ 27 يوليو 2016