ارتباك الزواج بين المسيحيين في ظل جائحة كورونا: أعراض جانبية لمرض مزمن
أعادت الإجراءات التي اتخذتها الكنائس المصرية مؤخرًا بشأن الزواج بين المسيحيين في ظل جائحة كورونا، الجدل حول سلطة المؤسسة الدينية على المواطنين المسيحيين، وعلاقتها بأحد الحقوق الدستورية، وإطار ممارسة هذه السلطة، وتقاطعها مع أدوار مؤسسات الدولة المنوط بها حماية حقوق المواطنين. كانت الكنيسة الأرثوذكسية قد أصدرت بيانًا نهاية إبريل الماضي عن قرار البابا تواضروس الثاني بالسماح بإقامة صلوات الأكاليل في الكنائس أو البيوت كاستثناء، وذلك بعد توقيع العروسين على إقرار بالالتزام بحضور ستة من المدعوين إلى جانب كاهن واحد وشماس، وبالمثل أصدرت الكنيسة الإنجيلية بيانًا بأن رئيس الطائفة صرح بالسماح مؤقتًا بعقد الأفراح في المنازل على ألا يتجاوز الحضور عددًا محدودًا من أفراد الأسرتين إلى جانب القس راعي الكنيسة.
وبالرغم من طرح قضية الأحوال الشخصية للمسيحيين للنقاش الإعلامي والمجتمعي منذ ما يزيد على عشر سنوات، خصوصًا مع وجود أحكام للقضاء الإداري بالزواج الثاني لمطلقين مسيحيين، وتشكيل مجموعات من أصحاب المصالح تطالب بالحقوق نفسها التي أقرتها تلك الأحكام، فإن هذا النقاش تركز بشكل أساسي على شروط الطلاق وانحلال رابطة الزواج، وسلطة الكنيسة في منح تصاريح الزواج الثاني، وكان يغيب عنه تناول إجراءات الزواج بشكل عام، والتي تمنح سلطة مطلقة لرجال الدين في التحكم في أجساد المسيحيين، وانتهاك حقوق دستورية، من بينها حق الزواج وتكوين الأسرة.
تتضمن القوانين واللوائح المنظمة للأحوال الشخصية للمسيحيين إجراءات الخطبة والزواج والطلاق والمواريث. يتم الزواج وفقًا لنظام ديني، يشترط لانعقاده توافر شروط موضوعية، أهمها أن يكون بين متحدي الدين، ومتحدي الملة (أقباط، روم، لاتين، كلدان، أرمن، موارنة، سريان) والطائفية (أرثوذكس، كاثوليك، بروتستانت)، وأن يتم علنًا وفقًا للطقوس الدينية المعروفة بصلاة الإكليل وإلا كان باطلًا. أي أن القانون المصري لا يعترف عمليًّا بالزواج المدني. أما الطلاق فيتم طبقًا للوائح المنظمة للأحوال الشخصية لكل طائفة وملة مسيحية، ويبلغ عددها 12 لائحة، وفي حال اختلاف الملة أو الطائفة تطبق أحكام الشريعة الإسلامية.
في هذا السياق، فإجراءات الزواج المسيحي تتم من خلال عقدين: الأول هو عقد كنسي يسجل بدفاتر بالكنائس المختلفة، ويثبت إتمام الصلوات الدينية اللازمة للزواج عن طريق رجل دين، بينما يستخدم العقد الثاني (عقد زواج للطوائف متحدي الملة والمذهب) للتوثيق في الشهر العقاري، وهو المعترف به في السجلات الرسمية للدولة، ويقوم به موثق معتمد باعتباره مندوبًا عن وزارة العدل كالمأذون، حيث تختار الوزارة عددًا من القساوسة للقيام بهذه المهمة، ويتقاضون رسومًا نظير ذلك، حيث تنص المادة الثالثة من القانون رقم 68 لسنة 1947 بشأن التوثيق على أن:
"تتولى المكاتب توثيق جميع المحررات، وذلك فيما عدا عقود الزواج وشهادات الطلاق والرجعة والتصادق على ذلك الخاصة بالمصريين المسلمين والمصريين غير المسلمين المتحدي الطائفة والملة. ويتولى توثيق عقود الزواج والطلاق بالنسبة إلى المصريين غير المسلمين والمتحدي الطائفة والملة موثقون منتدبون يعينون بقرار من وزير العدل - ويضع الوزير لائحة تبين شروط تعيين المنتدبين واختصاصاتهم وجميع ما يتعلق بهم، ويستحق على عقود الزواج المذكورة رسم طبقًا للقانون رقم 91 لسنة 1944 المشار إليه".
وبذلك، فالزواج المسيحي يقوم على افتراض أساسي هو أن الكنيسة هى التي تعقد الزواج وليس التوثيق، وهو ما أكدته بعض أحكام محكمة النقض والقضاء الإداري أيضًا بأن الزواج لدى المسيحيين هو شأن ديني، وسر من أسرار الكنيسة، وله قواعد وإجراءات ينظمها ويباشرها الرئيس الديني المختص.
أشكال ممارسة الكنيسة لسلطاتها:
تمارس الكنيسة سلطتها عن طريق تحديد أهلية من يتقدمون للزواج، مستخدمة ما يعرف بـ"شهادة خلو الموانع"، التي صدر بها قرار المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية في 31 يونيو 1986، وهى شهادة يجب على كل من يريد إتمام زواجه أن يحصل عليها من الكنيسة، موقع عليها من رجل دين، ومختومة من الكنيسة، ومعتمدة من الجهة الكنسية الأعلى. تتضمن الشهادة بيانات تفصيلية عن اسم الشخص، وتاريخ العماد (طقس مسيحي يعد أحد الأسرار السبعة للكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، ويعني أن الشخص أصبح تابعًا للمسيحية) ومكانه، والكنيسة التابع لها، وأب الاعتراف، ومعدل الانتظام في الاعتراف، ومعدل الانتظام على التناول، والسفريات إلى الخارج محددًا بها اسم البلد وتاريخ السفر، وبيانات عن الخطوبات والزيحات السابقة إن وجدت.
تظهر هذه السلطة أيضًا في تحديد الأيام التي يسمح فيها بعقد الأكاليل، فعلى سبيل المثال، الكنيسة الأرثوذكسية لا تسمح بعقد الزيجات خلال فترات الصوم وأيام الأربعاء والجمع، والتي يبلغ إجمالها خلال العام الحالي 201 يوم، بما يعني أن 165 يومًا فقط متاح فيها إقامة أكاليل الزواج. بعبارة أخرى، فممارسة حق دستوري أصيل كالزواج، أصبح محصورًا في مواعيد تحددها الكنيسة. ومع انتشار فيروس كورونا، أغلقت الكنائس وتوقفت عن عقد الأكاليل لفترة قبل أن يسمح البابا بعودتها اختياريًّا وفقًا لرؤية كل أسقف، وبالشروط السابق الإشارة إليها، وتفترض هذه الفترة المسموح بها على الأقباط تنظيم ظروف حياتهم وإمكانياتها وفقًا لهذه المدة المحددة بغض النظر عن التزامهم الديني أو صومهم من عدمه.
مسؤولية الدولة الغائبة:
يعد الزواج حقًّا اجتماعيًّا أصيلًا مسؤولة عنه الدولة قبل المؤسسة الدينية، بل إنه يسبق الأخيرة في النشأة، ومن ثم لا يجب أن يرتبط حق الزواج وتكوين أسرة بممارسة الفرد لطقوس دينية معينة أو لسلطة مؤسسة دينية بعينها خاصة أنها تريد ممارسة الصلاحيات الممنوحة لها بعيدًا عن رقابة القضاء.
تنص المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعد جزءًا من التشريع المصري وفقًا للدستور المصري الحالي أن "للرجل والمرأة، متى أدركا سن البلوغ، حق التزوج وتأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين. وهما متساويان في الحقوق لدى التزوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله".
وذهبت المحكمة الدستورية إلى الاتجاه نفسه في أحقية غير المسلمين في توثيق عقود الزواج، وأن الحق في الزواج مكفول لكافة المواطنين بغض النظر عن لونهم أو جنسهم أو لغتهم أو دينهم أو معتقداتهم. وقضت المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 23 لسنة 16 قضائية بجلسة 18 مارس1994 بأن:
"الحق في الزواج من الحقوق التي لا يجوز التمييز في مباشرتها لاعتبار يقوم على الجنس أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو العقيدة أو الرأي السياسي، أو غيره"، وقالت أيضًا إن "جوهر الحق في الزواج ليس إلا اجتماعًا بين رجل وامرأة في إطار علاقة قانونية يلتزمان بها"، وأضافت المحكمة: "الحق في اختيار الزوج يندرج في إطار الحقوق المدنية الأساسية التي لا تمييز فيها بين البشر".
على أرض الواقع، دأبت مؤسسات الدولة على الهروب من مسئوليتها، ورمي الكرة في ملعب الكنائس المختلفة. قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، تجاهلت مؤسسات الدولة مطالب الكنائس المصرية وقطاع كبير من المواطنين الأقباط الدائمة المستمرة بوضع قانون للأحوال الشخصية للمسيحيين، وذلك منذ تقديم الكنائس مجتمعة أول مشروع في العام 1978. وعندما غضبت الكنيسة الأرثوذكسية من أحكام المحكمة الإدارية العليا التي تلزمها بإعطاء تصاريح الزواج الثاني شكلت وزارة العدل لجنة لمراجعة مشروع القانون، لكنه لم يصدر، كان فيما يبدو كرغبة من مؤسسات الدولة في بقاء الوضع كما هو عليه.
وبعد اندلاع ثورة يناير، ومع الحراك الشعبي المصاحب لها في صفوف الأقباط وإقرار دستور2012 ثم دستور 2014، وضعت المادة الثالثة التي تنص على: "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية".
وتساعد هذه الصياغة على بقاء هذا الوضع غير المنصف على حاله، فلا أقرت الدولة الزواج المدني ولا هي وضعت قانونًا عادلًا ومنصفًا ينظم الأحوال الشخصية للمسيحيين، بل إن خطورة النص الدستوري الحالي أنه جعل من الأقباط رهائن للكنيسة ورؤية قياداتها سواء كانت محافظة أو منفتحة. فبمقتضى هذا النص تحول الزواج وتكوين الأسرة من حق لكل مواطن ومواطنة _طبقًا لنص المادة 10 من الدستور نفسه_ تحميه الدولة وتسعى إلى تذليل العقبات التي تحول دون إتمامه، إلى حق مقيد بإرادة الكنيسة، ورؤيتها للتشريعات والنصوص التي تنظم شؤون المسيحيين في الأحوال الشخصية.
ترفض الكنائس أية أشكال بديلة للزواج الديني، باعتبارها ستحد من كامل سلطتها على "رعاياها"، متذرعة بأنها تخالف تعاليم المسيحية، ويعكس مقترح قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين _الذي تعده الكنائس_ الآليات نفسها للسيطرة على المسيحيين، واحتكار كل ما يخص الأحوال الشخصية لهم، بعيدًا عن أصحاب المصلحة الحقيقة.
لهذه الأسباب، تقع مسؤولية وضع حلول جذرية لهذه القضية على عاتق مؤسسات الدولة، فلا أحد يجادل في حماية استقلالية المؤسسة الدينية وعدم إمكانية إجبارها على تبني رؤًى على غير إرادتها بغض النظر عن رأينا في تلك الرؤى، لكن في الوقت نفسه، فالمسيحيون مواطنون مصريون، والدولة مسؤولة عن حماية حقوقهم وضمان تمتعهم بها، ومن هنا تبرز أهمية وجود نظام زواج مدني يتيح للمسيحيين بديلًا عادلًا للزواج بعيدًا عن تعقيدات المؤسسة الدينية وتعنتها.