عن الاخفاء القسري وتقويض حكم القانون في مصر
اُختطفت إسراء الطويل البالغة من العمر 23 عاما ومعها عمرو محمد علي وصهيب سعد من أحد شوارع حي المعادي بالقاهرة في مساء اﻷول من يونيو 2015 ، وخلال ساعات بدأت أسرتها وأصدقاؤها في البحث عنها وقلقهم يتزايد على المصورة الشابة التي تسير بصعوبة بعد شهور طويلة قضتها في كرسي متحرك إثر إصابتها برصاصة في ظهرها أثناء مظاهرة لاحياء ذكرى ثورة 25 يناير. ونفت وزارة الداخلية أن تكون إسراء لديها ولم تعلم أسرتها بمكان احتجازها حتى يوم 17 يونيو بعد أن تعرف عليها شهود عيان في أحد السجون عقب أن حققت معها نيابة أمن الدولة. وفيما بعد تبين أن من اختطفوا إسراء أخذوها الى مقر الأمن الوطني في حي لاظوغلي بالقاهرة بعد أن وضعوا عصابة على عينيها وحققوا معها معصوبة العينين، وفقا لروايتها، ولم يُسمح لها بالاتصال باسرتها أو بمحام ، بل وقالت أن الضباط هددوها في هذه التحقيقات غير القانونية أنهم سيعتقلون بعض أفراد أسرتها بينما تصاعدت من مكان قريب صرخات صديقيها، عمرو وصهيب، الذين بدا أنهما يتعرضان للتعذيب.
ليست قضية إسراء، بغض النظر عن دقة كل التفاصيل المتداولة، استثناء أو حادثة فردية بل، للأسف، هي جزء من ممارسات يبدو أنها استشرت في مصر في العامين الماضيين وان كان تاريخها يعود لعدة عقود تم فيها تطبيع عنف الدولة ليس فقط تجاه من يحمل السلاح ضدها ولكن تجاه كل من يقع قصداً أو بدون قصد في مواجهة مع القانون أو يقرر النظام الحاكم أن يعاقبه لمواقفه السياسية او الدينية او الاجتماعية أو حتى بسبب ميوله الشخصية. ما حدث في مصر في العامين الماضيين مثل تسارع وانتشار واتضاح منهجية هذه الممارسات وارتفاع عدد ضحاياها. وليست حالة إسراء من أسوأ الحالات بل أن زميلها صهيب، وفقا لشقيقه، جرى تعذيبه بالصعق الكهربائي أثناء تعليقه من معصميه لمدة ثلاثة أيام حتى اعترف بأنه عضو في خلية إرهابية.
وتشمل هذه الممارسات وفقا لتقارير عديدة من منظمات حقوق الإنسان ذات المصداقية: التعذيب، والقتل خارج نطاق القانون أحيانا من جراء التعذيب أو في مواجهات للشرطة تحوم الشكوك حول الالتزام بقواعد الاشتباك فيها، والإهمال الطبي في أماكن الاحتجاز مما أدّى للوفاة في حالات عديدة، واختطاف قوات اﻷمن لمواطنين تشك في نشاطهم العام أو السياسي واحتجازهم.
ينسى الناس أحيانا ان الانطباع السائد عن مؤسسة ما يضارع في أثره حقيقة ممارسات هذه المؤسسة. والانطباعات السائدة اﻵن عن أجهزة اﻷمن في مصر تتفاوت ولكنها تتفق عموما على أنها صارت فوق القانون. يعتقد البعض أن هذه اﻷجهزة تنتهك الحقوق المضمونة قانونا ودستورا لمن تحتجزهم بشكل منهجي بغرض مكافحة جماعات العنف المتطرفة، وتفكيك أوصال وشبكات جماعة الأخوان المسلمين الموصومة باﻹرهاب، وحصار كل أشكال المعارضة والتنظيم السلمية والتضييق عليها. ويري فريق أخر أنه من السذاجة إيلاء أي أهمية لهذه الانتهاكات اﻵن لان مصر في حالة حرب على الارهاب وتحتاج الشرطة لاطلاق اليد والعمل بسرعة لاحتواء الموقف. الفريقان وهما سوياً أغلبية المجتمع في حسباني يتفقان ضمنا على أن أجهزة الأمن تنتهك القانون ويختلفان على الدافع، فاﻷول يري أنها تفعل هذا لدوافع سياسية في اﻷغلب بينما يرى الثاني أن القانون لا يجب ان يقف عائقا في سبيل مكافحة اﻹرهاب. ولكن هناك فريق ثالث صغير أغلبيته من متابعي انتهاكات حقوق الانسان في مصر يعتقد انه إضافة الى الضغوط السياسية واﻷمنية الواقعة على رجال الشرطة فان الانتهاكات المنهجية لحقوق المشتبه بهم واللجوء لخطفهم وتعذيبهم وقتلهم او تركهم يموتون بسبب اوضاعهم الصحية التي تتردى اكثر داخل أماكن اﻹحتجاز، كلها ممارسات شائعة في اوساط اﻷجهزة اﻷمنية في مصر منذ عقود حتى في حالة عدم وجود صراع سياسي ومواجهات دموية وعمليات ارهابية. ويرجع هذا الفريق سلوك أجهزة اﻷمن إلى غياب المحاسبة وتحول وظائف أجهزة اﻷمن لحراسة النظام الحاكم وليس تنفيذ القانون الذي يصبح تدريجيا، في نظر اﻷجهزة، مجموعة من العراقيل أو أوراق وشكل يجب استيفائه، وإن كان من الممكن التغاضي عنه تماما في الحالات الاستثنائية وفي قمتها "الحرب على الإرهاب.
غابة من الانتهاكات والاحصائيات
لا يعرف أحد العدد الفعلي للمحبوسين أو الملاحقين قضائيا على ذمة قضايا او المساجين المحكومين في قضايا لها علاقة بالسياسة في مصر منذ منتصف 2013. وفي 2014 شاع الرقم الذي نشره الموقع الالكتروني ويكي ثورة وكان اكثر من 41 الف شخص، ويدعي مدافعون عن حقوق الانسان في مصر ان هذا العدد الان قد وصل الى ستين الف. وتلتزم الحكومة جانب الصمت مكتفية بنفي دوري للاحصائيات المتداولة، ولكن مسؤولين في وزارة الداخلية صرحوا لوسائل اعلام اجنبية في يوليو 2014 ان هناك 22 الف شخص في السجون معظمهم من مؤيدي الرئيس السابق محمد مرسي، ثم قال مساعد لوزير الداخلية في اكتوبر 2015 أن عدد من قبض عليهم منذ بداية العام لعلاقتهم بجماعات ارهابية وصل لقرابة 12 الف شخص. وليست كل هذه ارقام متضاربة بل يمكن ان تكون كلها صحيحة لان مرجعياتها وفترات القياس وجودة المصادر تختلف كما ان تعريف المشمولين بكل احصائية مختلف من واحدة الى الاخرى. ويظل أن إجمالي ارقام المقبوض عليهم الصادرة من وزارة الداخلية وهي نحو 34 الف شخص مرتفعة مقارنة بعهد الرئيس مبارك الذي يُعتقد ان عدد المعتقلين السياسيين في نهاية سنوات حكمه لم يتعدى عشرة الاف شخص. وفي الاغلب يمكن لمكتب النائب العام ووزارة الداخلية اصدار احصائيات تفصيلية موثقة عن عدد الملاحقين قضائيا والمساجين والمحتجزين على ذمة قضايا بعينها مثل المتهمين بالتظاهر او التجمهر او عضوية جماعة محظورة او اعمال عنف سياسية الطابع بما يشمل كل اماكن الاحتجاز القانونية وغير القانونية (سجون، اقسام شرطة، معسكرات امن مركزي، مقار للأمن الوطني، الخ)، ولكن الدولة عموما تحاشت القيام بهذا.
ورصد مركز النديم لتأهيل ضحايا التعذيب 77 حالة وفاة بسبب التعذيب منذ بداية 2015 وحتى نهاية نوفمبر بمعدل سبع حالات شهرياً و 307 حالة إهمال طبي في نفس الفترة أي بمعدل 28 حالة شهريا. وتشمل حالات اﻷهمال الطبي التقاعس عن او منع العلاج عن مصابين بامراض القلب والجلطات وتعفن في الاطراف يعرضها للبتر وترك الكسور دون علاج.
وفي تقرير صدر في اغسطس 2015 عن لجنة عمل الامم المتحدة حول الاختفاء القسري وغير الطوعي رصدت اللجنة أكثر من 70 حالة اختفاء قسري جديدة محتملة في مصر في فترة التقرير (مايو 2014 حتى مايو2015) وخاطبت الحكومة بشأنها. ولاحظت اللجنة، المنشأة منذ عام 1980 بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن هناك ما يبدو لها وكأنه نمط متزايد من الاخفاء القسري قصير الأمد في هذه الفترة. وقدمت اللجنة طلباً رسمياً لزيارة القاهرة منذ يونيو 2011 ولكنها لم تتلق موافقة الحكومة. وعلى الصعيد المحلي تلقى المجلس القومي لحقوق الإنسان وهو مؤسسة حكومية يعين الرئيس كل أعضائها نحو 55 شكوى في ربيع 2015 بشأن اخفاء مواطنين قسرا من جانب أجهزة اﻷمن، ورفع المجلس الشكاوى لمكتب النائب العام ولوزارة الداخلية ، ولم يتلق المجلس ردا. ورصدت حملة الحرية للجدعان 163 حالة اخفاء قسري من أول شهر ابريل وحتى نهاية الأسبوع الاول من شهر يونيو 2015، بينما رصدت المفوضية المصرية للحقوق والحريات 340 حالة - وفقا لروايات بعض المختطفين عقب ظهورهم او روايات أهاليهم – من بداية أغسطس وحتى نهاية نوفمبر 2015 بمعدل 85 حالة شهرياً. وتكشف وزارة الداخلية النقاب بين حين واﻷخر عن واحد أو اكثر من هؤلاء المختفين عندما تقدمهم للنيابة ليبدأ التحقيق الرسمي معهم بينما يظل مصير بعضهم مجهولا حتى بعد مرور قرابة عامين على الخطف من جانب أفراد مسلحين بعضهم ملثمون أحيانا وبعضهم يرتدون الزي الرسمي للشرطة وبعضهم في ملابس مدنية.
وتنبع أهمية تحديد الارقام والتوزيع الجغرافي لحالات الانتهاك وتكرار سلوك رجال الامن والوسائل المستخدمة من انها جميعا تساهم في تحديد ما إذا كانت هذه الحوادث فردية أم منهجية، ولهذا تبعات ليست فقط اعلامية وفيما يتعلق "بسمعة البلاد" بل قد يكون له تبعات في القانون الدولي أيضا. ولننظر الى مسألة الاختفاء القسري في القسم التالي كمثال.
الاختفاء القسري:
تعرف الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري هذه الممارسة بانها "الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون.”
وتشدد الاتفاقية على انه "لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري.” لم تنضم مصر لهذه الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ عام 2010. ولا يشير القانون او الدستور المصري لجريمة الاختفاء القسري صراحة ولكن المادة 54 من الدستور القائم تنص على أنه «يجب أن يبلغ فورا كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويمكن من الاتصال بذويه وبمحاميه فورا، وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة من وقت تقييد حريته. ولا يبدأ التحقيق معه إلا في حضور محاميه.” ويلزم قانون الاجراءات الجنائية السلطات بتقديم اذن قبض واحضار من النيابة للمشتبه به إلا في حالة التلبس بالجرم أو استثناءات تتعلق بجرائم معينة يمكن خلالها التحفظ على المشتبه به لفترة 24 ساعة قبل تقديمه للنيابة. ويتعين على النيابة توجيه اتهامات للمحتجز بناء على أدلة أو إطلاق سراحه (يمد قانون الارهاب الجديد هذه المدة في التهم الواردة فيه لنحو ثمانية أيام ولكن قرار التحفظ يصدر عن النيابة خلال 24 ساعة والقانون نفسه تشوبه شبهة عدم الدستورية). واخيرا فان مصر من الموقعين على العهد الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية الذي يحظر الاحتجاز غير القانوني والتعسفي. وتتشابه تبعات الاختفاء القسري في القانون الدولي مع تبعات انتهاك المادة 54 في الدستور المصري وتشمل انتهاك الحق في الحياة والحرية والسلامة من التعذيب او المعاملة غير الانسانية او المهينة والحق في العرض على الجهة القضائية المختصة والاتصال بذويه والعالم الخارجي والحق في التزام الصمت وفي الاحتجاز في مكان معترف به .
ورغم ان مصر لا تخضع ﻵليات الاتفاقية الدولية الخاصة بالاختفاء القسري ولم تصدق على نظام روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية بعد، إلا ان سلوكها أحيانا يشير الى قلق ما من ان يتعرض مسؤوليها للملاحقة قضائية من محاكم بلدان اخرى تحت غطاء ما يعرف باسم "الاختصاص الكوني" Universal Jurisdiction، حيث حصلت المحاكم الوطنية في اكثر من 160 دولة على حق محاسبة المشتبه في ارتكابهم جرائم "دولية" حتى لو وقعت خارج نطاق اختصاص هذه المحاكم الجغرافي، ومنها التعذيب والجرائم ضد الانسانية (منها الاختفاء القسري). ولكن هذه المحاكم تحتاج لتطبيق عدة معايير ليدخل الانتهاك تحت سلطتها واهمها الا تكون المحاكم الوطنية في بلد المنتهكين قادرة او راغبة على القيام بعملها او تفتقر للقوانين اللازمة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وان تكون الانتهاكات واسعة النطاق او منهجية مما يدخلها تحت مظلة "جرائم ضد الانسانية". وينبغي النظر لهذه المعايير بشىء من التفصيل:
- المنهجية والنطاق: ولا يتم قياس منهجية ونطاق انتهاك ما بمستوى انتظام الانتهاك واتباعه طرق محددة (غير عشوائية) فحسب ولا بالارقام فحسب، بل ايضا بمداه الزمني وتوزيعه الجغرافي ومدي الضرر الواقع على الضحايا.
- القدرة: وتعني في جزء منها توفر القوانين والصلاحيات اللازمة للقضاء للتعامل مع هذه الجرائم، وهي مسألة مهمة حيث لا يعرف القانون المصري الجرائم ضد الانسانية (ومنها الاختفاء القسري) وعقوبتها، كما أن تعريفه للتعذيب قاصر على الحالات التي يجري فيها بغرض انتزاع الاعترافات بما لا يتفق مع التزامات مصر الدولية تحت اتفاقية مناهضة التعذيب التي وقعت عليها. ولا يمنح القانون المصري من يدعي انه وقع عليه تعذيب الحق في تحريك القضية حيث يقتصر هذا على النيابة العامة. وكانت الحكومة تنوي وضع قانون وطني يتعامل مع الجرائم ضد الانسانية، بل يُعتقد ان الحكومة اعدت مسودة له في 2014 نشرتها صحيفة مصرية، ولكن القانون اختفى بعد ذلك. وكانت مصر انذاك تخشى من تعرضها لمساءلة دولية قد يركز جزء منها على عدم وجود قوانين ملائمة لهذه الجرائم وخاصة مع عدم التيقن من التوجهات الدولية بعد ان سقط حوالى 817 قتيلاً برصاص قوات الامن في بضع ساعات في فض اعتصامات انصار الاخوان المسلمين في رابعة العدوية. ولم تكمل الحكومة القانون كما انه لم يحدث ضغط دولي يذكر على مصر عدا بعض بيانات الانتقاد والتعليق المؤقت للمساعدات العسكرية اﻷمريكية.
- الرغبة: تؤكد الحكومة دائما انها تخضع تجاوزات رجال اﻷمن للتحقيق مستشهدة بقضايا مثل سيارة ترحيلات أبو زعبل المنظورة امام القضاء او عدة احكام صدرت في السنوات القليلة الماضية ضد ضباط تورطوا في التعذيب أو القتل خارج نطاق القانون، ولكنها تغفل ان هذه القضايا كلها كانت قضايا رأي عام وجرى تسليط ضوء حاد عليها مثل قضية الضابط قناص العيون الذي كان يصوب على عيون المتظاهرين في 2011 ونال حكما بالسجن ثلاث سنوات، أو قضية سيارة الترحيلات نفسها والتي تحولت من جريمة قتل راح ضحيتها 37 محتجزا اختناقا في سيارة شرطة مزدحمة الى مجرد جنحة، ومقتل المتظاهرة الشابة شيماء الصباغ الذي تلقى الضابط القاتل فيها حكما بالسجن 15 عاما. ولكن لم تشهد مصر أي تحقيق جدي في ادعاءات موثقة بان رجال الامن انتهكوا قواعد فك الاشتباك واستعملوا القوة المفرطة في شهري يوليو واغسطس 2013 مما ادي الى مقتل قرابة الف شخص وفق تقارير موثقة من عديد من المنظمات الحقوقية والارقام المتوفرة من وزارة الصحة.
وتبقى مصر عيناً مفتوحة على هذه الاعتبارات الدولية، ولكن عينها الاخرى مسلطة على احتياجات وطرق عمل ومستوى كفاءة الاجهزة الامنية في مصر، التي صارت شبه مطلقة السراح من اي قيود قانونية في اواخر عهد مبارك واعتادت اعتقال من تشاء من المشتبه فيهم لمدد مفتوحة فعليا بمقتضى قانون الطوارىء. ولكن إلغاء حالة الطوارىء اعاد وزارة الداخلية وتحديدا ضباط الامن الوطني ليخضعوا للسيطرة الاسمية للجهاز القضائي، حيث يتطلب القبض على اي متهم عدا حالات التلبس وجرائم معينة اذنا من النيابة، وفي كل الحالات لا يمكن احتجاز المتهم اكثر من 24 ساعة بعد القبض عليه دون عرضه على النيابة لتوجه له الاتهامات وتقرر حبسه أو اخلاء سبيله. ويعتقد محامون عاملون في مجال حقوق الانسان ان الاخفاء القسري يوفر على اجهزة الامن التعامل مع النيابة، كما انه يقطع صلة المتهم بالعالم الخارجي فلا يقع اي ضغط على اجهزة الامن من جانب محامين او اجهزة اعلام او اهل المشتبه به، ناهيك عن انتقادات المنظمات الدولية والحكومات الغربية (المدفوع أحيانا باعتبارات سياسية)، ويصبح المتهم فريسة اسهل للضغط عليه وانتزاع المعلومات منه طوال فترة اخفائه القسري. ويرى هؤلاء المحامون ان هذا هو السبب في تصاعد ظاهرة الاختفاء القسري او خطف اجهزة الامن للمواطنين واحتجازهم خارج نطاق القانون مع انكار وجودهم لديها.
وباستعمال تقنيات اذلال واهانة وتعذيب ضد محتجز فقد فجأة اتصاله بالعالم الخارجي ويعلم انه لو قٌتل او اختفى للأبد فلا ثمن له كما يكرر له المحققون بين جلسات التعذيب، يسعى المحققون لكسر الشخص والحصول منه على معلومات يعتقدون انها مفيدة لوضع تقاريرهم او استكمال قضاياهم بما فيها شبكة العلاقات بين اعضاء أو متعاطفين مع أي جماعات سياسية أو متطرفة عنيفة. وتستمر اجهزة الامن في تبني فلسفة التعذيب والاكراه هذه رغم أن معظم الدراسات اﻷمنية الحديثة استقرت منذ فترة وخاصة بعد فضائح ما فعله الامريكيون في سجني ابو غريب وجوانتانامو على ان التعذيب يعجز في الاغلب عن توفير معلومات جيدة يمكن التحرك على اساسها، وان المتهم تحت التعذيب يدلي باي اعترافات من اجل إيقاف تعرضه للصعق الكهربائي للأطراف او للاعضاء التناسلية او لتجنب تعليقه ساعات طويلة في اوضاع صعبة أو التقييد بغرض الحرمان من النوم. ويتم الاحتفاظ بالمختطفين فترة ما بعد انتهاء الحصول على المعلومات ثم تقديمهم للنيابة. وهناك حالات استمر اختفاؤها شهورا ولكن متوسط اختفاء الحالات هو بين اسبوعين الى شهر. وتبدو هذه الممارسة متصلة بالتعبير الشائع منذ الستينيات عن تهديد اجهزة الامن لمعارضيهم بارسالهم "وراء الشمس" بما يعني انه لن يمكن لاحد ان يراهم بعد ذلك، حتى لو علم بمكانهم، فمن يقدر على النظر الى الشمس ذاتها ناهيك عما ورائها!
تطبيع العنف:
ورغم تزايد هذه الانتهاكات لم تقل الهجمات الارهابية والعنيفة بل زاد عددها وفقا لتقرير حديث من معهد التحرير لسياسات الشرق الاوسط من 30 هجمة شهريا في عام 2014 الى مائة هجمة شهريا في الأشهر الثمانية الاولى من عام 2015. ويبدو أن النتيجة الفعلية (وربما الغرض الرئيسي) لهذه التجاوزات هي خلق مناخ عام من الخوف يخفي تحته احيانا الرغبة في الانتقام عن طريق العنف، فهناك عشرات الالاف في السجون بعضهم مضى عليه نحو العامين دون محاكمة وهناك حالات وفاة متكررة يُدعى انها بسبب التعذيب او الاهمال الطبي المتعمد، وهناك ترسانة قوانين مطاطة فضفاضة يمكن بمقتضاها فعليا احتجاز عدد كبير للغاية من المواطنين وتقديمهم للمحاكمة بتهم من قبيل الانضمام الى منظمة محظورة أو تهديد السلم العام أو خدش الحياء العام او أزدراء الاديان، وهناك بيانات رسمية تصف قتل المشتبه بهم اثناء مطاردة قوات الامن لهم ومحاولة القبض عليهم بانها "تصفية" ثم لا تُنشر نتائج التحقيقات في عمليات التصفية هذه – هذا إذا كان يُحقق فيها. بل ان القضاء نفسه في توجه غير مسبوق في تاريخ هذه المؤسسة في مصر اصدر قرابة حكم اعدام خلال اقل من عامين، وان كانت محكمة النقض قد قبلت الطعن في معظم من نظرته منها. هذا المناخ القمعي أصبح يشمل المجتمع كله باجهزة اعلامه، ومنابر مساجده وكنائسه، ومؤسساته التعليمية (هذه الاخيرة حرقت كتبا في احتفال عام ونظرت في مقترحات لضمان الأمن الفكري). ويعني هذا كما ترى الدكتورة رباب المهدي ان المجتمع ككل يصبح "شاهدا وبمعنى ما متواطئا مع القمع فتتكون الحيل الدفاعية سواء كان بالمنافحة عن مثل هذه الممارسات او بتبريرها، أو بالانكار أو بالانسحاب وعدم الاهتمام بالشأن العام” مثلما حدث في حالة الارجنتين تحت الحكم العسكري وخاصة مع الجنرال خورخي رافاييل فيدييلا (1976-1981) الذي يعد مسؤولا عن اختفاء ما لا يقل عن سبعة الاف شخص، وتعذيب المعارضين وقتلهم، وجرائم اخرى ضد الانسانية. استعمل فيديلا خطاب المؤامرة (كانت شيوعية في حالته) التي تستهدف الارجنتين لزعزعة امنها وتقويض اقتصادها، وان للمؤامرة عملاء في الداخل يستهدفون ثقافة وحضارة الشعب الارجنتيني بدعم خارجي. ونال فيديلا دعما شعبيا واسعا في ضوء وجود جماعات مسلحة عنيفة تحارب نظامه ولكنه ايضا خلق هيستيريا اعلامية وشحنا شعبيا حول برنامجه. وللرد على الانتقادات الدولية المتزايدة استأجرت حكومته شركة علاقات عامة في الغرب للدفاع عن سمعته وسمعة الارجنتين. وفي النهاية مات فيديلا في السجن منذ عامين محكوما عليه في قضايا قتل خارج نطاق القانون، ورُفعت صورته من القصر الرئاسي ويعتبر حكمه الان غير قانوني.
لكن تطبيع العنف يعني ايضا لجوء القادرين والراغبين من بين ضحايا القمع الى استعمال العنف كرد فعل إنتقامي. ولا اعني هنا الجماعات العنيفة المسلحة التي قررت بداية اللجوء للسلاح مثل تنظيم ولاية سيناء المعتنق لايديولوجية الدولة الاسلامية بل اهالي واقرباء المواطنين غير المسيسين الذين يلقون مصرعهم تعذيبا في اقسام الشرطة مثلما حدث لطلعت شبيب في الاقصر في واخر نوفمبر 2015، حيث هددت عائلته أنها لن تهدأ حتى تاخذ بالثأر وتقتص من قاتليه إذا لم يصدر حكم عادل ضد رجال الشرطة المتهمين بقتله. وبعد التهديد بايام تم تحويل عدة ضباط وامناء شرطة للمحاكمة بتهمة قتل شبيب، وهو الامر الذي لم يقع في حوادث اخرى ادعت فيها عائلات الضحايا انهم ماتوا من جراء التعذيب او الاهمال الطبي في اقسام واماكن احتجاز تمتد بطول وعرض البلاد.
وختاما يبدو ان إهدار القوانين من جانب رعاتها المفترضين– وبالطبع من جانب من يرفضون القوانين برمتها – سيستمر لصالح تطبيع متزايد للعنف كوسيلة رئيسية للضبط المجتمعي يقوم بها من يملك وسائل هذا العنف في غياب اي محاسبة حقيقية لمن يلجأ اليه . وبالتوازي يستمر تقويض ما تبقى من احترام – حتى لو كان ظاهريا فقط - للمرجعيات المشتركة المدعاة سواء كانت المواطنة وحكم القانون او القيم الثقافية اﻷخلاقية العليا التي تتمحور حول مفاهيم العدالة والحق والتعاطف والعار. يعني تطبيع العنف، والاخفاء القسري، والقتل خارج نطاق القانون ان يتخلى قطاع متزايد من الناس تدريجيا وبشكل لا يقبل التراجع عن الشعور بالخجل والعار ثم التعاطف ازاء مصيبة البشر الاخرين، وخاصة من يشتركون معك في الثقافة بل واحيانا تعرفهم شخصيا وكانوا بين اصدقائك او معارفك. تطبيع العنف يعني مع مرور الوقت قبوله كحل سياسي غير خاضع للقوانين او للقيم وعندما تتبني جماعات مسلحة هذا الخيار جريا خلف سراب مجنون يكون الخطر واضح المعالم، ولكن عندما يبدو النظام اقرب فاقرب الى تقبل هذه الفكرة يكف عن ان يكون نظاما.
إن ما يحدث اﻵن في مصر لهو اخطر بكثير من إختزاله في شعارات مثل "حرب على اللإرهاب" تستحق تعليق حقوق الانسان، لان استشراء إنتهاكات حقوق الانسان بهذه الوتيرة والحدة قد يصل بالبلاد الى تقويض ما تبقى من المنظومة القيمية وتسفيه أسس حكم القانون واستمرار النخر في قواعد مؤسسات العدالة. وساعتها سيصبح من الصعب ان لم يكن من المستحيل ايقاف التردي في دوامة اسرع واكثر دموية من العنف الذي سيجري تبريره استنادا الى ايديولوجيات شوفينية او دينية أو حتى للمصلحة الفردية البحتة، ويصبح الهدف الرئيسي هو القضاء المبرم على اﻷخر وحيث أن هذا الاخر ذاته يتبدل كل يوم في غياب اي مرجعيات حاكمة، فقد يأتي اليوم الذي يمكن أن يصبح الكل فيه خائفا من الكل وساعتها نصبح جميعا وراء الشمس.
كاتب المقال خالد منصور-كاتب وصحفي وعضو مجلس أمناء المبادرة المصرية للحقوق الشخصية- تم نشر هذا المقال عبر الملف المصري دورية شهرية عن السياسات والمجتمع في مصر بتاريخ 17 يناير 2016