الفقراء فقط يتحملون رفع الدعم عن الأسمدة
طالعتنا العديد من الصحف مؤخرا بأنباء عن التوجه لرفع أسعار الأسمدة النيتروجينية التى تبيعها وزارة الزراعة للفلاحين، ليصل سعر الطن إلى 2000 جنيه بدلا من 1500 جنيه. ساقت الجهات الحكومية مبررات وحجج متنوعة لتسويغ هذه الزيادة مثل السعى لتوفير الأسمدة فى السوق أو لتعويض زيادة التكلفة بسبب تخفيض دعم الطاقة. وزعم أصحاب الشركات أن الأسعار تسبب خسائر كبيرة لشركاتهم. وآلت وزارة الزراعة جهدها فى خلط الصياغات والمبررات فى البيان الذى نشرته؛ فقد تصدر العنوان جملة: لا زيادة فى الأسعار، لكنها فى النص تقر بأن تحديد الأسعار سيتم فى اجتماع مجلس الوزراء، وبينما تؤكد أن هم الوزارة الأول هو توفير الأسمدة دون زيادة الأعباء على الفلاح، تتحوط بذكر أن تكلفة الإنتاج تتجاوز الأسعار الحالية.
يحجب طرح قضية أسعار الأسمدة بهذا الشكل الذى يفتقد للدقة ولا يعرض الصورة كاملة، الرؤية الموضوعية للاشياء ويعوق فهم المصالح المتضاربة وعلاقتها بالانحيازات السياسية والاختيارات التنموية، وهى الأشياء التى سنحاول فهمها فيما يلى:
صناعة الأسمدة النتروجينية من الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، خصوصا الغاز الطبيعى، إذ تستهلك حوالى 10 % من إجمالى استهلاك الغاز، حوالى 28% من إجمالى الاستهلاك الصناعى (بحسابات عام 2009). ما زالت مصانع الأسمدة تحصل على الغاز، وأيضا على الكهرباء والبترول، أسعار مدعومة. ورغم رفع السعر مؤخرا إلى 4،5 دولار للمليون وحدة بريطانية، فهذا يعادل حوالى ثلث السعر العالمى تقريبا.
لا توجد أزمة حقيقية فى حجم إنتاج الأسمدة النتروجينية فى مصر، فمصر دولة مصدرة للأسمدة، وتنتج حوالى 18 مليون طن سنويا، وبينما تقدر احتياجات الزراعة بحوالى 9 ملايين طن. يتوزع إنتاج السماد بين شركات حكومية أهمهم شركتا أبوقير والدلتا، وبين الشركات الخاصة مثل شركات موبكو وحلوان، والمصرية للأسمدة وغيرهم. تطالب وزارة الزراعة شركات الأسمدة بتوريد حصص، بالسعر المحدد ( 1500 جنيه للطن، الذى كان يقل عن السعر العالمى بحوالى 1000 جنيه العام الماضى). تتحمل الشركتين الحكوميتين، توريد حوالى ثلاثة أرباع الكميات المطلوبة، بينما تورد الشركات الخاصة مجتمعة الربع الباقى.
تحقق شركات الأسمدة أرباحا كبيرة للغاية، بما فى ذلك الشركات الحكومية. فشركة أبوقير مثلا، ورغم أنها تورد أكبر الكميات لوزارة الزراعة، حققت عام 2006 أرباحا صافية حوالى نصف مليار، وصلت أرباحها عام 2013 إلى حوالى مليار ونصف المليار كما توضح بيانات البورصة المصرية. عندما تدعى شركات أن أسعار التوريد الحالية تسبب لها خسائر. يجب أن نميز بين الخسائر الفعلية، عندما يقل سعر التوريد عن تكاليف الإنتاج، وبين ما تحسبه الشركة خسائر افتراضية وهى الأرباح التى كان من الممكن تحصيلها بالبيع بالسعر العالمى أو الحر. وهذا هو ما تحسبه الشركات خسائرها. فنجد مثلا مدير شركة أبوقير يصرح لإحدى الصحف مؤخرا بأن الشركة تتحمل 2 مليار جنيه فاتورة دعم غير مباشرة سنويا، متمثلة فى فروق سعر طن اليوريا بالسوقين العالمية والمحلية. ولا تذكر أى من الشركات حجم الدعم على الطاقة الذى تحصل عليه والذى يصب فى جيوب مستثمريها وكبار الموظفين. ولكننا نعرف أن شركة مثل شركة موبكو مثلا، يقدر الدعم غير المباشر الذى يحصل عليه مصنع واحد من مصانعها الثلاثة بحوالى 700 مليون جنيه سنويا، بحساب سعر الغاز 4،5 دولار للمليون وحدة، دون حساب دعم الكهرباء والبترول.
هناك مشكلة حقيقية تتعلق بتوفير السماد للفلاحين، ولكنها أزمة فى التوزيع وليست فى الإنتاج. وسببها فشل الحكومة فى حماية الفلاحين من استغلال الشركات والسماسرة والمضاربين. تتكرر أزمات السماد دوريا كل موسم زراعى، بسبب ضعف منظومة التوزيع وغياب الرقابة والفساد فى الجمعيات الزراعية ودور بنك التنمية الزراعى حسب قول الخبراء وجمعيات الفلاحين، والذى يلومون أيضا شركات الأسمدة لأنها لا تلتزم بتوريد الكميات المتفق عليها وتسعى لبيع كل إنتاجها بالسعر العالمى رغم حصولها على الطاقة المدعومة.
صدرت قرارات متعددة لتعديل أسعار الغاز الطبيعى لصناعة الأسمدة، كان آخرها قرار رقم 1159 لسنة 2014، والذى يحدد سعر بيع الغاز الطبيعى لصناعة الأسمدة بسعر 4.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية أو طبقا للمعادلة السعرية الواردة فى العقود ورغم أن الزيادة الجديدة نصف دولار فقط، ورغم تواضع هذه النسبة مقارنة بالزيادات بالنسبة للسكان، لا يبدو حتى أن هذه الزيادات يتم تنفيذها. فكثير من العقود المجحفة التى أبرمت لشركات الأسمدة وغيرها تتضمن بند «المعادلة السعرية» الذى يضمن توريد الغاز بأسعار منخفضة. وكمثال يؤكد الحكم الصادر فى الدعوى رقم 48 لسنة 130 ق تحكيم تجارى بتاريخ يونيو 2014 على حق الشركة المصرية للأسمدة الحصول على الغاز بسعر يتراوح بى دولار ودولار ونصف للمليون وحدة! وحتى الشركات المملوكة للمال العام، مثل شركة أبوقير للأسمدة لم تسدد الزيادة فى سعر الغاز كما يوضح تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات عن ميزانية الشركة لعام 2013 ــ رغم أن الشركة حققت أرباحا تفوق 1400 مليون جنيه.
لكن شركات الأسمدة تجد فى الحكومة الحالية خير مدافع عنها وعن هذه الأوضاع؛ فوزارة الصناعة تطالب برفع أسعار الأسمدة بحجة أن الأسعار الحالية تضر بالصناعة ويبشرهم وزير الاستثمار بقرب إلغاء رسوم الصادر والتى تقدر بحوالى 400 جنيه عن كل طن يتم تصديره من الشركات التى لا تورد أسمدة لوزارة الزراعة، ويفوقهم إحسانا رئيس هيئة التنمية الصناعية الذى يصرح بأن الهيئة تدرس إعادة النظر فى قرارات زيادة أسعار الطاقة التى أقرتها الحكومة مؤخرا، وأنه تم بالفعل تخفيض الأسعار المقررة للطاقة عن بعض الصناعات.
أما عن المواطنين والأفراد والسكان فقد دفعوا مباشرة ولحظيا وكاملا الأسعار الأعلى للطاقة، دفعوا ثمنا أكبر فى الطاقة التى يستهلكونها وثمنا أكبر فى السلع والخدمات التى تعتمد عليها. ولكنهم يظلون مطالبين بدفع ثمن أكبر عوضا عن أصحاب صناعة مثل الأسمدة الذين لا يدفعون ومطالبين بدفع ثمن أكبر من أجل الاستمرار فى دعم الطاقة لهم حتى يزيد المستثمرون من مكاسبهم وأرباحهم.
صناعة الأسمدة النتروجينية هى صناعة كثيفة الاستهلاك للطاقة، قليلة التشغيل للعمالة، عالية الربح، تحصل على كميات ضخمة من الطاقة بأسعار مدعومة، تصدر حوالى نصف إنتاجها للخارج، تسعى للتملص من توريد كميات محدودة بأرباح مخفضة للفلاحين، تطالب برفع أسعار الأسمدة، وتتهرب من تحريك الدعم عن الطاقة.
لقد سبق وأعلنت الحكومة أن الهدف من تحريك الدعم على الطاقة هو إعادة توزيع الموارد المتاحة لصالح الفقراء والسيطرة على تسرب الدعم لغير مستحقيه، ولكن قضية أسعار الأسمدة النتروجينية، تكشف استمرار سياسات التنمية التى تستنزف الموارد وتدعم أصحاب الأموال على حساب الفقراء. بل إن استمرار الحكومة فى تدعيم الطاقة لشركات الأسمدة، إهدار ليس له مثيل لموارد الدولة وللتمييز ضد المواطن العادى الفقير. لكن أصحاب هذه الشركات يجدون فى الحكومة الحالية من يدافع عنهم وعن مصالحهم بقوة، أما الفلاحين والفقراء وهم أغلبية الشعب المصرى فلن يجدوا حقا، من يحنو عليهم.
تم نشر المقال بجريد الشروق يوم 24 أكتوبر 2014