توليد الكهرباء من الفحم: ضد الدستور وضد المستقبل
أعلن السيد وزير الكهرباء والطاقة المتجددة الأسبوع الماضى، عن توقيع مذكرة تفاهم بين الشركة القابضة لكهرباء مصر وتحالف شركتين متخصصتين لإنشاء محطة توليد كهرباء تعمل بالفحم بقدرة ما بين 2400 ــ 3000 ميجاوات، تقام فى منطقة القروين بمحافظة البحر الأحمر. ورغم أن السيد وزير الكهرباء كان قد نوه فى مناسبات متفرقة وبشكل مختصر عن دور الفحم فى توليد الكهرباء، تأتى أهمية هذا الإعلان من أنه يتعلق بخطوات فعلية فى هذا الاتجاه الخطير.
كان قرار إدخال الفحم ضمن منظومة الطاقة فى مصر قد اتخذ فى أبريل الماضى، رغم المعارضة الشعبية وحتى الحكومية من جانب وزارتى البيئة والسياحة، واعتبر القرار حينها استجابة لضغوط لوبى صناعة الأسمنت العالمية، التى تحقق مصانعها فى مصر أرباحا خيالية مستفيدة من دعم الطاقة وضعف منظومة البيئة، التى سعت لإدخال الفحم للحفاظ على هذه الأرباح. وقيل وقتها فى تبرير القرار أن الفحم سيستخدم فقط فى صناعة الأسمنت وأن ذلك سيوفر الغاز والمازوت لإنتاج الكهرباء، وليس أن الفحم سيستخدم فى توليد الكهرباء أو فى أى قطاع آخر.
تعتبر المحطة المزمع إنشاؤها كبيرة بل فائقة الحجم مما يعنى استهلاكها لكميات ضخمة من الفحم. فبينما تستخدم محطة متوسطة تنتج 500 ميجاوات حوالى 1.4 مليون طن فحم سنويا، ستستهلك هذه المحطة 7 ــ 8 ملايين طن فحم ينبعث من احتراقهم سنويا حوالى 20 مليون طُن ثانى أكسيد الكربون، 500 ألف طن أكاسيد الكبريت، 50 ألف طن أكاسيد النيتروجين، 2500 طن جسيمات دقيقة، وحوالى 900 طنّ زئبق و1000 طن زرنيخ و500 طن رصاص. وستظل هذه المحطة مصدر تلوث للهواء والتربة والماء حوالى أربعين سنة هو متوسط عمرها الافتراضى.
•••
تبنى السيد الوزير، للأسف، دعاوى مروجى استخدام الفحم حول الفحم النظيف، والتى تعتبر من قبيل الأوهام على حد وصف خبراء البيئة. فرغم التقدم التكنولوجى لا توجد بالفعل تقنيات قادرة على حجب كافة الانبعاثات وعلى رأسها ثانى أكسيد الكربون الذى يولد منه الفحم أضعاف أى وقود آخر، وبالإضافة إلى ذلك فخطر الفحم لا يأتى من الانبعاثات للهواء فقط، ولكن أيضا من المخلفات الصلبة التى تنتج عن الاحتراق وعن تنظيف الفلاتر وتجهيز الفحم، والتى تحمل مواد سامة ترشح منها إلى التربة والمياه لتلوثهما.
أما حديث الالتزام بالمعايير البيئية، فتاريخ هذا الالتزام وتلك المعايير فى مصر يكاد يجعل من النقاش فى إثبات تهافت هذه الحجة مضيعة للوقت. وفوق ذلك فقد أثبتت الدراسات التى أجريت فى الدول المتقدمة، التى تعتمد أحدث التقنيات وأفضل المعايير البيئية، مسئولية الفحم عن التسبب فى مرض ووفاة عشرات الآلاف سنويا، وأن التكلفة الاقتصادية لهذا العبء المرضى جسيمة. تتحمل دول الاتحاد الأوروبى تكلفة تقدر بحوالى 15ــ 42 مليار يورو سنويّا بسبب الجسيمات الدقيقة التى يبثها حرق الفحم، وتقدر دراسة جامعة هارفارد فى الولايات المتحدة التكلفة الكاملة للعبء المرضى من استخراج واستخدام الفحم بحوالى 350 مليار دولار، وقدرت وزارة البيئة المصرية أن تكلفة العبء المرضى من استخدام الفحم فى الأسمنت يتراوح بين 2،8 ــ 3.9 مليار دولار سنويا. فمن يدفع هذا الثمن؟
•••
تعانى مصر بالفعل من أزمة كبيرة فى الطاقة وليس فى الكهرباء فقط. وقد بحت أصوات الخبراء ومراكز الأبحاث المتخصصة، الحكومية منها قبل المستقلة، فى وضع تصورات وحلول تراعى مواردنا والتوجهات العالمية وأهداف التنمية المستدامة، ولا تتضمن بطبيعة الحال الفحم. إذ رغم أنه من الصحيح أن الفحم ما زال يستخدم لتوليد الكهرباء فى كثير من دول العالم، فذلك لأن غالبية هذه الدول اعتمدت عليه تاريخيا، قبل أن يتبين مخاطره على الصحة والمناخ، ولكن من الصحيح أيضا أن العالم يتوجه بقوة وثبات نحو التخلص من الفحم لصالح موارد الطاقة الجديدة والمتجددة حتى فى البلاد التى تمتلك منه فائضا ضخما.
ترتكز آراء الخبراء على ضرورة تبنى استراتيجية عامة لحل أزمة الطاقة فى مصر، تعتمد على رفع كفاءة الطاقة وعلى مواردنا المحلية والطاقة المتجددة والجديدة. نخشى أن تكون خطط رفع الكفاءة والطاقة الجديدة تسير بخطوات السلحفاة، وقد تتراجع، حيث انخفض إنتاج مصر هذا العام من الكهرباء المولدة من الشمس بمقدار 48% عن العام الماضى، بينما تجرى خطط بناء محطات الفحم على قدم وساق. فهناك بالفعل هدر كبير فى الطاقة فى كافة القطاعات بما فى ذلك قطاع الكهرباء نفسه وقد أعلنت وزارة الكهرباء نفسها عن تتبنى مبادرة لرفع كفاءة استخدام الطاقة بمعدل 10%، توفر 18 مليار جنيه، وهى كمية تعادل طاقة المحطة الجديدة، فماذا تحقق من هذا؟ تمتلك مصر إمكانات هائلة لتوليد الكهرباء من الشمس والرياح. حاليا ننتج 1% فقط من الرياح، ونسبة لا تكاد تذكر من الطاقة الشمسية. رغم إعلان الحكومة نيتها إنتاج 20% من الطاقة المتجددة بحلول 2020، أى فى خلال 5 سنوات فكم تحقق من هذه النسبة؟
•••
يجب أن يتم حل أزمة الكهرباء أو أى قطاع آخر، فى إطار استراتيجية لمواجهة أزمة الطاقة وليس بمعزل عنها أو فى تعارض معها. فما هى الاستراتيجية التى تتبناها الحكومة لمواجهة الأزمة؟ وهل ينضوى بناء محطات عملاقة لتوليد الكهرباء باستخدام الفحم ضمنها؟ وهل تتضمن الاستراتيجية حساب خسائر قطاعات السياحة والبيئة والنقل والصحة من الفحم؟ وهل تحترم هذه الاستراتيجية الدستور الذى ينص على التنمية المستدامة وحماية البيئة؟ وهل تخالف هذه الاستراتيجية التوجهات المعلنة محليا وعالميا للمؤسسة الرئاسية بالاعتماد على الطاقة الجديدة؟ وهل تضع فى حسبانها درجة التلوث الذى نعانيه وحالة الطرق والموانئ مثلا؟، وهل تضع فى حسبانها أن التغير المناخى كارثة وشيكة ومصر من أكثر الدول تعرضا لمخاطره؟ وأيضا أن ضريبة الكربون قادمة لا محالة وستزيد من تكلفة الكهرباء؟ وهل تستهدف الاستفادة من ثراء مصر بموارد الطاقة الشمسية والرياح أم تعمد إلى دعم الفحم الذى لا نملكه وإهدار فرصة الاكتفاء الذاتى من الطاقة؟ بل هل تضع فى الحسبان أن الأزمة الحالية فى مواردنا من الغاز والبترول ستنفرج قبل حتى أن تبدأ محطة الفحم فى الإنتاج؟ هل تضع فى حسبانها التقدمات التقنية التى جعلت تكلفة توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة تكاد تعادل الطاقة التقليدية خصوصا بعد دخول الصين سوق الإنتاج؟ وهل تراعى توجهات الاستثمارات العالمية التى تتدفق على مشروعات الطاقة المتجددة؟ وأن الدول النامية أضحت تتفوق على الدول المتقدمة فى معدل التحول للطاقة المتجددة؟
تعود مسئولية الأزمة الحالية فى الطاقة، إلى أخطاء حكومات سابقة عاث فيها الفساد وأساءت إدارة مواردنا، ولا نستطيع أن نعتبر أنه من حسن إدارة الموارد أن نتوسع فى استخدام الفحم الذى لا نملكه حتى فى أراضينا، بينما العالم يهجره ولدينا بدائل متوفرة وينبغى أن ندرك أن شركات الفحم التى تفقد كل يوم أسواقا، تسعى بشتى الوسائل الشرعية وغير الشرعية، لفتح أسواق جديدة لها وتجد غايتها فى بلاد مثلنا تسير عكس الاتجاه الصحيح وتصر على تكرار أخطاء القرن الثامن عشر.
تم نشر هذا المقال على بوابة الشروق الإلكترونية بتاريخ 24 نوفمبر 2014