اتباع الحذر أفضل من وقوع الخطر
أصدر السيد رئيس الوزراء فى الثانى من نوفمبر قرارا بتعديل إجراءات الفحص الإشعاعى للواردات من اليابان (رقم 2229 لسنة 2020) بحيث تقتصر الإجراءات على الفحص الإشعاعى ــ دون التأكيد على الالتزام بالمعايير الدولية ــ فى ميناء الوصول على جميع السلع بما فى ذلك الأسماك والمنتجات البحرية. يخفف القرار الجديد من صرامة إجراءات الفحص الإشعاعى التى كانت سارية (بموجب قرار رقم 552 لعام 2016) على جميع الواردات من اليابان وعلى المنتجات البحرية بوجه خاص، حيث كان القرار السابق يتطلب عند فحص الأسماك والمنتجات البحرية تقديم شهادة موثقة من الحكومة اليابانية توضح مكان وتاريخ إنتاج وميناء شحن المنتجات، وشهادة حكومية موثقة ببيانات التحليل الإشعاعى للمنتجات من المناطق المتأثرة بالإشعاع، بالإضافة إلى الفحص الإشعاعى فى ميناء الوصول طبقا للمعايير الأوروبية.
يثير تخفيف إجراءات الفحص الإشعاعى القلق والمخاوف خصوصا فى هذا التوقيت، كان انفجار مفاعل فوكوشيما فى اليابان فى 11 مارس 2011 قد أدى إلى انبعاث كميات ضخمة من المواد المشعة كما أدى إلى تدفق كميات هائلة من المياه الملوثة بالإشعاع إلى المحيط الباسيفيكى، ووصلت مستويات الإشعاع فى المحيط إلى حدود غير مسبوقة تقدر بملايين أضعاف الكميات المسموح بها قانونيا، على سبيل المثال بلغت مستويات اليود المشع نحو 7.5 مليون ضعف الحد القانونى فى العينات التى تم جمعها بالقرب من موقع التسرب ومن المعلوم أن اليود المشع يسبب سرطان الغدة الدرقية ويبقى مشعا لفترات طويلة جدا.
ولهذا فرضت معظم الدول، ومن بينها مصر، حظرا أو إجراءاتٍ مشددة على المنتجات البحرية والأغذية الواردة من المناطق اليابانية التى تأثرت بالإشعاع، ورغم أن مستويات الإشعاع انخفضت مع الوقت بسبب تيارات المحيط الباسيفيكى التى تخفف من تركيزها فى المناطق المتأثرة، فإن هذا ليس مؤكدا دائما، خصوصا فى حالة المواد المشعة التى تترسب على التربة أو فى قاع المحيط حيث تمتصها العوالق وتدخل فى السلسلة الغذائية، وما زالت توجد نسب مرتفعة من الإشعاع خصوصا فى أسماك المياه العذبة والأسماك التى تسبح فى العمق وفى القشريات، وكان قد تم اكتشاف نسب مرتفعة من السيزيوم المشع فى الأسماك التى يتم صيدها من محافظة فوكوشيما عدة مرات، آخرها عام 2019، وما زالت بعض الدول تفرض قيودا قوية على استيراد بعض أو كل المنتجات من فوكوشيما مثل الصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة.
ما يزيد القلق من قرار السيد رئيس الوزراء بتخفيف إجراءات الفحص الإشعاعى خصوصا على المنتجات البحرية أن هذا التخفيف يتم بينما تتواتر الأنباء عن عزم الحكومة اليابانية التخلص من نحو مليون وربع مليون طن من المياه المشعة فى المحيط الباسيفيكى، فقد تم تداول هذه التقارير على نطاق واسع بين وكالات الأنباء اليابانية الرائدة وعبر وسائل الإعلام الدولية التى تشير إلى أن القرار اتخذته بالفعل الحكومة اليابانية الجديدة وأنها تزمع التنفيذ قريبا، وقد أثارت هذه الأنباء قلقا واعتراضا من العديد من الدول والخبراء المعنيين والمدافعين عن الصحة والبيئة فى أنحاء العالم .
وكانت هذه الكميات الهائلة من المياه الملوثة قد تجمعت بسبب الحاجة إلى تبريد المفاعل المنصهر، حيث يتم يوميا ضخ كميات من المياه لتبريد المفاعل ثم سحبها وتجميعها، ويبلغ حجم هذه المياه حاليا نحو 1.2 مليون طن مخزَنة فى 1000 خزان صلب، وبحسب الحكومة اليابانية فإن إطلاق المياه إلى المحيط هو الحل المناسب وأنه إجراء آمن، خصوصا وأن الشركة مالكة المحطة النووية صرحت بأنها أزالت كل الملوثات السامة والمشعة قبل التخزين فيما عدا التريتيوم المشع (الهيدروجين 3) الذى لا يمكن إزالته وأنه لا يشكل خطرا على الصحة.
ولكن هذه التصريحات ليست دقيقة: فقد تم تسريب بعض وثائق من الشركة عام 2019 أظهرت أن كميات متفاوتة من 62 نويدا مشعا لم تتم إزالتها من الماء بما فى ذلك مواد شديدة الخطر مثل السترونتيوم واليود والسيزيوم والكوبالت، وقد اعترفت الشركة لاحقا بأن مستويات السترونتيوم 90 كانت أكثر من 90 ضعفا فوق المستويات المسموح بها قانونيا فى نحو 65 ألف طن من المياه التى تم معالجتها بالفعل فى الموقع. كما كانت دراسة أجرتها صحيفة إقليمية يابانية عام 2017 قد أثبتت أن مستويات اليود 129 تجاوزت المستويات المقبولة فى 45 من أصل 84 عينة تم تحليلها، كما تقول منظمة السلام الأخضر إن المياه الملوثة تحتوى على «مستويات خطرة من الكربون 14» وهى مادة مشعة تقول إن لديها القدرة على إتلاف الحمض النووى البشرى. كما تشير عديد من الدراسات إلى أن التريتيوم ليس آمنا على الصحة ويمكن أن ينتج عنه تأثيرات إشعاعية بما فى ذلك السرطان والآثار الجينية وخصوصا التريتيوم الذى يتم ابتلاعه مع الطعام حيث يمكن أن يبقى التريتيوم المرتبط عضويا فى الجسم لمدة 10 سنوات أو أكثر.
تعارض كوريا والصين جيران اليابان هذه الخطط بشدة، خصوصا وأن الشركة والحكومة اليابانية لا تسمحان بإجراء اختبارات من جهات مستقلة ومحايدة، كما أعرب كل من خبراء حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة المعنيين بالنفايات الخطرة، والحق فى الغذاء، والحق فى التجمع، وحقوق السكان الأصليين عن القلق من هذا القرار ومن التسرع فى تنفيذه وطالبوا بضرورة إجراء مشاورات مع الدول والمجتمعات المتضررة وضرورة استشارة الخبراء الدوليين قبل تبنى هذا الحل.
التلوث الإشعاعى ليس كغيره من الملوثات، فبعض المواد المشعة تبقى كذلك لسنوات طويلة جدا ولها عواقب خطرة وطويلة الأمد على صحة الإنسان، وفى هذا السياق فإن اتباع الحذر أفضل من وقوع الخطر، ومن الأحوط عدم التسرع فى تخفيف إجراءات رصد الإشعاع على المنتجات البحرية الواردة من اليابان، وكذلك يجب متابعة الأنباء حول إطلاق المياه المشعة إلى المحيط واتخاذ الإجراءات المناسبة حينئذ بما فى ذلك حظر الأغذية الواردة من المناطق المتأثرة.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ 24 نوفمبر 2020