لماذا ترفض الحكومة المصرية زيارات المراقبين المستقلين للسجون؟**
شاركت مجموعة من أعضاء المنظمات غير الحكومية والحركات المستقلة في "المنتدى الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا" لرصد ومراقبة أماكن الاحتجاز ومنع التعذيب، الذي انعقد في بيروت في نهاية شهر إبريل الماضي، ويتيح المنتدى المجال أمام تجمع أشخاص من المنطقة ممن يمثلون المنظمات غير الحكومية والحركات وكذلك مكاتب أمناء المظالم (الشكاوى) الوطنية لتبادل الخبرات وأفضل الممارسات بشأن مراقبة السجون وغيرها من أماكن الاحتجاز، وذلك بهدف تحسين أوضاع أماكن الاحتجاز في هذه البلدان ومنع التعذيب والأشكال الأخرى من سوء المعاملة فيها.
ومن بين أنشطة هذا المنتدى؛ القيام بزيارات للسجون في المنطقة. وتمكن أعضاء المنتدى منذ إنشائه في يونيو 2012 من زيارة سجون في الأردن ولبنان والمغرب وتونس. وتمكنت المجموعة كذلك من النفاذ إلى السجون التي زارتها، ومن إجراء مقابلات مع المسجونين الذين وقع اختيار المشاركين في الوفد عليهم ـ مع حفظ سرية هذه المقابلات ـ ومن الاطلاع على سجلات السجون ومن مقابلة مأمور السجن وأطبائه وغيرهم من العاملين بالسجن؛ لطرح الأسئلة والتعبير عن بواعث القلق، وتم ذلك كله بدون قيود على هذه الزيارات إلى حد كبير. وبالنظر إلى هذه الخطوات؛ فإنه غني عن القول إن السجون المصرية ليس من المتوقع أن تكون على جدول أعمال المنتدى في القريب العاجل.
فالحكومات المصرية المتعاقبة تصر على مقاومة تنظيم مراقبين محايدين ومستقلين زيارات روتينية غير معلنة للسجون وغيرها من أماكن الاحتجاز. ويمكننا سرد الأسباب الواضحة التي ينبغي أن تدفع الحكومة المصرية إلى تغيير هذه السياسة، ومرجعها النصوص التي وردت في الدستور المصري الجديد والتي أقرتها مصر بهدف صون الكرامة الإنسانية ومنع التعذيب، وكذلك التزامات مصر بموجب قانون حقوق الإنسان الدولي. ولكن من الأجدر أن نحاول خلخلة الذرائع لإصرار الحكومة المصرية على رفض دخول المراقبين من منظور الدولة، في محاولة منا للكشف عن منطقها المعوجّ.
فمن بين المبررات التي تتذرع بها الحكومة لمواصلة رفض دخول المراقبين إلى السجون؛ نص القانون المصري باقتصار حق زيارة أماكن الاحتجاز على وكلاء النيابة ـ وهي الحجة التي طالما قدمتها الحكومة المصرية بل وأدرجتها في مناقشتها سنة 2010 لسجل حقوق الإنسان الخاص بها، في إطار الاستعراض الدوري الشامل الذي يجريه مجلس حقوق الإنسان. ولكن تجاهل الواقع الذي يشهد على ندرة ممارسة وكلاء النيابة هذا الحق؛ يجعل هذا الرأي أقرب إلى الحجة الواهية منه إلى سبب فعلي، ما يدل على غياب الإرادة السياسية في تفعيل المراقبة على الأوضاع في السجون. ويمكن الإشارة إلى أنه حدثت استثناءات في هذا الشأن، فعلى سبيل المثال؛ زارت السيدة كاثرين آشتون مسئولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي الرئيس محمد مرسي في محبسه في يوليو 2013. وأجرى المجلس القومي لحقوق الإنسان عددًا من الزيارات المعلنة للسجون في الشهور الأخيرة الماضية.
أخبرنا زملاؤنا من لبنان كذلك؛ أن لديهم قيدًا تشريعيًا مماثلًا يقصر الزيارات على وكلاء النيابة، ولكن لم يمنع هذا النص الحكومة من أن تسمح لعدد من المنظمات غير الحكومية بالزيارة، بل حتى بتأسيس مكاتب لها داخل السجون. وتتحايل الحكومة اللبنانية وغيرها في المنطقة على غياب صكوك قانونية تنص صراحة على الرقابة من هيئات مستقلة بالدخول في مذكرات تفاهم مع الهيئات الراغبة في الزيارة.
وقد يكون من بين التفسيرات الأخرى وراء غلق الحكومة أبواب السجون تمامًا أمام زيارات المنظمات المستقلة؛ رفضها الخضوع للمراقبة لأن لديها ما تخفيه. ولكن هذا الرأي لا يفسر أسباب رفض الحكومة المصرية منح اللجنة الدولية للصليب الأحمر الحق في الزيارة، على الرغم من النهج السري الذي تتبعه اللجنة في عملها، فاللجنة ترفع تقاريرها مباشرة إلى الحكومة بدلًا من نشرها علنًا.
وقد سمحت حكومات أخرى في المنطقة ـ يصعب وصف سجل حقوق الإنسان فيها بأنه سجل ناصع البياض ـ بشكل من أشكال المراقبة المستقلة، ومن بين هذه الحكومات ليبيا والأردن والعراق ولبنان واليمن والمغرب وفلسطين. ولا تمتثل غالبية هذه السجون وغيرها من أماكن الاحتجاز في هذه البلدان التي زارها ممثلو المنتدى إلى المعايير الدولية لمعاملة السجناء. فعلى سبيل المثال؛ اتسمت سجون الرجال في لبنان التي زرناها في نهاية شهر إبريل بالزحام الشديد وعدم مراعاة الشروط الصحية ـ بل كادت أن تكون الظروف المعيشية السيئة في بعض منها تعذيبًا في حد ذاته أو ضربًا من ضروب المعاملة السيئة. ومن بين بواعث القلق الأخرى: الخدمات الصحية دون المستوى وغياب الأنشطة الترفيهية أو العمل الهادف، وفرض أشكال قاسية من العقاب من بينها الحبس الانفرادي لفترات طويلة في أماكن غير صالحة للآدميين.
وبشكل عام؛ يتفشى التمييز حتى فيما بين السجناء وبعضهم على أساس الحالة الاقتصادية والجنسية التي ينتمون إليها. فمن كان منهم ميسور الحال؛ استطاع أن يؤمن معاملة وظروفًا وامتيازات أفضل، فيصل إلى حد إنفاق آلاف الدولارات على فرش غرفة خاصة، في حين كان السجناء الأضعف هم الأشد معاناة، ففي نهاية المطاف ما السجون إلا صورة مصغرة عن المجتمع الذي توجد فيه.
تبدو هذه الانتهاكات كلها شبيهة لتلك الشائعة في السجون المصرية. فلماذا إذن ترغب الحكومة اللبنانية وحكومات أخرى في المنطقة في فتح سجونها أمام المراقبين المستقلين.. بينما ترفض نظيرتها المصرية؟ هل يعني هذا أن تلك الحكومات لا تكترث لإخفاء انتهاكات حقوق الإنسان التي تتم روتينيًا داخل سجونها؟
قد يقول البعض إن السماح بالرقابة المنتظمة للسجون يحسن بالفعل من صورة الحكومة. ففي حين ينطلق صدى ادعاءات التعذيب والصور الأخرى من سوء المعاملة في السجون المصرية على المستويين المحلي والدولي، فمن الممكن أن يؤدي السماح للمراقبين المستقلين بالدخول إلى التخفيف من حدة هذا النقد، وخصوصًا في وقت يظهر فيه اسم مصر في عناوين الصحف الدولية، فيما يتناول قمع المعارضة وسجن الصحفيين وحظر التظاهر السلمي وإصدار أحكام بالإعدام بالجملة في محاكمات هزلية. وقد يكون لإعراب الوزارة عن التزامها الذاتي باحترام حقوق الإنسان للسجناء ـ كما يوضح موقع مصلحة السجون التابعة لوزارة الداخلية ـ أكثر فائدة لها، بل وقد يَجُب أي كلفة تتكبدها الحكومة من جراء تقارير تدينها عقب زيارة الهيئات المستقلة للسجون. فحتى من دون النفاذ إلى داخل السجن، لن يكون من الصعب الحصول على معلومات عامة عن الحالة المتردية لظروف الاحتجاز في السجون المصرية، وهي المعلومات المتاحة من خلال المنظمات غير الحكومية أو المحتجزين السابقين أو المحامين أو أسر المسجونين.
أوضحت الزيارات القصيرة للسجون في لبنان كذلك؛ مدى استفادة الحكومة من وجود منظمات مستقلة وخيرية داخل أماكن الاحتجاز. ففي لبنان تملؤ مثل هذه الكيانات الفجوات التي لا تسدها الدولة بأشكال عدة، فأسست بعض المنظمات غير الحكومية مكاتب دائمة داخل أماكن الاحتجاز. وتوفر من خلالها الاحتياجات والخدمات الأساسية التي تتراوح ما بين مستلزمات النظافة الشخصية وحتى الرعاية النفسية وإعادة التأهيل. ومن وجهة نظر الحكومة يزيح هذا عن كاهلها بعض التكاليف بل وعبء إدارة السجن. ومن دون الدخول في نقاش بشأن ضرورة أن تحيل الحكومة المصرية مسئوليتها عن توفير الخدمات الأساسية للأشخاص الذين تسجنهم، هناك منافع ممكنة قد تحققها الحكومة إن هي وسعت من فرص النفاذ إلى السجون.
قد يرجع الرفض المستمر للحكومة المصرية للسماح بالرقابة المستقلة على السجون؛ إلى عدم الثقة في المنظمات غير الحكومية المصحوب بغياب ضغط فعلي على الحكومة لتغيير سياساتها. فلم يكن تحسين الظروف المعيشية للسجناء ولا معاملتهم معاملة جيدة من أولويات نظام المؤسسات العقابية في مصر، وهو النظام الذي يرى السجن بوصفه عقابًا فقط، بدلًا من اعتباره فرصة لإعادة تأهيل المسجون ودمجه لاحقًا في المجتمع. ولحسن الحظ لا تبدو الدولة على رأي واحد، ومهمتنا في المجتمع المدني أن نحدد الأشخاص داخل الحكومة، الذين لديهم الرغبة في بدء نقاش هادف بشأن نفاذ المجموعات المستقلة إلى السجون، والضغط لكي يصبح هذه المراقبة حقيقة واقعة.
غني عن القول؛ أنه لا يمكن اعتبار زيارة السجون وحدها عصا موسى السحرية لمنع التعذيب، بل هي خطوة أولى لا بد أن تكون مصحوبة بتغيير في التشريع ليحتوي على تعريف سليم للتعذيب، وبوضع نهاية لإفلات المعتدين من العقاب، وبتغيير شامل لمنظومة العدالة الجنائية المصرية التي تعاني من خلل كبير.
في ختام زيارتنا لأحد السجون اللبنانية في نهاية شهر إبريل سألتنا سجينة مصرية: "هل تزورون السجون في مصر كذلك؟ وما هي الأوضاع هناك مقارنة بهنا؟" يومًا ما نأمل في الرد بالإيجاب على هذا السؤال. ولكن في الوقت الحالي لا يمكننا تقديم تقييم مناسب، ولا أن نقارن الأوضاع من دون أن تتاح أمامنا فرصة الدخول التي أتيحت لنا في لبنان بالدخول إلى عنابر النوم والمستوصف وزنازين الحبس الانفرادي والمطبخ ودورات المياه، وأيضًا الحديث إلى السجناء على انفراد. حتى الآن لبنان في وضع أفضل بكثير وإن كان لمجرد أنها سمحت لنا بالزيارة.
نشر هذا المقال بالتعاون مع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وكتب باسم المشاركين المصريين في المنتدى الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا لرصد ومراقبة أماكن الاحتجاز ومنع التعذيب المنعقد اجتماعه في بيروت في الفترة من 23 إلى 27 إبريل 2014.
**تم النشر بمدي مصر بتاريخ 22 مايو 2014