الساحل الشمالي.. دليلك إلى التنمية العرجاء
يجد المسافر إلى الساحل الشمالي أول خط للفصل الطبقي حالما يشرع في الطريق. الطريق الواسع الحر الحديث المليء بالخدمات الذي يربط العاصمة بأحد أهم مصايف علية القوم. لن يعلم المسافر الذي يجري على سرعة ١٢٠ كم في الساعة بفضل الطريق الجديدة، أنه حين يقضي حاجته في أحد الاستراحات الراقية على جانبي الطريق، فإنه يصب في تلويث ترعة الصرف الصحي المكشوفة في مدينة صغيرة اسمها وادي النطرون، يقطنها عشرات الآلاف من المصريين، يشكون من ارتفاع نسب أمراض الإسهال القاتل للأطفال، والسرطان والكلى، بسبب عدم اتصالها بشبكة الصرف الصحي. كما لن يعلم المسافر أن شبابها المختفين خلف لوحات الإعلانات الملونة الضخمة يعانون من الفقر ونقص الخدمات، وينتمي الكثير منهم إلى الجماعات السلفية.
ما يلبث الطريق الجديد أن يأخذ المصطاف إلى الطريق الساحلي الجديد، أو إلى طريق الضبعة الجديد، اثنان من الإنجازات الحديثة التي تصب في مصلحة مئات الآلاف ممن صاروا يلتحقون صيفا بالزحف المقدس نحو الغرب، غرب الساحل الشمالي، وهو زحف قديم.
فكلما ازدحمت بقعة بالدهماء من المصريين، زحف الأغنياء غربا التماسا للخلوة وحفاظا على النقاء الطبقي. وتتبعهم الحكومة.
وهكذا في حين اتخذ الملك فاروق المنتزه في الإسكندرية مقرا صيفيا، اختار الرئيس مبارك برج العرب، ٤٠ كم غرب الاسكندرية، ثم اختار الرئيس السيسي مدينة العلمين الجديدة، والتي تبعد حوالي ١٠٠ كم غرب الاسكندرية. والتي يأتي الحديث عنها لاحقا. ومن أجل ذلك تنفق مئات الملايين من الجنيهات. ففي العام المالي الحالي، توجه الحكومة استثمارات قدرها ٣٩٣ مليون جنيه لمدينة العلمين، و١٩١ مليون لتنمية طرق الساحل الشمالي الغربي.
ويضع الطريق الساحلي خطا طبقيا فاصلا جديدا. هو خط تجد البدو المقيمين في جنوبه. وعلى شماله، تقع المجتمعات الصيفية المسورة المحاذية للشاطئ المستحوذة حصريا عليه. لم يسبق أن شهدت مصر هذا الاستحواذ التام على الشواطئ العامة من قبل أقلية من الوافدين المؤقتين. هي ظاهرة غير موجودة في أي بلد ديمقراطي، حيث الشواطئ الخاصة هي الاستثناء النادر. ولم تكن موجودة في مصر بهذا القدر. انظر كيف نمت في بداية عهدها منتجعات خليج نعمة في شرم الشيخ على شاطئ البحر، دون أن تستولي على الشواطئ ذاتها، فبقيت متاحة لأي مواطن، على عكس النمط الأحدث في خلجان شرم الشيخ الجديدة، حيث يستولي صاحب الفندق على الشاطئ لصالح نزلاء الفندق.
حتى الآن، أنفقت الحكومة خلال العقود الثلاثة الماضية حوالي ٥٠ مليار دولار، وفقا لبيانات محافظة مطروح المنشورة بجريدة الأهرام، على منتجعات وبنية أساسية بنتها من أموال الشعب. ولكن يبقى الساحل الشمالي بطرقه المحدثة ومنتجعاته المسورة مأهولا –نسبيا- خلال شهرين فقط من الصيف (لا تزيد نسب الإشغال عن ٤٠ إلى ٥٠٪ في أعلى نقاط الإشغال، وتقل نسب الإشغال في شرقه كلما امتد الزحف الطبقي المقدس غربا، من ملاحظات شخصية وقدر من التقصي). أما باقي العام، فتعود البقعة العمرانية النحيلة على يمين الطريق جرداء من كل حياة. أكثر ما يؤلم هو أنها مزودة بشبكات للصرف الصحي، محروم منها ٩٠٪ من المصريين، بمن فيهم القاطنين الدائمين –السكان الأصليين- على جنوب الطريق.
إذا كنت قد مررت في الطريق الساحلي، فلعلك شاهدت البوابة السابعة لمارينا العلمين، المنتجع المسور الذي يمتد ٩٤ كيلومترا، والذي بنته الحكومة لأغنياء أغنياء المصطافين. بالأمس القريب هجر الأغنياء نصفه الشرقي، إلى نصفه الغربي، حيث البوابات خمسة إلى سبعة. ثم تواصل الزحف غربا بعيدا عن مارينا بأسرها. ومن المزمع أن تقام مدينة العلمين الجديدة بعد البوابة السابعة.
ولهذا تأتي أهمية مدينة العملين الحديثة كفرصة لتكسر هذا النمط من التنمية المعوج. ولكن..
الجانب المضيء للعلمين
تأتي مدينة العملين كأول مدينة على الساحل الشمالي، تستهدف سكانا مقيمين. وتتحدث الحكومة -وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) عن مدينة العملين الحديثة كإحدى التجارب العالمية النموذجية لمدينة صديقة للبيئة مستدامة تنميتها. وهي مدينة سوف تعتمد على الطاقة الشمسية، بحسب تصريحات محافظ مطروح.
ولأول مرة، تربط المدينة المزمع إقامتها بين شمال الطريق وجنوبه، على عكس مدينة الحمام مثلا، أو برج العرب، واللتان تقعان على الجانب المظلوم من الطريق، المحروم من بنية تحتية حديثة.
كما أنها تتيح ١٤ كيلومترا من الشواطئ العامة للمصريين (من إجمالي ٢٩٠ كيلومتر من الإسكندرية حتى مطروح، أي أقل من خمسة في المائة)، وهي أيضا مساحة على صغرها النسبي، إلا أنها مساحة تعادل شط الإسكندرية، وفقا لوزير الإسكان. كما أنها مساحة غير مسبوقة لشاطئ عام في العهود الحديثة، شيء يشبه الانتصار للعدالة الاجتماعية.
ولهذا الغرض سوف يلتف حولها الطريق الساحلي الجديد كي يذيب الفصل الطبقي الذي أحدثه نمط العمران المشوه الذي يحيط بالمدينة-الأمل من الشرق ومن الغرب.
فلماذا تصعب رؤية هذا الجانب المضيء من الصورة أقرب إلى الأمل منها إلى السراب؟
تكشف النظرة الأولى في أصول ومبادئ التنمية العمرانية ما يُنتهك، بحيث يصعب تصور أن تنجح هذه المدينة المأمولة في تحدي النمط العمراني المعادي للتنمية الاقتصادية وللعدالة الاجتماعية، السائد حاليا في مصر عموما وفي الساحل بشكل مكثف.
أولا: لكي نعرف حجم التحدي، تهدف خطة الحكومة إلى بناء مدينة مليونية في العلمين (يقطن العلمين حاليا ٢٥ ألف نسمة، والحمام ٦٥ ألف، والضبعة حوالي ٤٠ ألف). في حين تشير التجارب الدولية "أن أقل من ١٠٪ فقط من المدن الكبيرة التي تنشئها الحكومات تنجح"، وذلك طبقا لتصريح أحد مسؤولي برنامج الموئل بمناسبة الإعلان عن التقييم الاقتصادي الذي قام به برنامج الأمم المتحدة للموئل لمدينة العلمين الحديثة. لهذا، يجدر التساؤل لماذا نسير عكس الاتجاه وكأننا لا نتوخى النجاح؟ إذ تجمع التجارب العالمية على أن إقامة وتطوير التجمعات العمرانية الصغيرة وفقا لمخططات استراتيجية مبنية على نقطة تميز اقتصادية لكل مدينة هو النموذج الأوفر مالا والأنجح في جذب السكان. كأن تقام في مدينة الحمام مصانع لاستغلال المحاجر المحيطة، ولتصنيع وتغليف التمر والزيت والتين، ومراكز تسويقية للمنتجات المحلية، وكذلك أحياء سكنية مخططة في تلك المدن الصغيرة الثلاثة، بدلا من الزحف العشوائي الحالي للسكن.
ثانيا: لم تلتفت مشروعات التنمية العمرانية في مصر إلى عدد من عوامل النجاح المتوخاة حول العالم، وفقا لما يشير إليه تقرير قام به نفس البرنامج لتقييم عدد من مشروعات التنمية العمرانية التي ساعدت فيها الأمم المتحدة الحكومة المصرية. لعل إتاحة المعلومات هي أولى تلك العوامل للنجاح.
في حالة العلمين، لا توجد على أي من مواقع الحكومة المصرية أي دراسات متاحة عن المدينة الجديدة. لا شيء يرضي أصحاب التخصص في العمران، ولا شيء يرضي أصحاب المصلحة من الأهالي المقيمين في العلمين القديمة، ويطمئنهم على مصيرهم في خضم حركة البناء السريعة التي تداهم حياتهم التي كانت رتيبة حتى عام مضى. وكذلك التقييم الاقتصادي الذي قامت به الحكومة مع برنامج الموئل لمشروع مدينة العلمين الجديدة هو أيضا غير متاح.
يلاحظ تقرير تقييم المشروعات العمرانية، الصادر العام الماضي، أنه "خلال التنفيذ يوجد قلق مؤكد من غياب اتباع أهم حقوق الإنسان (في التنمية العمرانية، والذي يقوم على ثلاثة مبادئ): الحق في الأرض، الحق في السكن الملائم والحق في المشاركة".
ولا توجد مؤشرات كافية على انقضاء هذا النمط السائد للتنمية العمرانية من أعلى في العلمين الجديدة. فمن غير المعلوم مصير السكان الأصليين والذين أقاموا بيوتهم وحولها أشغالهم في الصحراء، قبل أن تلتفت الحكومة إلى تلك البقعة من أرض مصر، لتعرض للخطر حقهم في الأرض، دون أن نسمع عن تفاوض وتسويات عادلة.
كما يتضح من تصريح وزير الإسكان أن الحكومة ستعمل على توفير إسكان متميز وفاخر ومتوسط. وهو ما ليس بالضرورة ملائم للشرائح السكانية المنشود انتقالها للعيش في هذه المدينة. فالنمط الأنسب لسكنى الشباب حول العالم هو الإيجار، وليس التملك. أما العائلات من أهل البدو، فتفضل نمط السكن العائلي، عوضا عن العمارات الشاهقة التي تنوي الحكومة بناءها، لتنتهك بذلك الحق في السكن.
وقد يتحقق الأسوأ من كل ما سبق ربما لغياب الحق الثالث والأهم، وهو الحق في المشاركة.
هل نستمع إلى القادة المحليين الطبيعيين؟
القائد المحلي الطبيعي هو ذلك الشخص الذي يبرز في تجمع صغير، لقدراته القيادية ونظرته النقدية، وقدرته على المواجهة مع الوضع السائد لتغييره إلى الأفضل بما يؤدي إلى رفع رفاه السكان أو العاملين بهذا المجتمع. ولكن، في إطار غياب مجالس محلية منتخبة، وانتقاد بل وسد السبل أمام أي صوت يطالب بأي تغيير، من الأرجح أن يغيب هذا الصوت عن مائدة التخطيط الاستراتيجي الخاص بمدينة العلمين الجديدة.
وهذا ليس بالصوت الوحيد الغائب. يشير تقرير تقييم المشروعات العمرانية أن هناك غياب لأصوات المجموعات المهمشة، وهو ما يعد تحديا أمام نجاح المشروعات. الفقراء، المعاقون، كبار السن، الشباب، النساء والأطفال. تلك هي المجموعات المهمشة التي عددها التقرير. أي الجميع ما عدا المسؤولون والأغنياء. "تغيب تلك الأصوات عن عملية صنع السياسة العامة وعملية التشريع. في حين تحتاج العمليات التشاركية (...) خاصة في حالة التخطيط والتنمية العمرانية إلى كل الأصوات، أنها تؤثر على حياة الجميع. فإذا لم يكن هذا متاحا، فيمكن الاستعاضة عنه بمنظمات المجتمع المدني وبعمليات التقييم العلمي للآثار الاجتماعية والاقتصادية، مثل الأثر على الفقر وعلى النساء".
وهكذا، في حين تبدأ النية خيرا بجمع شمل شمال الساحل بجنوبه في مجتمع احتوائي، وبخلق مجتمع جاذب للعمالة، تعمل قلة الشفافية وقلة المشاركة على هدم تلك الأهداف لصالح أصحاب النفوذ الأقوى –أهل القاهرة الذين دفعوا الملايين في وحدات صيفية أرادوها خلوة بعيدة عن الدهماء، وكبار المشايخ من أغنياء القبائل، الذين يفضلون الوضع القائم الذي يحفظ لهم تجاراتهم ومصالحهم وموقعهم المتميز في مجتمعاتهم الأبوية. وأخيرا، النافذين ممن أصبحوا أصحاب المصالح الجديدة الناشئة عن عملية الإعمار ذاتها. محاصرة مدينة العلمين الجديدة كمثل مدينة العلمين القديمة، قد تتحول إلى رمز لمعركة جديدة. معركة وإن بدت -على عكس الأولى- محلية إلا أنها تحمل خصائص حروب العولمة في القرن الواحد والعشرين.
تم نشر هذا المقال عبر بوابة الشروق الإلكترونية يوم 18 أغسطس 2017