سلفني ثلاثة دولار
يستيقظ الرجل يوما بعد يوم، ليعيش حياة تبدو عادية، بل منمقة ورغدة. يذهب إلى العمل ليقابل مديرا وزملاء، يقابل جيرانه اللطفاء في الشارع أو المتاجر، تستقبله زوجته بعد يوم من العمل لتعد له الطعام بابتسامة واسعة. ولكن يلعب الفأر في عبه أن هناك سرا ما، بل مؤامرة. يكتشف الرجل في النهاية، إن حياته ما هي إلا مسلسل كبير. مسلسل يومي مذاع على الهواء، هو بطله بدون علمه. وأن كل من حوله وما حوله حتى السماء والبحر من حوله خدعة. وأنه قد استغل ليصبح مادة للدعاية والإعلان طوال حياته، ليروج نمط حياة أمريكي زائف.
بعد عام من التعويم، يبدو الدولار مستقرا سعيدا، ولكن هل هذه الصورة حقيقية إذا ما اقتربنا أكثر؟
نشاهد في مسلسل الواقع الأحداث التي تتوالى منذ عام، كلها تدل على أنه تمت السيطرة على سوق الصرف. نصحو كل يوم ونحن مطمئنون أن الجنيه لن ينهار ثانية، وأن التضخم سوف يعود تحت السيطرة، وأنه لا عودة إلى السوق السوداء.
مرحبا بكم في عالم ترومان شو.
بعد عام من التعويم، الاقتصاد المصري في وضع أكثر هشاشة عنه في عام مضى. الأساسيات مزعزعة، ولكنها تتوارى في وسط عالم وردي يزخر بتفاصيل من أنصاف الحقائق.
هذا الديكور الثري وهذا السيناريو المحبوك مدعوم بواسطة من ربحوا الملايين من الدولارات خلال العام الماضي (والعام الأسبق). وحين ينهار هذا الديكور فوق رؤوسنا – وهناك عديد من الشواهد تقول أنه قد ينهار- سوف يكون هؤلاء أول الرابحين للمزيد من ملايين الدولارات. كلما اشتدت الدراما كلما زادت الأرباح، تماما مثل شركات الدعاية في عالم ترومان المزيف. ولا تسأل عن الضحايا.
لنعد إلى ما قبل التعويم بعام.
كانت أزمة الدولار تتفاقم في لحظة تزيد فيها الاستثمارات الأجنبية وأكثر منها تحويلات العاملين التي تناهز أعلى مستوياتها. ولكنها تتفاقم بسبب هروب مليارات من الدولارات إلى خارج البلاد، بدون أي محاولات لتهدئتها (سواء بالتفاوض أو بفرض الضرائب). تخرج المليارات (بأشكال شرعية وغير شرعية)، فتشتد الأزمة.
ثم، بعد أن استنفذ البنك المركزي دولاراته في الدفاع عن حق تلك المليارات في الهروب، بدأ يقترض من الخارج ليستمر في تغذية قطعان الخارجين بملياراتهم. وحين ما اشتدت الأزمة، اضطر ومعه الحكومة إلى تنفيذ شرط صندوق النقد الدولي: تعويم كامل للجنيه (في ذروة ضعفه وضعف الاقتصاد).
كانت مصر، في منتصف عام 2016، حين لجأت إلى الاقتراض من الصندوق، في لحظة يصعب عليها الوفاء بأحد التزامات السداد الدولية، لحظة شبيهة باللحظة الوشيكة، كما سيتضح بنهاية هذا المقال. وهكذا اشترط الصندوق تعويم الجنيه واقتراض ما لا يقل عن 21 دولار من دول ومؤسسات أخرى كي يوافق على إقراضنا.
واتخذ قرار التعويم ليخسف إلى النصف دخول المصريين الحقيقية.
في عالم ترومان المزيف، بدأت الصورة تزدهر بالألوان ثانية: مليارات الدولارات تتدفق إلى مصر، ميزان المدفوعات يعود إلى الفائض من جديد لأول مرة منذ سنوات (أي أن كم الدولارات التي تدخل البلاد أكثر من كم الدولارات التي تخرج منها)، يستقر سعر الدولار مقابل الجنيه، استعادة خيوط التحكم في سعر الدولار من السوق السوداء إلى يد البنك المركزي). الموسيقى المرحة الانتصارية في الخلفية يقودها خبراء الصندوق.
وخلف الكواليس، يعلم كاتب السيناريو الورطة.
في الحقيقة، لم يستقر سعر الصرف بسبب إتاحة الدولارات من مصادر مستقرة (مثل قناة السويس والسياحة والصادرات والاستثمارات والتحويلات)، بل بسبب فرط الاقتراض بالدولار من الخارج. وهو ما يسمى فخ المديونية.
وهو أن تضطر الدولة إلى الاقتراض، لا لتلبي احتياجات التنمية، بل لكي تسدد قروضها السابقة.
ويسمى "فخا"، لأنه مغرٍ جدا، فطالما ظل المقرضون راضين عنك (سياسيا) أو واثقين في قدرتك على السداد لهم، سيقرضونك المزيد.
تلك السياسة بدأها البنك المركزي منذ انتخاب الرئيس السيسي، سياسة "سلفني ثلاثة دولار". أولا على استحياء، ثم قفز الدين الخارجي مرة واحدة ب25 ٪، خلال العام الماضي (في عز الأزمة، قبل التعويم). ثم قفز خلال العام الحالي بمعدل أكبر، هو 41٪. أي تقريبا تضاعف الدين الخارجي بعد التعويم، أو بسبب التعويم.
إجمالا، وصل حجم الدين الخارجي إلى 79 مليار دولار، يضاف إليه 18 مليار دين خارجي متخفٍ في صورة دين محلي. حيث أقبل الأجانب على شراء أوراق الدين المحلي قصيرة الأجل، بعد أن رفع البنك المركزي سعر الفائدة إلى أكثر من 18٪ بالتزامن مع التعويم، مع إعفائهم من الضرائب التي تفرضها الدول الرأسمالية والناشئة على خروج الأموال الساخنة (الأموال التي تدخل البلد لتحقق عائدا - ضمن الأعلى في العالم- عن طريق شراء أسهم أو أوراق دين حكومي وتخرج سريعا باحثة عن مصدر جديد للربح السريع، بدون تحقيق تنمية أو خلق وظائف).
بدلا من أن يعترف البنك المركزي باستمرار أزمة نقص الدولار، ومن ثم استمرار ضعف الجنيه، ينخرط البنك المركزي في دائرة من الاقتراض غير المتناهي، معظمها من الدول العربية (السعودية والإمارات والكويت)، سواء في شكل ودائع (لا نعرف معدل الفائدة عليها)، أو في شكل قروض لشراء منتجات بترولية.
وهي قروض قصيرة ومتوسطة الأجل، أي تستحق السداد خلال عام إلى أربعة أعوام. وهكذا صارت ثلاثة دول عربية تتحكم في أكثر من ربع الدين الخارجي. الربع الأكثر حساسية، لأنه يمس سلعا أساسية لحياة المصريين. تحصل عليه مصر بالقطارة، وبشروط فيها من السياسة أكثر من الاقتصاد، وليس فيها من التنمية شيء.
والنتيجة أنه خلال العام 2017-2018، ينبغي على مصر أن تدبر 18.7 مليار دولار، لتسدد ديونها. وهو مبلغ نحتاج لأربعة أضعاف إيرادات قناة السويس كي نستطيع توفيره. لكن الأخطر، أنه سيخرج من هذه البلد ما يعادل 334 مليار جنيه بالعملة الصعبة (ثلاثة أضعاف ميزانية التعليم الحالية). هكذا تحرم الديون الخارجية البلاد من مواردها، وهكذا تؤثر على مستقبل أبنائها. ولهذا هي ملعونة في كتب التاريخ الاقتصادي.
مؤشرات الورطة
ويحاول البنك المركزي حاليا الخروج بحذر من هذه الورطة. فقد أعلن المحافظ طارق عامر عن مفاوضات لمد أجل سداد بعض القروض المستحقة للعام القادم، من الإمارات. كما أشارت صحيفة لا تريبون الفرنسية إلى احتمال توقف صفقة شراء 12 طائرة رافال جديدة لارتفاع مخاطر مصر في السداد.
ومؤخرا، أدرجت مؤسسة ستاندرد آند بورز مصر ضمن قائمة "أضعف خمسة". وهي قائمة تضم أكثر الدول التي سوف تتأثر عملتها بسبب السياسة النقدية الأمريكية الحالية. نظرا لأن قروض مصر الخارجية معظمها بالدولار، ونظرا لأن الدولار سوف يشهد عالميا زيادة في قيمته، وارتفاع سعر الفائدة عليه، لذا هناك مخاوف بأن ينخفض سعر الجنيه (ثانية) أمام الدولار، وتعتبر تلك إشارة تحذير للسوق العالمي أن سداد الديون الخارجية المصرية سيصبح أعلى تكلفة كما سترتفع الفائدة على القروض الخارجية المصرية.
أضف إلى ذلك أن الموازنة العامة كانت قد قامت على افتراض سعر الدولار 16 جنيه، وسعر برميل النفط 55 دولار. وحده ارتفاع سعر النفط يكلف الحكومة ما لا يقل عن10 مليار جنيه، بحسب تصريحات لنائب وزير المالية. الأرجح أن تزيد الفاتورة على أنغام أبواق الحروب السعودية.
بعد عام من التعويم، عملة مصر في وضع أضعف، والحكومة غير قادرة على زيادة مواردها الدولارية، ومضطرة إلى مزيد من الاقتراض كي تسدد فواتير قروض الأعوام الأربعة الماضية.
بعض الدول تقترض من الخارج كي تمول عملية التنمية السريعة. وهذه طريقة خلافية لأنها ترهن المستقبل في يد المقرضين. معظم التجارب كانت فاشلة، ومن نجح نجح لأنه اتخذ بأسباب التنمية (بالرغم من الاعتماد على القروض، وذلك في ظل ظروف دولية أفضل من ظروفنا الحالية). ولكننا في مصر لا نقترض من أجل التنمية.
تغرق الدولة نفسها في القروض الخارجية كي تمول عمليات البوتوكس التي تحتاج إلى تجديد كل عدة أشهر وإلا ظهرت التجاعيد بشكل أبشع من ذي قبل.
والبرلمان؟ البنك المركزي خارج المساءلة. أكثر من ثلث الاقتراض الخارجي يتم حاليا بعيدا عن أنف الرقابة الشعبية (المأمولة). لا أقل من تشريع بوضع سقف للاقتراض الخارجي، ومساءلة علنية للبنك المركزي ولوزير المالية عن إدارة القروض الخارجية. أملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
البنك المركزي: أحيني اليوم.. وأحيني غدا؟
لحسن الحظ، يستطيع البنك المركزي حتى اليوم شراء الوقت، كما دأب أن يفعل مخرج المسلسل في ترومان شو. فنحن ما زلنا نعيش على السمعة الطيبة. أي كلمة رضا من صندوق النقد الدولي تحيينا غدا، وأي كلمة قلق تعني إعلان إفلاسنا (العجز بالوفاء بأحد القروض مهما صغر يسمى إشهار إفلاس).
أما وقد حيينا إلى الغد، فسوف يضيء المصباح المتوهج، وكأنه الشمس الذهبية تشرق، وتنتشر البِدَل ذات الأناقة الباريسية راسمة الابتسامة ذات الأسنان البراقة، متغنية بالنجاح المصري، حتى يرضى المقرضون بأن يلقوا إلينا ربع مليار دولار، كما باتوا يفعلون كل يوم.
وإذا ما فاحت رائحتنا، وانهار عالم ترومان، انقلب الفيلم إلى ملهاة. فكان هؤلاء هم أول المطالبين برد أموالهم مع فائدة أعلى (أي أرباح أعلى لهم)، وفارضين المزيد من الشروط السياسية المغموسة بالدم. لعلكم تعلمون الآن مدى خطورة أن تترك الديون الخارجية وقيمة الجنيه في يد على الكسار.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 10 نوقمبر 2017