البرلمان الجديد وقدامى المتحكمين
الفساد هو أن تخالف ــ أو تتحايل ــ على القانون، كى تحقق نفعا خاصا على حساب النفع العام (مثل دفع الرشاوى). ومن يضبط بهذه الفعلة يحاكم باعتباره فاسدا. ولكن ماذا إذا كفلت لك علاقاتك السياسية أن تتحكم فى عملية صنع القوانين نفسها، بحيث تصبح القوانين نفسها لا تجرم أفعالك؟ إنْ هى إلا طاقة القدر.
تلك الطاقة مفتوحة للبعض اليوم على مصراعيها، بسبب: ثانيا تركيبة البرلمان، وأولا: تركيبة الحكومة.
أولا: عملية تبييض الوجوه: استمرت تلك العملية بشكل متصاعد منذ ثورة يناير، أيام المجلس العسكرى ثم أكثر وضوحا أيام الإخوان، حتى وصلت إلى صيغتها الأكثر تعقيدا اليوم.
بدلا من وزير من أيام مبارك، هات شريكه أو قريبه أو موظف لديه. وهكذا، تسيطر نفس جماعات المصالح الناجية على أهم مراكز صنع القرار الاقتصادي ــ الاجتماعى فى الحكومة. كما سعى لوبى المصالح ذاك إلى الشراكة مع بعض من المؤسسات (ربما سعيا إلى الرضاء الرسمى، أو تقليل المخاطر)، من خلال إشراك تلك المؤسسات فى أنشطته عالية الربح (بالأساس أنشطة ريعية تتركز فى القطاعين المالى والعقارى).وذلك فى لحظة تحتاج المؤسسات العامة إلى أموال كثيرة كى تقوم بعملية التحديث التى تحلم بها.
ثانيا: تقدم هذه الحكومة إلى البرلمان أكبر عدد من القوانين فى تاريخ مصر. نصفه صدر فى فترة انتقالية ليس فيها أى رقابة ولا نقاش على التشريعات، وكان على البرلمان أن يعيد النظر فى تلك القوانين فى أول أسبوعين من عمره. فقبلها جميعا ( إلا واحدا، سيقبله بكل عيوبه بعد أن يهدأ الغبار). ثم يشرع فى تمرير كل القوانين التى تعرضها الحكومة، بما فى ذلك موازنتان مخالفتان للدستور (ولأبجديات التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية).
لكى نتخيل الكم العظيم من القوانين الذى صدر اليوم: فى دورة تشريعية واحدة ــ عدة أشهر ــ صدر 241 قانونا.
يضمن تمرير هذا الكم الهائل من القوانين المتعلقة بالاقتصاد وبحياة الناس التنسيق التام بين البرلمان والحكومة، والسيطرة على أهم اللجان، إضافة إلى التعتيم الإعلامى بفضل منع بث الجلسات العامة وإغلاق قناة صوت الشعب، وقصر السماح بالدخول إلى البرلمان على صحفيى الجرائد والمواقع المرضى عنها.
تركيبة البرلمان
يبلغ عدد رجال الأعمال فى مجلس النوب الحالى، حوالى 103 (عددهم أكبر قليلا من أيام مبارك وابنه)، وانتخب الشعب خمسين ضابط شرطة سابقا (الأكبر فى التاريخ). أما ضباط الجيش السابقون، فلا يتعدون العشرين. أى أنه على عكس الشائع، الغلبة لرجال الأعمال (بحكم العدد وبحكم أهمية المواقع ونوعية القوانين الصادرة عن البرلمان). تشكل تلك المهن معا ثلث أعضاء البرلمان، انضم معظمهم وأبرزهم إلى تكتل دعم مصر.
وعلى عكس الشائع أيضا، هناك مناقشات صاخبة داخل البرلمان من داخل تكتل دعم مصر وخارجه، لمحاولة تحسين التشريعات المقترحة. ولكن الغلبة دائما لمصالح التحالف الحاكم.
يترأس تكتل دعم مصر رئيس لجنة الصناعة ورئيس اتحاد الصناعات، ورئيس أحد أهم الشركات الصناعية التى تعمل فى مجال الطاقة فى مصر.
ويعمل دعم مصر، والذى يضم أيضا عددا كبيرا من أعضاء الحزب الوطنى السابق (وأيضا عددا كبيرا من صغار الموظفين العموميين لضمان التصويت)، بتنسيق تام مع حزبين يمثلان مصالح رأسمالية المحاسيب: المصريين الأحرار والوفد الجديد.
ولضمان الإحكام، يترأس النقابى التابع لدولة مبارك لجنة القوى العاملة. يلعب الرجل دورا مفصليا فى استمرار نمط توزيع الدخل الحالى، والذى يذهب ثلاثة أرباع الناتج فيه إلى قلة من المستثمرين، بينما يذهب الربع فقط إلى عشرات الملايين من العاملين بأجر، بحسب البنك الدولى.
يعمل هذا التحالف فى البرلمان فى ظل مناخ يسمح بالإفلات من جريمة الجمع بين الأعمال الخاصة وعضوية البرلمان. وفى ظل غياب تطبيق قانون تعارض المصالح، وفى ظل عدم نشر إقرار الذمة المالية سنويا أو على رأس كل دورة برلمانية، ليتمكن الناخبون من تتبع ثروات من انتخبوهم.
مفاتيح الثروة
جمعت رأسمالية المحاسيب فى مصر وغيرها من دول العالم ثروتها عبر الحصول على الأراضى الرخيصة، والقروض البنكية والاستثمار المالى المعفى من الضرائب (سواء عبر البورصة أو البنوك)، وأخيرا عبر الخصخصة (بحسب خبير فى البنك الدولى متخصص فى دراسة رأسماليات المحاسيب). وفى مصر، تضيف دراسة البنك الدولى إلى ما سبق دعم الطاقة الموجة إلى شركات أولئك المحاسيب.
وتكون السيطرة على التشريع أحد أهم أدوات رأسمالية المحاسيب. (فى أمريكا، تتحقق نفس المصالح عن طريق شركات جماعات الضغط، ويسمح بوجودها القانون).
وتتعدد الوسائل لما يسمى بأسر الدولة أو خطف الدولة فى العالم، وتتفاوت الدرجات. لكنه ينكشف بأسطع صوره فى الدول التى تمر بلحظات التحول الكبرى.
يسيطر حاليا ممثلو نفس أصحاب المصالح القديمة على أهم اللجان البرلمانية. وكل المعلومات التالية عن رجال الأعمال داخل مجلس النواب، مصادرها: موقع اتحاد الصناعات والصفحات الرسمية للنواب على مواقع التواصل الاجتماعى، إضافة إلى مواقع برلمانى واليوم السابع والبوابة نيوز.
وكى نفهم لماذا سعى اللوبى القديم للسيطرة على التشريع، نتذكر ما هو معلوم اليوم للجميع.
سيطر الرجل المحترق على سوق الحديد، بعد أن تحكم فى إحدى أكبر الشركات العامة، وأضعف الخصم الأقوى (الشركة المصرية للحديد والصلب)، وعبر ملاحقة الحديد المستورد، باستغلال نفوذه داخل الحزب الأوحد الحاكم. ثم تموضع تحت قبة البرلمان فى لجنة الخطة والموازنة التى كفلت له كل عام أن تنفق الحكومة على التشييد والبناء عشرات المليارات، دخلت معظمها إلى جيبه، فى شكل مشتريات من شركته. ثم بالتوافق مع المسيطرين الجدد على الحزب الوطنى، ترأس هؤلاء أهم اللجان البرلمانية.
كانت لجنة الطاقة مثلا، هى إحدى أهم اللجان بالنسبة للوبى رجال الأعمال الكبار: حيث ضمنت تلك اللجنة تدفق الطاقة المدعمة الرخيصة من جيوبنا إلى مصانعهم. مع تحميل المواطنين من العائلات المصرية كل الثمن وحدهم فى أى زيادة لأسعار الطاقة. فى عهد سيطرة رجال الأعمال الجدد من الحزب الوطنى، ترأسها أحد أهم 30 رجل أعمال من رجالات مبارك، هو محمد أبوالعينين، الذى يحتاج كمًا هائلا من الطاقة لمصانع السيراميك يعادل عشرات المصانع العادية، ويحصل عليها بثمن بخس من خلال تواجده بالحزب وبالبرلمان، (ويحقق بذلك هو والـ30 مستثمرا الآخرين أرباحا خيالية معفية من كل أنواع الضرائب).
رحل الرجل عن اللجنة وعن البرلمان. وحل محله شريك فى شركة أخرى لها نفس المصالح.
هو عضو سابق بالحزب الوطنى، وحاليا بحزب الوفد، وتحتاج شركاته إلى هذا الكم الهائل من الطاقة، والتى يحصل عليها مدعمة حتى اليوم. ففى الوقت الذى عانت فيه العائلات المصرية من رفع أسعار الطاقة خمس مرات متتالية خلال السنوات الماضية، لم يرتفع سعر الطاقة المباعة إلى شركات الرجل وجماعته من المصانع كثيفة الطاقة ولا مرة منذ عام 2014، باستثناء زيادة اسعار المازوت قبل شهور.
أما لجنتا الإسكان والسياحة، فقد تكفل السيطرة على إحداهما أو كليهما أراض ظلت قيمة المتر منها بدولار واحد لعشرات السنين. أو مجانا أو بتراب الفلوس لعدد ضئيل من الشركات. مثلا، كان أحد أصحاب مجموعة طلعت مصطفى ــ كان جمال وعلاء مبارك أصحاب حصة صغيرة فى نفس المجموعة ــ هو نفسه رئيس لجنة الإسكان فى ذلك الوقت، وكانت شركاته تملك أكبر مساحة أراض فى مصر.
أما وزراء السياحة والإسكان والمرافق السابقين في عهد مبارك، فكانوا هم أنفسهم أصحاب ثانى أكبر شركة عقارات تملك أراضى فى مصر (وأراض أخرى مخصصة للمنشآت السياحية). وكان جمال وعلاء أيضا شركاء فى تلك المجموعة. الطريف أن تلك الشركات لم تبن المساكن على الأراضى الشاسعة التى اشترتها، بل راكمت أرباحها بالأساس عبر شرائها برخص التراب، ثم إعادة بيعها – بلا أى ضرائب على تلك الأرباح الرأسمالية. ويترأس لجنة السياحة حاليا قريب وشريك رئيس لجنة الإسكان أيام مبارك.
الجدير بالذكر، أن قطاعات التشييد والسياحة فى مصر من أكبر المستفيدين بدعم الطاقة، من أيام مبارك، بحسب دراسة هامة للبنك الدولى.
تلك هى بعض الأمثلة الأكثر وضوحا لاستمرار سيطرة قلة من أصحاب المصالح الذين تمكنوا من بسط مصالحهم والحفاظ على مليارات الجنيهات والدولارات من أرباحهم، عن طريق تبديل الوجوه، وتبديل الانتماء السياسى، وتوزيع الأدوار، من أجل ضمان استمرار نفس المزايا.
فإذا كانت الشراكة مع جمال وعلاء تكفل ذلك، فليكن. وإذا كان الانتماء إلى حزب قريب من السلطة أو الشراكة مع مؤسسات عامة، فليكن. بل وإذا كان الإفراط فى الحوقلة والمشألة، يعنى نفس الامتيازات فلا مانع. ولعلك شاهدت أحد أقارب هؤلاء فى افتتاح جمعية «ابدأ» التى أسسها رجال أعمال الإخوان، وكان هو شريكا فيها، ثم توارى عن الأنظار.
الخيط الناظم هو استمرار نفس المصالح: مصالح الأقلية على حساب الأغلبية.
باختصار، تعرف أن ثورة يناير انهزمت، طالما استمر نمط تخصيص الأراضى (بالبيع وليس بحق الانتفاع) ودعم الطاقة إلى قلة من الشركات المحتكرة الملوثة للبيئة. هكذا يتم اغتصاب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لـ90 مليون مواطن عبر السيطرة على البرلمان (والحكومة).
ملحوظة أخيرة: تعتمد هذه المقالة على الموقع الرسمى للبرلمان المصرى، موقع اتحاد الصناعات، وإصدارات مؤسسة الأهرام، وإصدارات البنك الدولى، والصفحة الرسمية لأحد النواب المذكورين، ومواقع برلمانى واليوم السابع والبوابة نيوز.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتورني بتاريخ 22 ديسمبر 2017