لا فرق بين عربي وأعجمي إلا في الثروة
حين صدر التقرير في منتصف الشهر الماضي، كانت التغطية في الإعلام الدولي كبيرة بحجم أهمية نتائجه، وشملت تغطيته كل أنحاء العالم، كما الأرق الذي يلف الكرة من تنامي الظاهرة، ومن انعكاساتها الكبيرة على السياسة: مثل الانتشار المتصاعد لظواهر العنف المجتمعي وحمل السلاح ضد الدولة أو ضد الأقليات، وكذلك تدهور جودة الديمقراطية النيابية ومزاج الناخبين وكارثية اختياراتهم.
وعلى عكس الضجة الإعلامية حول العالم، كان الصمت الإعلامي في الشرق الأوسط هو ما قابل تقرير "اللا مساواة في العالم ٢٠١٨".
الشرق الأوسط الذي هو المنطقة الأكثر لا مساواة في العالم، بحسب التقرير.
جاء التقرير بقراءة جديدة عن مستوى اللامساواة في العالم بفضل جمع ومعالجة البيانات من قبل أكثر من مائة باحث من كل قارات العالم. أحد أعضاء الفريق وربما ملهمهم، هو توماس بيكيتي، أهم باحث في اللامساواة في التاريخ الحديث، ومؤلف "رأس المال في القرن الواحد والعشرين".
والأهم هو أن كتاب التقرير - رغم محدودية مواردهم- جعلوا كل بياناته متاحه على موقع مفتوح على الإنترنت، برخصة مشاع إبداعي، حتى يتمكن كل من يرغب في استخدامها أو تطويرها.
وفقا للتقرير، هناك ما يدل على أن التفاوت في الدخول بين الأغنياء والفقراء قد زاد في كل أقاليم العالم تقريبا خلال العقود الأخيرة. ولكن تختلف اللامساواة في الدخل كثيرا من منطقة لأخرى: فنجدها في أقل مستوياتها في أوروبا، وفي أعلى مستوياتها في الشرق الأوسط.
لعنة البترول وجنة التهرب
تشمل المنطقة محل الدراسة مصر وتركيا وإيران والعراق وسوريا والسعودية وباقي دول الخليج والدول العربية ولبنان وفلسطين والأردن واليمن.
ظلت اللامساواة في أقصى مستوياتها في منطقتنا خلال الفترة ١٩٩٠-٢٠١٦، حيث حصل ال١٠٪ الأغنى على ما يتراوح بين ٦٠-٦٦٪ من الدخول. في حين حصل نصف السكان الأفقر على أقل من ٩٪ من الدخول. للمقارنة، يحصل النصف الأفقر من سكان غرب أوربا على ضعف هذه النسبة، وينتمون فعليا إلى الطبقة الوسطى العالمية.
وتتنافس منطقة الشرق الأوسط مع دولتين فقط من حيث حدة اللامساواة، هما البرازيل وجنوب أفريقيا. ولكن يمكن تبرير الوضع فيهما بالتمييز العنصري الذي ما زال يربض على الثانية (ال١٠٪ الأغنى هم الأقلية البيضاء)، وبانتشار العبودية في الأولى حتى بداية القرن العشرين. حيث كانت البرازيل أكبر دولة في العالم من حيث عدد العبيد وآخر دولة تلغي تقنين العبودية.
أما في منطقتنا، يصل نصيب الواحد في المائة الأغنى في الشرق الأوسط إلى ٢٥٪ من إجمالي دخل المنطقة.
"ترجع اللامساواة بين الدول إلى جغرافيا انتشار البترول، وتحول إيراداته إلى أوقاف مالية دائمة. والنتيجة هي أن دول الخليج النفطية حصلت على ٤٢٪ من إجمالي دخل المنطقة، على الرغم من عدد سكانها الصغير (١٥٪ من إجمالي السكان). لذا تعتبر الفجوة بين نصيب الفرد الراشد من الدخل بين الدول الخليجية وباقي الدول بالغة الاتساع"، بحسب التقرير.
ونظرا لقلة البيانات المتاحة، فإن تلك التقديرات أيضا بدورها هي أقل كثيرًا من حقيقتها. وتبدو المشكلة أعمق في الدول الخليجية، حيث تتناقض بيانات اللامساواة الرسمية مع تنامي حجم العاملين الأجانب كنسبة من إجمالي السكان وهم يحصلون على دخول ضئيلة.
وهكذا، نجد مثلا أن نصيب المليارديرات من اجمالي الثروة في كل من السعودية وقطر والبحرين ولبنان يبلغ ٢٠٪ بينما كان يملك مليارديرات كل من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة نصف ذلك.
كما يحتفظ أثرياء المنطقة بجل ثرواتهم في حسابات بنكية في شتى جنات التهرب الضريبي. تفيد أدلة علمية ظهرت مؤخرا أن أثرياء الدول البترولية العربية غير الديمقراطية يميلون إلى إخفاء جزء أكبر من ثرواتهم في تلك الملاذات، مقارنة بغيرهم. إضافة إلى أن قوائم الأثرياء لا تضم عائلات الحكام.
مثلا، في قطر، لم يظهر سوى اسمين فقط في قائمة فوربس لأغنياء العالم ولم يظهر سوى في ثلاث سنوات طوال الفترة ١٩٩٠-٢٠١٦.
في مصر، بل أسوأ من ذلك
تسود المنطقة كلها قلة البيانات المتعلقة بالأغنياء. حيث يعتمد التقرير على بيانات الحصيلة الضريبية التفصيلية لتقدير دخول (وثروات) من هم في قمة سلم الدخل. بينما تغيب تلك البيانات عن كل دول منطقتنا (ما عدا لبنان، التي وفرت وزارة المالية بياناتها للباحثة اللبنانية). بفضل تلك البيانات، وجد الباحثون أن نصيب ال١٪ الأغنى تضاعف في لبنان مقارنة بما يظهر فقط باستخدام الأرقام الرسمية.
إذا ما فعلتها لبنان، فهل تفعلها مصر؟
في مصر، لا يغطي بحث الدخل والإنفاق (على جودته) سوى ٤٠٪ فقط من الدخل القومي، بسبب التهرب الضريبي، وفقا للتقرير.
هي دعوة إلى كل الجامعات والمؤسسات المصرية، وعلى رأسها جامعة القاهرة ومعهد التخطيط ومركز دعم القرار والمركز المصري للدراسات الاقتصادية ومنتدى البحوث الاقتصادية للتعاون مع وزارة المالية والجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء كي تقدم مصر أفضل مجموعة متكاملة من البيانات عن توزيع الدخل في الشرق الأوسط إلى فريق النسخة القادمة من التقرير.
إذاً، تعني قلة البيانات أن التقديرات الواردة في التقرير بشأن المنطقة أدنى من الحقيقة. وفي مصر، وفقا لدراسة تفصيلية اعتمد عليها التقرير، يبلغ نصيب الواحد في المائة الأغنى ١٨٪ من الدخل القومي المصري (أي أن ٩٠٠ ألف فرد يملكون وحدهم حصة من الدخل القومي تعادل مجموع ما يحصل عليه ٤٥ مليون مواطن من دخول). الوضع الحقيقي أسوأ من ذلك.
وهكذا، يقول التقرير: "إذا ما حصلنا على بيانات ذات جودة أعلى، من المرجح أن ترتفع اللامساواة، كأن يرتفع نصيب العشرة في المائة الأغنى (في منطقتنا) إلى ٦٥-٧٠٪ من الدخل القومي أو أكثر".
والسؤال هنا، لماذا يجب أن تؤرقنا هذه الحقائق الجديدة عن اللامساواة في عالم رأسمالي؟ أليس ذلك كلام الشيوعيين البائدين، كما أنه لا يتفق مع ما يقوله الإسلام بأن الله قد خلقنا طبقات؟
في التقرير بعض الإجابة: "اللا مساواة الاقتصادية هي ظاهرة مركبة ومتعددة الأبعاد، ومن الصعب تفاديها. ولكننا نعتقد أنه إذا لم تتم مراقبتها ومعالجتها كما ينبغي، فمن الممكن أن تؤدي إلى أشكال متعددة من الكوارث السياسية، الاقتصادية والاجتماعية".
وأما الإسلام فهو وإن أقر بالطبقات لكنه قطعا لم يدع إليها. بل ونادى بتقليص الفوارق بينها وحارب العبودية وأشكال الاستغلال الأخرى، ولهذا وضع الذين ينفقون من أموالهم في مرتبة مقترنة بالإيمان ذاته.
أما إذا كنت تعتبر صندوق النقد الدولي شيوعيا، فهذا ما قاله الصندوق مؤخرا على لسان مديرته كريستين لاجارد: في خطبة بعنوان "آن الأوان لإصلاح السقف" والمقصود سقف الثروات والدخول.
"لقد ألقى ضعف النمو الذي اتسم به العقد الماضي، منذ الأزمة العالمية في ٢٠٠٧، بالضوء على مشكلة اللامساواة". وتساءلت حامية قلعة مصالح النيوليبرالية "هل يستطيع العالم اغتنام فرصة تصاعد معدلات النمو كي يضمن التعافي ويخلق اقتصادا احتوائيا يعمل من أجل الجميع؟"
وتشير لاجارد إلى مجالين أولى بالاهتمام: " أولهما هو رفع الدخول وخلق الوظائف وثانيهما هو الاستثمار في المستقبل عن طريق تعليم حكومي وخدمات صحة بالمجان للجميع". أما تقرير بيكيتي ورفاقه، فقد خير حكومات العالم بين مسارين.
طريق الندامة يبدأ من أمريكا
رصد التقرير التطور الذي طرأ على الثروات الحكومية في مقابل الثروات الخاصة خلال العقود الماضية. الحكومات أصحبت أكثر فقرا بينما صارت الثروات الخاصة أضعافا مضاعفة، ولا يمكن إغفال الخصخصة كسبب.
على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، في ٢٠١٥، كان صافي قيمة الثروة العامة في الولايات المتحدة سالبا يساوي -١٧٪ من الدخل القومي (أي أن الدين الحكومي أكبر من الأصول الحكومية)، في حين وصل صافي قيمة الثروة الخاصة (صافي رأس المال الخاص) إلى ٥٠٠٪، أي خمسة أضعاف الدخل القومي.
للمقارنة، في ١٩٧٠، كانت الثروة العامة في أمريكا تمثل ٣٦٪ من الدخل القومي، بينما كان صافي الثروة الخاصة ثلاثة أضعاف الدخل القومي.
"لقد ترافقت عمليات الخصخصة ذات الحجم الكبير مع اللامساواة المتزايدة في الدخول، مما غَذَّى تصاعد اللامساواة في الثروة بين الأفراد. بلغت تلك أقصاها في روسيا وفي الولايات المتحدة، ولكنها ظلت أقل حدة في أوروبا". لماذا يتردد كثيرا ذكر أوربا كأفضل المسارات؟ هذا ما تتبعه التقرير ليخرج باستنتاجات مدهشة.
على الرغم من أن العالم كله اتبع سياسات اقتصادية متشابهة خلال العقود الأربعة الماضية، إلا أن أوربا بقيت الأفضل نسبيا (وإن زادت فيها حدة اللامساواة مقارنة بفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية). ولهذا أجرى الباحثون اختبارا لثلاثة مسارات محتملة للعالم..
إذا ما استمر العالم على ما هو عليه اليوم، بدون أي إصلاحات. أو إذا ما اتبع العالم كله المسار الأمريكي (أسوأ من المسار العالمي الحالي) أو إذا ما اتخذ العالم المسار الأوربي.
في حالة سكة الندامة (أول سيناريوهين)، فسوف يشهد العام ٢٠٥٠ زيادة حدة اللامساواة في العالم وتآكل الطبقة الوسطى. في عام ٢٠١٦، بلغ نصيب شريحة ال١٪ الأغنى ٣٣٪. في حالة سيناريو "بقاء الوضع على ما هو عليه"، سوف يرتفع نصيب تلك الشريحة إلى ٣٩٪ في عام ٢٠٥٠. في حين أن نصيب شريحة ال١ في الألف الأغنى سوف يعادل ٢٦٪، ما يقارب نصيب شريحة الطبقة الوسطى.
ويسوء الوضع إذا ما اتبعت كل دول العالم المسار الأمريكي، حيث يرتفع نصيب الواحد في الألف الأكثر غنى إلى ٢٨٪ من إجمالي الدخل.
أما المسار الأوربي، فإنه كفيل بأن يرأب الصدع المتفاقم بين النصف الأفقر من السكان والواحد في المائة الأغنى. كما من شأنه أن يضاعف متوسط الدخل لدى النصف الفقير من سكان المعمورة لحوالي ثلاثة أضعاف مستواه الحالي ليصل إلى ٩١٠٠ يورو.
يخلص التقرير إلى سياسات شبيهة بتوصيات صندوق النقد الدولي التي صدرت حديثا (ولكنه لا يوصي بها ولا يفرضها على الدول المقترضة من أمثالنا).
ويقترح التقرير ثلاثة علاجات: أولا: الضرائب التصاعدية للقضاء على تصاعد اللامساواة بين الدخول وبين الثروات في قمة السلم الاجتماعي. ثانيا: إنشاء سجل عالمي للأوراق المالية بالتعرف على مالكيها، وهو ما يسدد ضربة قوية ضد التهرب الضريبي، وضد تبييض الأموال، وتصاعد اللامساواة. وثالثا: مجانية التعليم كرافعة قوية، إضافة إلى ضمان حصول الأفراد في أسفل السلم على وظائف لائقة عن طريق " تمثيل أفضل للعاملين في إدارات الشركات، وحد أدنى سليم للأجور".
الكلام جميل ولكن تبقى في النهاية المعضلة: فالقضاء على اللامساواة يتطلب إما إغراق الحكومات بالديون، أو إفقار لأصحاب الثروات الخاصة. وتزداد المعضلة صعوبة في ظل ديمقراطيات يسيطر عليها أصحاب الثروات الخاصة.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 5 يناير 2018