عجائب الضرائب
بدأت الانتفاضة اللبنانية منذ أكثر من أسبوع اعتراضا على ضريبة، لتحيي تاريخا طويلا يربط بين الثورات الشعبية والضرائب.
في عام 1763، بدأت حرب الاستقلال في أمريكا ضد المستعمر البريطاني، كرد فعل على فرض ضرائب فرضتها بريطانيا على مستعمراتها. فقد خرجت بريطانيا بعد سبع سنوات من الحرب مع فرنسا، خالية الخزائن. وبررت إنجلترا الضرائب بأنها ثمن تأمين المستعمرات الأمريكية ضد التهديد الفرنسي. مست الضرائب استخراج الأوراق الرسمية، والسكر وعدد من السلع الصناعية المستوردة إضافة إلى الشاي. خرج أول المتضررين من تلك الضرائب، وهم التجار في انتفاضات شعبية، سرعان ما توسعت بين الولايات. كانت أشهرها في بوسطن بقيادة حزب الشاي، حين قام 60 من المواطنين بإتلاف شحنة من الشاي استوردتها واحدة من الشركات التي منحت حق الإعفاء من الضريبة. وهكذا، زاد الوعي الجماعي بالمصالح المشتركة وأيضا بالقدرة على الفعل المشترك. لتقوم حركة موسعة بمقاطعة السلع البريطانية. تمخضت المقاومة الشعبية ضد الضغط الضريبي البريطاني عن إطار دستوري تلخص في مبدأ "لا ضريبة بدون تمثيل". أي أنه لا يمكن أن يفرض أي برلمان ضريبة على فئة ما إلا بوجود ممثلين لهذه الفئة في البرلمان. مبدأ غير وجه التاريخ.
ويمكن القول بأن تلك المعركة حول الضريبة والعدالة كانت ملهمة لفرنسا التي قامت ثورتها الشعبية بعد ما حدث في أمريكا، بسنوات معدودة. إذ يمكن قراءة الثورة الفرنسية على أنها نتيجة النزاعات الضريبية التي شابت فرنسا في القرون الوسطى والحديثة. البداية كلاسيكية عبر التاريخ، ولكنها لا تلبث فجأة أن تثير الغضب. كالعادة، احتاج الملك إلى الأموال من أجل تمويل حروبه (وكانت هذه المرة حروب مساعدة الأمريكان على الاستقلال، من أجل إضعاف بريطانيا). يرفض البرلمان طلب الملك فرض ضرائب جديدة، ويثور ضده البرلمان، وتبدأ أحداث الثورة في التتابع، وفي القلب منها تثار مفاهيم العدالة الضريبية. خطوة صغيرة تكاد تكون مألوفة ومجربة مرات ومرات، فجأة تدفع بالآلاف إلى الشارع لتنقلب الموازين.
ويصدر أول أيام الثورة الفرنسية إعلان حقوق الإنسان والمواطن بمواد تتعلق بالضرائب، وهي المواد 13، 14 و15. أن الضريبة على قدر الإمكانية، وأن للشعب حق قبول أو رفض الضرائب، وله أيضا حق الرقابة على الكيفية التي تنفق بها الحكومة العوائد الضريبية. فلننزع كلمة المستعمر أو الملك ونضع محلها كبار الرأسماليين، ولنتقدم إلى القرن الواحد والعشرين.
عاد الأغنياء في العالم الرأسمالي ليسيطروا على البرلمانات، وعلى مقاليد الاقتصاد، مانحين أنفسهم الإعفاءات والامتيازات الضريبية، محملين الشرائح الأفقر عبء الضرائب الأكبر.
وفوق ذلك، تجد الأغنياء اليوم يلوذون بأموالهم بعيدا عن بلدهم الأم، هربا من دفع الضرائب إلى دول مصممة قوانينها خصيصا لتلقي تلك الأموال. وإن كان الوضع أسوأ في الدول الرأسمالية الأقل تقدما، بسبب غياب التمثيل الشعبي في كل دوائر صنع القرار.
لذا، اعتدنا في عالمنا العربي ألا نسمع سوى عن ضرائب الاستهلاك المؤذية للأغلبية. أما الشرائح الدخلية الأعلى فتحظى بإعفاءات ضريبية واستثناءات متعددة، تحت ذريعة جذب الاستثمارات، أو جذب الدولارات. ولا نسمع أصلا عن ضرائب الثروة، مثل الضرائب على التركات أو الأراضي أو العقارات أو حصص الشركات أو الودائع السائلة. ولا الضرائب على أرباح بيع وشراء هذه الأصول.
يختار الأغنياء دائما أن يعاني بلدهم من عجز الموازنة، فيقرضوا الحكومة ويحصلوا على الريع المقابل، بدلا من سد عجز الموازنة عن طريق فرض الضرائب عليهم. ويمكنهم نفوذهم السياسي من تحقيق ذلك، مرات ومرات، إلى أن ينتفض الناس غضبا.
الغضب اللبناني
لماذا اختارت الحكومة اللبنانية بدء "إصلاحاتها" بفرض ضريبة تمس كل مواطن لبناني، من بين أكثر من عشرين إجراء متفق عليه بين الفرقاء السياسيين؟ كان اللبنانيون على موعد مع تلك الإجراءات لمحاولة إنقاذ البلاد من أزمة اقتصادية حادة، بحسب ما كشفته ورقة بعبدا نسبة إلى موقع القصر الرئاسي، حيث وقع عليها جميع القوى السياسية في سبتمبر الماضي.
ورقة بعبدا هي الثالثة بعد ورقتين سابقتين، هما وثيقة مؤتمر سيدر الذي عقد في باريس ووعد فيه الدائنون بإقراض لبنان 11 مليار دولار مقابل حزمة إجراءات كلها مؤيدة من صندوق النقد الدولي والحليف السياسي فرنسا، بقيت مجمدة حتى اليوم. تلتها في أبريل الماضي خطة الطوارئ الحكومية.
وكانت تلك الخطط عبارة عن خليط من الإجراءات التي من شأنها أن تتسبب في غلاء الأسعار وتحميل الطبقات الأدنى العبء الأكبر لـ"إصلاح" اقتصاد عانى من التباطؤ سنوات وصولا إلى الانكماش، وتقدر نسبة الفقر بـ 40٪.
وفي خضم أزمة دولار تسببت في نقص الوقود والغذاء، نزل اللبنانيون في مظاهرات محدودة على مدى الأشهر الماضية. وعم الخوف والتوتر بعد أن وضعت الحكومة سقفا للسحب اليومي من الودائع الدولارية من خلال ماكينات الصراف الآلي، في بلد ينتشر التعامل فيه بالدولار ويبلغ حجم الدولرة أكثر من 70٪.
وخافت الحكومة من تطبيق أي من الورقات الثلاثة على مدى العام الماضي كله بسبب الغضب الشعبي المكتوم. إلى أن بدأت الحكومة بإجراء واحد، طامعة في رضا الدائنين الدوليين ليقرضوها ما يرأب فجوة اتسعت.
ومن بين كل ما جاء في ورقة بعبدا، بدأت الحكومة التي تعاني من عجز متزايد في الموازنة العامة بفرض ضريبة على استخدام تطبيق الواتس-آپ. وهو التطبيق الذي يربط بين لبنانيي الداخل وأقاربهم العاملين بالخارج، في بلد يتجاوز من يعمل خارجه تعداد من بقي في بلاده. فلماذا المخاطرة بغضب الشعب بإجراء لن يسد العجز بأي حال؟
الإجابة قصيرة وحزينة: لأنه الأسهل.
كان هناك بديلان على مائدة الحلول اللبنانية: البديل الأول هو الضرائب على الاستهلاك، مثل ضريبة الواتس-آپ ورفع الضريبة على المبيعات (التي تبلغ حاليا 10٪). وهي ضرائب تثقل على الفقير أكثر من الغني، حيث تشكل نسبة أكبر من الدخل كلما قل الدخل. لنفرض أن الضريبة هي 10 في المائة على وجبة طعام تتكلف عشرة جنيهات. هذا الجنيه يمثل اقتطاعا كبيرا ممن يبلغ دخله ثلاثين جنيها في اليوم، بينما الجنيه لا يشكل أي عبء لمن يبلغ دخله ثلاثمائة جنيه أو أكثر في اليوم.
ضرائب الاستهلاك سهلة في جمعها، فلا مهرب من دفعها حين نسدد ثمن السلعة التي نشتريها. مثلها مثل ضريبة الدخل على الموظفين في الحكومة والشركات. ولكن الأهم، أن محدودي الدخل هم أيضا من محدودي الصوت.
لا وجود لهم في قاعات الاجتماعات المغلقة ولا نراهم في البرامج الحوارية، ولا في مقاعد مجلس النواب، ولا يحق لنقاباتهم- إن وجدت- أن تبدي رأيها في أي ضريبة قبل فرضها. تكفلت عقود من الحكم غير التشاركي على كتم زر الصوت لتلك الملايين. فسهل تنفيذ أي إجراء من شأنه أن يؤذيها أو يفقرها. أو هكذا ظن حكام اعتادوا على فعل ذلك.
كانت هناك حلول أخرى على المائدة، وقف ضدها المضارون منها، فلم تنفذ. على رأسها زيادة مؤقتة في الضريبة على أرباح البنوك التجارية، وحل آخر مطروح من المعارضة، وهو ضريبة تصاعدية على عوائد الودائع. ولكن تلك الضرائب عارضها أصحاب البنوك وكبار مودعيها، وهم من ملاك القنوات والجرائد، وأعضاء البرلمان، وأصدقاء الحكومة. أي من ذوي الصوت المسموع والحظوة.
حكم المصرف
يقوم استقرار الاقتصاد اللبناني منذ نهاية التسعينيات على دور "مصرف لبنان" أي البنك المركزي في اجتذاب الودائع الدولارية إلى البنوك، عن طريق عرض سعر فائدة مرتفع، مما ساعد على تأمين تدفق كبير للدولارات إلى لبنان، ومن ثم تثبيت سعر الليرة أمام الدولار. وتستخدم البنوك التجارية تلك الودائع في إقراض الحكومة من أجل تمويل عجز الموازنة، بعائد مرتفع أيضا، لتحصل البنوك على أرباح خيالية بدورها. وكلما زادت صلات أصحاب البنك السياسية زادت حصة البنك من الدين العام، وبالتالي زادت أرباحه وأرباح مودعيه. وهو نوع مكروه من الأرباح إذ لا يقابله لا مخاطر ولا مجهود، ولا يخلق نشاطا إنتاجيا ولا فرص عمل، ويعرف في علم الاقتصاد باسم الريوع، جمع الريع.
بلغ إجمالي مدفوعات الفوائد خلال 2018، 5.4 مليار دولار، أي حوالي 10٪ من اجمالي الدخل المحلي البالغ ما يعادل 56 مليار دولار. ويرصد الصحفي والاقتصادي محمد زبيب أن هامش أرباح البنوك من الفوائد بلغ مجموعا تراكميا يقدر بـ30.4 مليار دولار على مدار السنوات العشر الماضية. وأن المجموع التراكمي للفوائد المدفوعة للمودعين لدى المصارف يقدر 63 مليار دولار، حصل عليها المودعون خلال نفس الفترة.
وهكذا، حين اقترحت الحكومة رفع الضريبة مؤقتا لمدة ثلاث سنوات على تلك الريوع، رفض لوبي البنوك. بل وانخفض حجم الودائع الدولارية خلال عام 2019، بما يوحي بعمليات هروب الأموال من لبنان، كما يلاحظ البنك الدولي، ليهتز استقرار الدولار مقابل الليرة.
وحتى حين أُعلنت منذ أيام ورقة الإصلاح الرابعة، "ورقة الحريري"، تحت وطأة الضغط الشعبي، بمضاعفة الضريبة لمدة عام واحد فقط إلى 34٪، لم ترحب أيضا المصارف التي أبقت أبوابها مغلقة حتى إشعار آخر. رغم أن الإجراء سوف يوفر للخزانة ما يعادل 400 مليون دولار، وهو مبلغ لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من إيرادات المصارف. حيث منحت عمليات إقراض المصارف للحكومة من خلال ما يسمى بالهندسة المالية (بقيادة مصرف لبنان) 6 مليار دولار كأرباح استثنائية في عام واحد (2016) فوق أرباحها العادية، بحسب حسابات زبيب من بيانات البنك المركزي.
ومن هنا، جاء الهتاف اللبناني الذي رفعه الآلاف أثناء الانتفاضة الأخيرة، "يسقط يسقط حكم المصرف" bankocracy، نسبة إلى البنك المركزي اللبناني، رمزا للفساد المالي والسياسي وتكريس تفاوت الثروات.
الضرائب ليست كلها شر. ولا كلها يثير غضب الشعوب. الأصل في الضرائب كما درسناها في الاقتصاد أنها وسيلة تمكن الدولة من إعادة توزيع الدخول لتقليل التفاوتات بين المواطنين، وتقديم خدمات كالتعليم والصحة والمرور والصرف والمياه، للجميع- فقراء وأغنياء- بنفس الجودة، إضافة إلى الأمن والعدالة والدفاع. وكلما شارك أكبر قدر من الناس في اختيار حزم الضرائب، كلما تحققت العدالة الضريبية. والضرائب أنواع، والاختيار من بينها ليس قضية فنية تقوم بها الحكومات، بل هو اختيار بين إجراء يمس الفقراء وآخر يمس الأغنياء. هو بالأساس قضية سياسية، تخضع لاعتبارات من الأقوى ومن الأقدر على حماية مصالحه. وتصبح هذه القضية ملتهبة أكثر في بلد يقل فيه التمثيل السياسي للمواطنين ويعاني من درجات مرتفعة من الفساد والمحسوبية.
تشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ٢٥ اكتوبر ٢٠١٩