أن تطلب منهم وقف الإضرابات
استمر الخطاب العام من قبل الدولة منذ اللحظة الأولى للثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير، وبالتأكيد من قبلها، تجاه الإضرابات خطاباً سلبياً يوجه اللوم دائماً للعمال الذين لا يدركون المخاطر التي يتعرض لها الوطن ويسعون دائماً لتعطيل عجلة الإنتاج. هذا الخطاب لم يقف عند حدود تعطيل عجلة الإنتاج بل وصل الأمر لاستخدام الخطاب المحبب لكافة الأنظمة لرفع اللوم عن كاهلها وهو خطاب المؤامرات والأيادي الخارجية، والمفارقة أن هذا الخطاب لم يتغير إبان فترة المجلس العسكري أو حكم الإخوان أو في الفترة الحالية.
لم تقف المسألة عند الخطاب بل امتد لسياسات تسعى لقمع حق الإضراب السلمي، فجاء المرسوم بقانون رقم ٣٤ لعام ٢٠١١ إبان فترة المجلس العسكري، فغلظ عقوبة الإضراب من ٥٠ ألف جنيه لتصل إلى ٥٠٠ ألف جنيه والحبس لمدة عام في حالة استخدم الجاني القوة أو العنف أثناء الوقفة أو النشاط أو العمل، أو إذا ترتب على الجريمة تخريب إحدى وسائل الإنتاج أو – وهنا تأتي التهم المطاطة- الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو الإخلال بالنظام أو الأمن العام.
ثم جاء قانون حماية الثورة الذي صدر إبان حكم الإخوان واعتبر الإضراب جريمة ضد الثورة (في مادته الرابعة ضمن جرائم الباب الخامس عشر والسادس عشر من الكتاب الثالث من قانون العقوبات الجنائية)، وهي أبواب من المفترض أن لا تستمر طبقاً لأحكام قضائية مصرية استندت لتصديق مصر على الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقاقية في التاسع من ديسمبر لعام ١٩٨١ والتي تقر حق الإضراب السلمي.
وها نحن اليوم عدنا لنسمع عن فض اعتصامات بالقوة، وعن كم هائل من العمال الذين أحيلوا للنيابة بتهمة التحريض على الإضراب، آخرهم كان ثلاثة عمال من شركة برولي برولين ببورسعيد، وهم (محمد أحمد إبراهيم، كمال محمد عرفات، محمد السيد راضي) بسبب تقديمهم طلب تصريح للإضراب. هذا بجانب إصدار قانون مثل قانون التظاهر الذي يجرم تعطيل الإنتاج في مادته السابعة على الرغم من صدور دستور ٢٠١٤ الذي أقر حق الإضراب السلمي في مادته الخامسة عشر وأكد على أن الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا انتقاصًا، ولا يجوز لأية قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها في مادته الثانية والتسعين.
المشكلة الرئيسية في هذا الشأن أنه حتى هذه اللحظة لم يفتح نقاش جدي حول أسباب الإضرابات، كما أن السلطة لم تقدم للعمال أي مبادرة جديرة بالتفاعل. فمنذ حكم المجلس العسكري وحتى اليوم، انهالت فقط المبادرات المطالبة للعمال بوقف الإضرابات دون الإعلان عن أي خطوات جادة أو اتفاقات مُحكمة بخطوات زمنية محددة تذيل من أوجاع العمال.
الأخطر أن هناك محاولة لإغفال حقيقة أن الإضراب هو حق أصيل للعمال من أجل تعزيز وحماية ظروف عملهم، لا منة من أحد كما أوضحت اتفاقيات منظمة العمل الدولية والاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقاقية التي صدقت عليهم مصر بل واستندت إليها أحكام قضائية سابقة أقرت حق الإضراب في مصر. كما إن الإضرابات ليست نزهة ترفيهية محببة إلى العمال أو الموظفون يسعون إليها كل صباح بل هي تعبير عن أنين لا يقبل الانتظار وفي معظم الأحيان يكون بعد طول انتظار. من يستطيع في تلك الظروف أن يقبل تأخير أجره الشهري ولو شهر واحد أو من يستطيع أن يلوم الأطباء على احتجاجهم على العمل في المستشفيات دون تأمين أو حماية من الشرطة، أو من يستطيع أن يقبل أن يأتي صاحب منشأة فينهي عمله تعسفياً أو يوقف العمل نهائياً داخل المنشأة أو يلغي مكافآت خطط على أساسها العامل التزامات تجاه بيته دون سابق إنذار.
توضح منظمة العمل الدولية مبادئ المنظمة بشأن الحق في الإضراب، بحيث تأكد أن حق الإضراب هو حق أصيل لكافة العمال لا يجوز تقييده إلا في حالات محددة وفي أضيق الحدود. تلك الحالات، وبعكس ترسانة القوانين المقيدة المصرية، هي فقط تلك التي يمكن أن تؤدي إلى تهديد حياة أو الأمان الشخصي أو صحة قطاع من السكان أو كلهم. وهنا لابد من التأكيد على الالتزام بالمعنى الدقيق لمصطلحات مثل "تهديد الحياة والأمان وصحة قطاع من المجتمع أو كله"، فالمقصود هنا أن يوضع ضوابط للإضرابات المتعلقه بالصحه العامة مثلا، مثل إضراب الأطباء بحيث يتعين على العاملين في قطاع الصحه الإعلان عن الإضراب بوقت أطول من باقي الإضرابات، وتحديد حد أدنى للقوة الغير مضربة يجب أن تظل في الخدمة أثناء الاضراب، وذلك بهدف ألا يتسبب الإضراب في تهديد الحياة أو الأمان الشخصي أو صحة قطاع من السكان أو كلهم.
ومن المهم أيضاً أن نعي أن المقصود بتقييد حق الإضراب هنا ليس إلغائه بل بوضع ضوابط للقطاعات المختلفه يتفق عليها عبر التفاوض مع العاملين في هذا القطاع، حتى لا يتسبب الإضراب في تهديد الحياه والأمان وصحة المجتمع وهذا ما فعله الأطباء حين استثنوا أقسام الطوارئ والحالات الحرجة من الإضراب. أيضاً تؤكد منظمة العمل على ضرورة أن لا تستغل هذه الأسباب المتعلقه بتهديد الحياة والأمان والصحة في تقييد حق الإضراب، بل وضرورة أن تضع تلك المعايير لجنة يراها أطراف النزاع محايدة وبعد التفاوض معهم.
الأمر الأهم إنه وإذا وصل الأمر لمنع الإضراب نهائياً في بعض القطاعات ممّن يمارسوا سلطة باسم الدولة مثل الشرطة -وهو وضع قائم بالفعل في بعض الدول- بحيث لا يشمل ذلك أبداً كافة العاملين المدنيين بالدولة، كما هو الحال في القوانين الحالية المصرية، فلابد وأن تكون إجراءات التقاضي أسرع ومحايدة وبالتأكيد لابد من وجود كيانات مستقلة ولها حرية التعبير حتى تتفاوض باسم العاملين. وهنا تعتبر إجراءات تعويضية للعاملين الذي ينتزع منهم حقهم الأصيل في الإضراب، فلا يمكن أن تمنع إضرابات من قطاعات محددة للغاية قد تهدد أمان وحياة المواطنين إلا عوضتهم بإجراءت مفاوضة وتقاضي سريعة ومحايدة.
لذلك وإذا نظرنا للقوانين المصرية قبل الترويج لخطاب وقف الإضرابات، ستجد أن حتى اللحظة لم يصدر قانون الحريات النقابية الذي يتيح بناء تنظيمات نقابية حرة مستقلة عن السلطة، بل مازال لا يعترف أصحاب الأعمال بواقع النقابات المستقلة في المنشآت ويرفضون التفاوض معهم. أيضاً وبناء على عدم إصدار قانون الحريات النقابية وطبقاً لقانون العمل رقم ١٢ لعام ٢٠٠٣ مازال من يحتكر الموافقة على الإضرابات هو التنظيم النقابي الوحيد المعترف به قانوناً من السلطة، وتكون الموافقة بنسبة الثلثين مع ضرورة الإخطار قبل الإضراب بأسبوعين. هذا بخلاف إجراءات التحكيم والمفاوضة الجماعية التي ما زالت محتكرة أيضاً من اتحاد عمال مصر طبقاً للقانون، فلا يمكن أن توقع اتفاقيات جماعية باسم النقابات المستقلة بل وقد تأخذ ١٨٠ يوم أي ٦ أشهر كما هو محدد في مواد قانون العمل الحالي وهذا بافتراض الالتزام بالقانون.
كما يحظر أيضاً الإضراب فيما يسمى المنشآت الاستراتيجية والتي يحددها منفرداً رئيس الوزراء، لا جهة محايدة من قبل العمال وأصحاب العمال. وإذا نظرنا نجد الكثير من تلك المنشآت التي حددها قرار رئيس وزراء رقم ١١٨٥ لسنة ٢٠٠٣ غير مدرجا في المنشآت التي يعد الإضراب بها مهدداً لأمان وحياة المواطنين. فتجد المنشآت التعليمية والمخابز ووسائل الموصلات العامة ووسائل نقل البضائع من ضمن المنشآت التي يحظر الإضراب فيها، وبالتأكيد هذه منشآت لا ترى منظمة العمل تعطيلها مهدداً لأمان وحياة المواطنين، وبالتأكيد لن تجد في تلك المنشآت أي إجراءات خاصة أو سريعة أو محايدة من قبل أطراف النزاع للتحكيم في نزاعاتهم.
الخلاصة أن الإضراب هو حق للعمال لمساءلة صاحب العمل ولتعزيز وحماية ظروف عملهم، وهو حق لا يقبل التعطيل ولا يمكن أن تطالب العمال بالتوقف عنه دون أن تعزز وتسرع آليات المفاوضة الجماعية التي تشمل العمال والدولة وأصحاب الأعمال. لا يمكن أن تطلب منهم وقف الإضرابات لعام دون أن تحمي الحرية النقابية وتنخرط مع العمال في مواثيق اجتماعية تحدد بوضوح ما يمكن أن يحصل عليه العمال الآن وما يقبل التأجيل بخطط زمنية محددة.
ففي الدول التي نجحت في تخطي أزماتها الاقتصادية أو تحولها الديمقراطي، كان الوصول لمواثيق اجتماعية بين الدولة والعمال وأصحاب الأعمال هو السبيل، لا الحديث الأجوف عن وقف الإضرابات انتظاراً للفرج، ولهذا حديث آخر.
تم النشر بمدي مصر بتاريخ 15 مايو 2014