سيادة القانون بين الدولة والبرلمان
منذ أن ارتبطت بالقانون، بداية من التحاقي بكلية الحقوق سنة 1983، وأنا أتعلم أن مبدأ سيادة القانون يعني سمو القاعدة القانونية على الكافة، وأن احترام الدولة للقانون من أهم مخرجات هذا المبدأ، وأن من أهم القيم القانونية التي يجب على الدولة بسلطاتها احترامها والعمل وفق مقتضياتها، هي المبادئ الدستورية، ومن أهم وأرسخ تلك القيم والمبادئ الواجبة الاحترام هو مبدأ الفصل بين السلطات، وهو ما يعني أن السلطة التشريعية تكون للبرلمان صاحب الاختصاص الأصيل في سن القوانين، وأن السلطة التنفيذية حينما تتدخل في عمل السلطة التشريعية، فإنه يجب أن يكون ذلك التدخل بقدر وفي حدود ما تتطلبه الضرورة والاستعجال، اللذان يمثلان الداعمة الأساسية الدافعة لاستخدام السلطة التنفيذية لسلطة التشريع استثناء، وكما عبرت المحكمة الدستورية العليا بقولها «إن الضرورات تقدر بقدرها»، بمعنى أنه لا يجوز للسلطة التنفيذية أن تستخدم المكنة التشريعية الاستثنائية المخولة لها دستورياً إلا وفقاً لما تمليه الضرورة والاستعجال، وهذا ما يمثل الأساس الدستوري لتنظيم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في إطار ممارسة مهمة التشريع.
ولكن العجيب والأغرب أن تجد بالمدونة التشريعية المصرية أن هناك نصوص قانونية، وليست دستورية، قد منحت رئيس السلطة التنفيذية حق إصدار تشريعات بعيداً عن الاشتراطات والمبادئ الدستورية الحاكمة لهذا الموضوع، وهو ما يشكل تحايلاً على المبادئ الدستورية، وهروباً من القواعد الفاصلة بين عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية، فكيف لقانون عادي أن يعتلي مكانة الدستور في تنظيم من له حق التشريع؟ وليس هذا فقط، بل إن الأمر يزداد غياً حينما تجد أن النص القانوني يبيح التشريع بمقتضى قرار جمهوري أيضاً، ومن المعروف أن القرارات الجمهورية إنما وضعت كوسيلة لممارسة رئيس الجمهورية لسلطته التنفيذية، وليست للتشريع من خلالها، وأن ما يصدر من رئيس الجمهورية في حدود تلك القرارات لا يعدو كونه مجرد قرارات إدارية أو لوائح فقط، دون مرتبة القوانين العادية.
فمثلاً بتاريخ 26 يناير سنة 2016 صدر العدد رقم 3 مكرر ( ب ) من الجريدة الرسمية، متضمنا قرار رئيس الجمهورية رقم 25 لسنة 2016 بتعديل بعض فئات التعريفة الجمركية الواردة بقرار رئيس الجمهورية رقم 184 لسنة 2013، وقد جاء ذلك القرار مستنداً إلى ما جاء بنصوص قانون الجمارك رقم 66 لسنة 1963 وتعديلاته، وذلك وفقا للمواد أرقام 6 و7 و8 و9 من ذلك القانون، والأخطر في الموضوع وما يؤكد ما سلف بيانه هو ما جاء بالمادة التاسعة بقولها :- قرارات رئيس الجمهورية المشار إليها في المواد 6، 7، 8 تكون في قوة القانون، ويجب عرضها على الهيئة التشريعية في دورتها القائمة فور نفاذها، وإلا في أول دور لانعقادها، فإذا لم تقرها هذه الهيئة زال ما كان لها من قوة القانون، وبقيت نافذة للمدة الماضية.
وعلى نفس النمط جاء القرار الجمهوري رقم 216 لسنة 2016، والخاص باستثناء أحد السعوديين في شأن تملك الأراضي الصحراوية ومعاملته مثل المصريين، وقد جاء ذلك القرار مبنياً على نص المادة الثانية عشر من أحكام القانون رقم 143 لسنة 1981 وتعديلاته في شأن الأراضي الصحراوية، وقد أجازت هذه المادة لرئيس الجمهورية إصدار قرار جمهوري بمعاملة أحد الرعايا العرب معاملة المصريين في شأن تملك الأراضي الصحراوية.
وعلى الرغم من أن هناك أبعاد اقتصادية في موضوع المثالين السابقين، إلا أنني أعرض الأمر من زاوية أحترام مبدأ سيادة القانون، وسمو القاعدة القانونية، وخضوع الدولة للقانون. فماذا يعني أن تمنح نصوص قانونية عادية سلطة التشريع لرئيس الدولة، بغض النظر عن محاولة الهروب في مقولة «القرار الجمهوري» إذ إن الأمر في حقيقته هو دخول واقتحام لسلطة التشريع المخصصة أصلاً للبرلمان من السلطة التنفيذية الواجب عليها دستورياً إحترام ذلك والعمل وفق القواعد الدستورية، إن المحصلة الأساسية في هذا الأمر تكمن في تكريس السلطات في يد رئيس الدولة، ولكن مما يجب الإشارة إليه أن المثالين سالفي الذكر قد صدرا وفقا لتواريخهما في مراحل تاريخية أقدم، ولكنهما مازالا ساريا المفعول، ومن زاوية ثانية أننا إذا قمنا بالبحث الدقيق في كافة المدونات التشريعية سنجد من هذه الأمثلة الكثير، والذي ربما يفوقها.
ومن هنا فإني أناشد السادة البرلمانيين إعمالاً حقيقياً لسلطاتهم الأساسية ومقومات مناصبهم في محاولة لتنقية التشريعات المصرية من مثل تلك النصوص التي تصب في مقامها الأول في العدوان على السلطة التشريعية ومبدأ الفصل بين السلطات.
كتب هذا المقال الأستاذ طارق عبد العال المحامي بالنقض وتم نشرة عبر منصة المصري اليوم بتاريخ 12 يونيو 2016