فن صناعة الدساتير وتعديلها
الدستور هو القانون الأساسي الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة، ويحدِّد السلطات العامة فيها، ويرسم لها وظائفها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، ويقرِّر الحريات والحقوق العامة، ويرتِّب الضمانات الأساسية لحمايتها. وسمو الدستور يعني أنه القانون الأسمى في الدولة، يعلو على ما عداه من قوانين وأعمال، وبمقتضى هذا السمو للدستور، فإن النظام القانوني للدولة يرتبط بالقواعد الدستورية ارتباطًا وثيقًا من شأنه أن يمنع أية سلطة عامة من ممارسة اختصاصات غير الاختصاصات التي قررها الدستور.
فالدستور هو الذي يخلق النظام القانوني في الدولة، فكل قانون يصدر يجب ألا يخالف أحكام الدستور، بما أن الدستور هو مصدر تلك القوانين من حيث وجودها وشرعيتها، كما أن الدستور يحدد اختصاص كل سلطة من السلطات العامة التي ينشِئها، لذلك تخضع هذه السلطات جميعها للدستور التي أوجدها وحدد اختصاصها وبيّن كيفية تكوينها.
وهذا المبدأ؛ أي سمو الدستور على ما عداه من قوانين، لا يسود إلا في الأنظمة الديمقراطية ولا وجود له في الأنظمة الديكتاتورية، التي لا يعترف الحكام فيها بالدساتير ولا بغيرها من القوانين؛ فجميع أعمالهم تقوم على السيطرة والاستبداد والقوة. وانطلاقًا من ذلك، فإنَّ القواعد الدستورية تعدّ السند الشرعي لتحديد نظام الحكم ولممارسة السلطات العامة في الدولة لاختصاصاتها، وهكذا فالسلطة لا توجد إلا بالدستور ولا تظهر إلا بالقدر الذي يحدده الدستور وينظّمه.
كما أن اللجوء إلى وضع أو تعديل الدستور، غالبًا ما يتوخى تحقيق جملة من الأهداف؛ كالبحث عن تحقيق الاستقرار السياسي في المجتمع، وإحداث توازن في العلاقات بين مختلف السلطات الدستورية، بما ينعكس إيجابًا على الحياة الاجتماعية والمجتمعية والاقتصادية، وتعزيز ثقافة الديمقراطية المتكاملة، وتمكين المواطن من متابعة وتقييم أداء المؤسسات التمثيلية بدورها كاملًا، وصولًا إلى تعزيز الثقة بين كافة الأطراف الناخبة والمنتخبة، علاوة على التركيز على ضمان علانية الحقوق والحريات الفردية المقيدة لسلطات الحكام، وتحديد العلاقات بين السلطات العمومية.
كذلك فإن سلطة تعديل الدستور تكون مؤسِسة، وبالتالي فهي نابعة من إرادة المشرع الدستوري ابتداءً، وليست مستقلة عنها. وتبدو حكمة واضعي الدستور من خلال إدراجهم إمكانية تعديله مسبقًا في الوثيقة الدستورية، وذلك وفقًا للحاجيات الملحة للمجتمع. وبالتعبير الواضح نقول: إن سلطة تعديل الدستور خاضعة للسلطة المؤسِسة الأصلية، الأمر الذي يجعل من سلطة التعديل سلطة تابعة ومشروطة، ومعنى هذا أنها محددة في عملها بكيفية يتحقق معها التوازن المعقول بين ضرورة تكييف الدستور مع الحقائق والوقائع الجديدة من جهة، ومع ضرورة الحفاظ على وحدة الدستور وهويته من جهة ثانية.
كما أنه من المفترض -والبديهي- في فقه القانون الدستوري بقاء الدساتير لفترة طويلة من الزمن تفوق عُمر القوانين العادية، وذلك لكون المعنيون بصناعة الدساتير، وفقًا لما هو مستقر عليه في العلوم السياسية والدستورية، يعتبرونها من الصناعات المعمرة، لكونها تقرأ واقع الحال في البلاد، وتستنهض مستقبلها على الأقل في مداه القريب، ومن ثم تتسم الصناعات الدستورية بطوال العمر نسبيًا، لكونها تحتوي على المبادئ العمومية التي تصلح أن تسود المجتمع لفترات طويلة بالمقارنة بالقوانين العادية.
وبمناسبة قبول مجلس النواب، من حيث المبدأ، لطلب تعديل مواد بالدستور من بينها زيادة مدة الرئاسة، والسماح للرئيس الحالي بالترشح مرة جديدة للمنصب بعد انتهاء فترتيه اللتين نصّ الدستور على عدم إمكانية ترشحه بعد انتهائهما، تذكرتُ مشهدًا من فيلم «أيام السادات»، قال فيه الممثل المبدع أحمد زكي، على لسان السادات، وكان على ما أعتقد يُخاطب أحمد بهاء الدين في حديقة الاستراحة الرئاسية بالقناطر الخيرية، عن رغبته في السماح بتواجد الأحزاب السياسية على الساحة، فكان الرد بأن الدستور ليس به تواجد للأحزاب السياسية، فرد عليه السادات «أن الدساتير أمثالنا هم مَن يقومون بصنعها». وبالفعل تم التصريح بتواجد الأحزاب السياسية قبل النص على ذلك التعدد في الدستور، وقبل أن يتم إطلاق الحملة الإعلامية المقصودة نحو تعديل نصوص الدستور، وكان ذلك تحت قيادة السيدة فايدة كامل، عضو مجلس الشعب حينها، وأُطلِق عليه اسم «تعديل الهوانم»، وقد تمّ تمريره متضمنًا تعديل للمدد الرئاسية من خلال إثارة ضجة إعلامية حول تعديل المادة الخاصة بالشريعة الإسلامية وجعلها المصدر الرئيسي للتشريع، وذلك عزفًا على المشاعر الدينية للمواطنين. وقد تمّ اغتيال الرئيس السادات ولم يستفد من هذا التعديل، وقد تمّ ذلك أيضًا في عهد مبارك، حينما سُمح بتعديل شروط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وقد جاء ذلك التعديل كنموذج يُضاف إلى العجائب في كيفية صناعة الدساتير، وكيفية صياغتها، فلم أرَ نصًا دستوريًا يتجاوز حدود الورقتين إلا بعد ذلك التعديل.
ولكن ما العمل في ظل وجود نص المادة 226 من الدستور، والتي جاء في فقرتها الأخيرة أنه «وفي جميع الأحوال، لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية والمساواة، ما لم يكن التعديل متعلقًا بالمزيد من الضمانات». وهذه الفقرة بالتحديد تعتبر مانعة من إجراء أي تعديل بشكل مجزوء أو غير متوافق معها، إلا إذا اشتمل التعديل على المادة 226 أيضًا.
أما إذا عاودنا الحديث عن الناحية النظرية، فأول ما يجب ذكره أننا أمام دستور حديث جدًا، حيث أنه قد صدر في عام 2014، وبالتالي لم يمر عليه من الزمن ما يدعو إلى تعديله، إذ أن ذلك لا يتم في حدود هذه السنوات إلا إذا ما تعلق الأمر بإعلانات دستورية مؤقتة، وهو الأمر غير المتوافر بصدد الدستور المصري، وخصوصًا إذا ما تتبعنا الموجات الإعلانية أو الإعلامية حول نيّة تعديل الدستور، أو السعي إلى تغيير بعض مواده، وهو حديث بدأ في الانتشار منذ سنتين على أقل تقدير، وهو ما لا يتناسب مع المكانة المرموقة دوليًا للفقه الدستوري المصري، وما أرسته المحكمة الدستورية من سجل حافل بالمبادئ الدستورية العظيمة في هذا الشأن وخصوصًا في عصرها الذهبي -فترة المستشار الراحل عوض المر (1991-1998). وأهم تلك المبادئ كان قيامها بتفسير النصوص الدستورية بشكل تقدمي، مستغلة في ذلك أحيانًا عمومية العبارات، أو مستخدمة المواثيق الحقوقية الدولية، باعتبارها تجسيدًا دوليًا للمكتسبات الحقوقية التي يجب أن تصل إليها مصر، أو بمعنى أكثر إجمالية، كل ما يضمن تقدمًا ورُقيًا وتطورًا في صالح المواطنين.
نش هذا المقال علي مدي مصر بتاريخ 7 فبراير 2019