وإن تحاورت المجتمعات… ما الذي يتغيّر؟
فكرة المجال العام تهدف إلى إتاحة ساحة من الحرية، تحترم حقوق الأفراد وتزيد من قوة المجتمع، لأن الاتصال الذي يحدث في المجال العام يخلو من الإكراه المؤسسي، كما أن الحوار الذي يتم خلاله، يمكن أن يُؤسس لخطاب ديموقراطي.
قدم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس مفهومه عن المجال العام في سياق نظريّة واضحة المعالم من خلال كتابه الصادر عام 1961 تحت عنوان: “التحوّل البنيوي للمجال العام”. وإن اعترف هابرماس نفسه بأنّ جذور هذا المفهوم ضاربة في القدم، انطلاقاً من المدينة الإغريقيّة التي كان فيها الفصل بين مجال الدولة أو الحكومة ومجال جمهور الشعب أو العامة قائماً ومتجسّداً بخاصة في ساحة السوق، وربّما في أماكن أخرى أيضاً. هذا إضافة إلى جملة من المؤسسات الاجتماعيّة التي برزت في القرن الثامن عشر في أوروبا، مثل المجلات والصحف والمقاهي في إنكلترا والصالونات الباريسيّة في فرنسا ونوادي القراءة في ألمانيا. وكانت جميعها فضاء لمناقشة القضايا أو المسائل الاجتماعيّة والسياسيّة، مناقشة نقديّة دفعت بالمجال العام ليشكّل سلطة في مواجهة الدولة، كانت من نتائجها الديموقراطيّة النيابيّة. هذا فضلاً عن وجود إشارات تثبت أنّ ابتكار هذا المفهوم يعود إلى الفيلسوف الألماني كانط. ويبقى إنجاز هابرماس في كونه اشتغل على هذا المفهوم بعمق أكبر وقدّمه في شكل نظريّة واضحة. وبالتالي فإنّ حداثة مفهوم المجال العام التاريخيّة لا تعني أنّه لم يكن ثمّة مجال عام من قبله، فقد وُجدت أشكالٌ من المجال العام قبل القرن الثامن عشر، حتى لدى اليونان، حيث تتناقشُ الطبقةُ المثقّفة القضايا التي تشغل «المدينة». وأيضاً، مثّل نقاش «المُستنيرين» في القرن السابع عشر حول القضايا العامّة نوعاً من المجال العام.
تكمن أهمية الحوار في إشراك المجتمع في تحديد مشكلاته أولاً ومن ثم العمل على حلها بأفكار واقتراحات قطاعات المجتمع نفسه.
ويشكل مفهوم المجال العام المساحة التجريدية التي يتناقش فيها المواطنون والجماعات المجتمعية المتباينة، ويتجادلون حول مختلف القضايا والاهتمامات العامة. ووفقاً لهذه الرؤية فإن المجال العام يفترض وجود مناقشات مفتوحة، يمكن من خلالها أن يوظف الجدل المنطقي للتأكد من تحقيق المصالح العامة، فالمجال العام يحث على حرية التعبير والحوار والمناقشة، ويُؤكد حق المشاركة في صُنع القرار السياسي في المجتمع، ويشجع المهمشين على الانخراط في الحوار العام حول مختلف القضايا والموضوعات.
القاهرة، مصر
وإذا ما عدنا إلى هابرماس، نجد أنه يقسم النظام المجتمعي إلى ثلاثة أنظمة فرعية هي: النظام السياسي ثم الأنظمة الوظيفية كالتعليم والصحة والخدمات، وأخيراً المجتمع المدني، ويعمل المجال العام هنا على ربط حالة التفاعل بين هذه الأنظمة وتوثيقها. حيث يتمتع هذا المجال بالاستقلال، ويكون قادراً على إدارة النقاش وترشيح الآراء المُقدمة، وتنقيحها وبلورتها حتى لا تبقى في النهاية مجرد آراء مطروحة، بل تصبح آراء لها أولوية وتقدير وتُعبر عن حالة النقاش العام التي دارت من خلاله. كما تتمتع هذه الآراء بقوة دورها، والتي تختلف عن القوة التي يتمتع بها النظام السياسي في المجتمع إذ إنها وليدة المجال العام كتعبير مستقل عن الرأي العام وتفاعلاته إزاء الشؤون العامة، وهو الذي يمنح الشرعية للنظام السياسي ذاته، الذي يعتمد على مخرجات المجال العام لإدامة هذه الشرعية عبر التعبير عن هذه الآراء المقدرة التي تنبع من الحوار داخل هذا الرأي العام.
وتكمن أهمية الحوار في إشراك المجتمع في تحديد مشكلاته أولاً ومن ثم العمل على حلها بأفكار واقتراحات قطاعات المجتمع نفسه، لأن المجتمع والأشخاص فيه أدرى بمشكلاتهم وبالأساليب الكفيلة بحلها. وطبعاً للعارفين فإن حل المشكلات هو الهدف الذي يمر ببناء التشاركات والتواصل مع المجتمع، ولهذا فإن الحوار المجتمعي يهدف إلى جمع المواهب والقدرات الموجودة داخل المجتمع المحلي واكتشافها والاستفادة من خبراتها.
ويشكل مفهوم المجال العام المساحة التجريدية التي يتناقش فيها المواطنون والجماعات المجتمعية المتباينة، ويتجادلون حول مختلف القضايا والاهتمامات العامة.
وتبدو أهمية الحوار في كونه بات حاجة إنسانية وعلماً يدرس ومهارة تكتسب إذ هناك أسس لهذا العلم ينطلق من خلال التعرف إلى مفهوم الحوار وأنواعه وأهميته في حياتنا اليومية سواء أكان هذا الحوار معداً له من قبل، أو من خلال الحوار التلقائي البسيط الذي يحصل بين الناس من دون إعداد أو ترتيب. ويعمل الحوار على تهميش ثقافة أحادية التفكير والإقصاء الذي يمارسه البعض تجاه الآخر، ما يساعد على التعرف إلى الآراء المطروحة وأسباب طرحها لكي يسهل الحوار من خلالها للوصول إلى إظهار الرأي وبيان وجاهته وقيام الحجة على الطرف الآخر. وتظهر أهمية الحوار بأنه حاجة إنسانية مهمة يتواصل فيها الإنسان مع غيره لنقل آرائه وأفكاره وتجاربه وقيمه. كما أن الشعوب أصبحت في حاجة ماسة إلى نقل حضارتها من خلال الحوار، كذلك فإن الحوار يساعد الإنسان على تقوية الجانب الاجتماعي في شخصيته من خلال حواره مع الآخرين وتواصله معهم. كما أن العصر الذي نعيش فيه أصبح لزاماً على الإنسان فيه أن يدرك مهارة الحوار من خلال القنوات والسب الإعلامية والمنصات الفضائية والإلكترونية التي تتسارع في الزيادة يوماً تلو آخر، فأصبحنا في عالم متسارع من الاكتشافات العلمية والانفجارات المعرفية في جميع مجالات الحياة.
كما يكتسب الحوار أهمية بالغة من خلال حفاظه على الوجود الإنساني، وتشجيعه على التفاهم والتواصل والعيش في سلام، وأيضاً من خلال تعديل وجهات النظر أو تعديلها في الأمور والموضوعات المختلفة.
وإجمالاً يمكننا القول إن فكرة المجال العام تهدف إلى إتاحة ساحة من الحرية، تحترم حقوق الأفراد وتزيد من قوة المجتمع، لأن الاتصال الذي يحدث في المجال العام يخلو من الإكراه المؤسسي، كما أن الحوار الذي يتم خلاله، يمكن أن يُؤسس لخطاب ديموقراطي، ويشكل الحوار وسيلة للحفاظ على تحقيق التفاهم وتقريب بين الرؤى والإقناع بضرورة تعديل التصورات الخاطئة. كما تكمن أهمية الحوار في السماح لجميع الأطراف بطرح أفكارهم، التواضع واحترام الآخر، الاستماع الجيد وعدم مقاطعة الآخرين، تهيئة المناخ لحوار هادئ.
وهذا ما يحتاجه المجتمع المصري بشدة في ظل ضبابية مسيطرة على الساحات المختلفة، تبعدنا من تثمين دور الحوار المجتمعي، وأهمية جعل مساحة المجال العام في تزايد واتساع مستمر، وقادرة على استيعاب كل الأطياف، وقبول الاختلافات الفكرية والمنهجية. وهذا ما يتوافق مع مفاهيم رئيسية لنمو المجتمع وتطوّره، في أمة تسعى إلى تثبيت الحضور في الساحة الدولية بشكل أكثر فاعلية وبصورة أكثر إشراقاً، إذ إنه من البديهي في ظل التطورات العالمية التي تتلاحق بسرعة أن تكون هناك محاولات لفرض هيمنة فكرية، وتحقيق نموذج فكري معين، ولن تستطيع أي دولة مجابهة ذلك الأمر إلا من خلال إثراء مفهوم الحوار البناء، وتحقيق نموذجي لمفهوم المجال العام.
نشر هذا المقال علي موقع دراج بتاريخ 12 ديسمبر 2019