هل تشجع الحكومة على الاشتراك بالجرائم؟
يبدو أن الدولة فشلت في إقناع وتشجيع المواطنين بالتعاون معها والإبلاغ عن أماكن الأنفاق الحدودية، فقررت الدولة ترهيبهم عبر قرار بقانون أصدره رئيس الجمهورية في إبريل الماضي حمل رقم 21 لسنة 2015. القانون يعاقب بالسجن مدى الحياة كل من أنشأ نفقًا أو طريقًا أو ممرًا عبر الحدود لاستخدامه في نقل الأشخاص أو المعدات أو للتواصل مع دولة أو جهة أجنبية أو أحد رعاياها، ويعاقب بذات العقوبة كل من علم بوقوع تلك الجريمة أو وجود مشروع لارتكابها ولم يبادر بالإبلاغ قبل اكتشافها.
تخيل معي، مجموعة من الأفراد عقدوا العزم ووضعوا مشروعاً لإنشاء نفق على الحدود سواء لتجارة السلاح أو لتجارة البشر أو للعمليات الإرهابية وأحضروا معدات الحفر، وشخص آخر مسالم قاده حظه العثر إلى العلم بذلك المشروع وعرض عليه الاشتراك لكنه رفض تماما وعاد إلى بيته وجلس يتابع التلفاز، ثم تم القبض على الجناة أثناء الحفر وقبل تمام الجريمة، هل تصدق أن الدولة تعتبر هذا الشخص الذي رفض الجريمة وليس له أي مصلحة من ورائها ولا يشجعها، المتكاسل أو الجبان أو المتمسك بالعرف والتقاليد القبلية؛ أشد خطراً وجرماً ممن خططوا وبدأوا في إنشاء النفق لتهريب السلاح؟
وفقاً للقانون سابق الذكر ونصوص الشروع في الجريمة (مادة 46 عقوبات)، فإن عقوبة هؤلاء الذين اتفقوا وخططوا وشرعوا في إنشاء نفق هي السجن المشدد، أما الشخص الذي علم بمشروع الجريمة ورفض الاشتراك فيها فعقوبته المؤبد؛ بل لو نجح هؤلاء المجرمون في جريمتهم وأتموا النفق وبدأوا في استخدام النفق في نقل الأشخاص والمعدات وتكسبوا من وراء ذلك الملايين، فلن يكونوا أسوأ حظاً من الشخص الذي رفض مشاركتهم، فجميعهم عقوباتهم القانونية السجن مدى الحياة. بل والأعجب من ذلك أنه إذا ما هرب الجناة بعد علم الدولة بجريمتهم وبدء التحقيق فيها وساعدهم شخص آخر وتستر عليهم وأخفى أدلة الإدانة وقدم معلومات خاطئة للحكومة، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين (مادة 145 عقوبات). هذا ما ينتج عندما تتولى الحكومة والشرطة ورجال الأمن عملية التشريع، تشريعات عنيفة، قاصرة، وغير منطقية ومتضاربة، وبالضرورة غير دستورية، تضر أكثر ما تفيد.
من المثير للسخرية أيضاً في هذا القانون الجديد أنه يعاقب المواطن بالسجن مدى حياته على عدم تقدمه ببلاغ على فعل غير مجرم أصلا. فالقانون يعاقب من لم يبلغ عن مشروع جريمة إنشاء نفق، في حين ووفقاً للمادة 45 من قانون العقوبات والخاصة بتعريف الشروع وضوابطه فإن وجود مجرد فكرة وعزم لدى شخص أو مشروع وتحضير مسبق لإنشاء نفق ليس بالفعل المعاقب عليه. ونتيجة لذلك فإنك لو تخابرت فعلاً مع دولة أجنبية بهدف الإضرار بمركز مصر الحربي، (مادة 77 عقوبات) تكون عقوبتك السجن المشدد، أما إذا ما كنت شخصاً مسالماً وكسولاً ولم تبلغ عن شخص آخر لم يرتكب جريمة ولا يجوز محاكمته ولكن لديه نية ومجموعة أفكار ومشروع للتواصل مع أحد أقاربه مستخدماً ممراً أو نفقاً على الحدود، تكون عقوبتك السجن المؤبد. وكأن رسالة الحكومة التخابر أفضل لك.
الأصل أن مجرد عدم الإبلاغ عن الجرائم ليس بجريمة، فمثلا لو شاهدت شخصًا يصدم سيارة شخص آخر ولم تبلغ السلطات فليس ذلك بجريمة. وكذلك من علم بوقوع جريمة قتل ولم يبلغ عنها فليس بجانٍ. أما الاستثناء فهو عقاب من علم بوقوع نوع معين من الجرائم أو وجود مجرد مشروع لنوع آخر من الجرائم ولم يبلغ السلطات. وانطلاقاً من أن «العقوبة يجب أن تتناسب مع وزن الجريمة وملابساتها»، هكذا تقول المحكمة الدستورية العليا المصرية، فإن المشرع المصري كان دائما ما يضع عقوبة معقولة على مجرد عدم الإبلاغ عن جرائم حددها. فمثلا من علم ولم يبلغ السلطات بارتكاب شخص لفعل يؤدي إلى المساس باستقرار البلاد أو وحدتها وسلامة أراضيها أو علم بالتحاق أشخاص بالقوات المسلحة لدولة في حالة حرب مع مصر أو تخابر شخص معها أو مع من يعمل لمصلحتها للقيام بأعمال عدائية ضد مصر أو جريمة تسهيل دخول العدو للبلاد، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة (مادة 84 عقوبات). فرغم فداحة وخطورة الجرائم المرتكبة وتطابق بعضها مع جريمة إدخال اشخاص عبر نفق إلا أن المشرع قديماً لم يخرج عن الضوابط الدستورية للتشريع وأنزل عقوبة معقولة ومتناسبة على مجرد عدم الإبلاغ دون الاشتراك بأي شكل أو التستر.
هل تشجع الدولة المواطنين على الاشتراك في الجرائم أم الإبلاغ عنها؟ إن كنت مسالماً كسولاً ولم تشارك بأي شكل في جريمة تتساوى لدى الدولة والقانون، بل قد تكون أشد ضرراً في بعض الحالات -كما سبق ذكره- مع شخص مجرم جشع. هل قرأت الحكومة من قبل أحكام محكمتنا الدستورية وقولها إنه يجب أن يكون «الجزاء الجنائي حائلاً دون الولوغ في الإجرام، ملبياً ضرورة أن يتهيأ المذنبون لحياة أفضل، مستلهماً أوضاع الجناة وخصائص جرائمهم وظروفها؛ نائياً بعقابهم عن أن يكون غلواً أو تفريطاً بما يفقد القواعد التي تدار العدالة الجنائية على ضوئها فعاليتها»؟
الأنفاق الحدودية وفي الظروف المحلية الحالية بالفعل أمر يهدد الأمن الوطني وحياة الإنسان وسلامته، ويجب بل يلزم على الحكومة مجابهة ذلك بكل الطرق المشروعة إلا أن ذلك ليس بمبرر لخروج الدولة عن رشدها وعقلها، فالدول لا تدار بالانفعالات والعواطف والرغبة في الانتقام. و«السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديراً بأن الأصل في النصوص التشريعية ــ في الدولة القانونية ــ هو ارتباطها عقلاً بأهدافها باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف». من حكم المحكمة الدستورية في القضية 114 لسنة 21 قضائية.
عملية التشريع والتجريم عملية حساسة، تتحسب لها الدول العاقلة وتقيس وتدرس أبعاد وفوائد وأضرار التشريع ومدى قدرته على تحقيق غايته؛ ودائما ما يكون لتلك الدول سياسة جنائية واضحة تعتمدها، لكن هناك دول لا تعلم إن كان لديها سياسة جنائية من عدمه، لأنها غالبا لا تعرف ماهيتها. عندما تساوي الدولة في العقوبة بين من يصفع شخصاً وبين من يقتله فهي تشجع على القتل، ومن هنا كان مبدأ التدرج في العقوبة. وأيضًا تخلق الدولة المجرمين والخارجين عن القانون وتشجع على الجريمة، عندما تساوي في العقاب بين من نفّذ جريمة بالفعل ومن لم يشارك فيها بأي شكل.
تم نشر هذا المقال عبر موقع المصري اليوم بتاريخ 16 مايو 2015