من أجل هيكل جديد لدخول الفريق الصحى
نظام دخل الموظف العمومى فى مصر محمل بكثير من المشكلات، أهمها تدنى الرواتب أو الأجور كثيرا عن مستويات وأسعار سوق العمل. وذلك ما يؤثر على مستويات التحفيز، ويساهم بقدر كبير فى إضعاف دوافع تحسين جودة الخدمات.
وهذا ما ينطبق أيضا على الأطباء المصريين الحكوميين، فهم موظفون رسميون فى قطاع الخدمات المدنية، مهما تباينت دخولهم أو مناصبهم داخل الهيكل التنظيمي لأعمالهم، تسرى عليهم القوانين واللوائح العامة للعمل، التى من أهمها قانون 147 لسنة 1978، المعدل بالقانون 115 لسنة 1983. لذلك لا يمكن تناول قضية ما يسمى بكادر الأطباء، دون معرفة وفهم حال الموظف العمومى فى قطاعات الخدمة المدنية الحكومية، والخدمة المدنية فى مصر على العموم (كما جاء على لسان د. ليلى البرادعى ود. ضحى عبدالحميد بندوة بالمركز المصرى للدراسات الاقتصادية بعنوان «الاصلاح المالى لهيكل الأجور» 2010).
فى هذا السياق ننظر إلى إشكالية وأوضاع الأطباء والفريق الصحى وبخاصة الشباب منهم، وممثليهم فى حركة أطباء بلا حقوق، وفى نقابة الأطباء، وإلى تلك المواجهة بينهم وبين وزارة الصحة تحديدا، باعتبارها صاحبة العمل بالنسبة إليهم (وهذا ليس دقيقا على الإطلاق).
وتتصاعد المواجهة بدعوة من بعض «أطباء بلا حقوق» وبعض قيادات النقابة، وفقا لقرار من الجمعية العمومية سابقٍ، إلى الإضراب الجزئى ثم الكلى ثم الاستقالة إلخ! كحقوق كفلها لهم الدستور تعبيرا عن تردى أحوالهم المالية والمهنية. باعتبار ذلك أعلى مستويات الضغط على وزارة الصحة حصريا، رغم أن القصة برمتها مسئولية الحكومة ككل، فوزارة الصحة فى واقع الحال ليست صاحب العمل الوحيد، وليست أيضا المسئولة عن هيكل الدخول والأجور العام فى قطاع الخدمة المدنية الحكومية.
فى كثير من بلدان العالم الثالث تأتى الخدمات والرعاية الصحية فى المرتبة الرابعة أو الخامسة، فى سلم أولويات هذه الأمم النامية (بعد الدفاع والأمن الداخلى والقضاء والإعلام)، وغيرها من القطاعات التى تمثل جوهر السلطة والأمن للدولة، وذلك بالطبع ما يشكل عبئا إضافيّا على قطاعات خدمية حيوية كالصحة والتعليم، فالمدرس قد يلجأ إلى مسارات بديلة لعمله فى المدرسة الحكومية، بتشجيع الدروس الخصوصية وتأسيس هياكل لها فى كل المستويات لتعويض تردى أجره الحكومى! وكذا كثير من الأطباء لديهم مشاريعهم الطبية الخاصة كالمستشفيات، والمعامل ومراكز الأشعة الخاصة التى تُدِر عليهم أرباحا كبيرة فى ظل انفلات واحتكار الأسواق الطبية، بواسطة نخب من الأطباء المحظوظين بهبات اجتماعية خاصة! والأطباء على العكس من المدرسين، ليسوا كتلة واحدة متجانسة فالمحظوظون فقط منهم يملكون هذه الهبات الاجتماعية الخاصة والتى تُورَّثُ كالغنى والفقر والوضع الأكاديمى.
ومن مفارقات هذا المجال، قد يكون من المهم أن نعرف أن 30% من قوة الأطباء العاملين، والأكثر تأهيلا أكاديميّا وخبرة، يعملون بجوار مشاريعهم الطبية الخاصة فى المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية والمنصورة، تاركين 19% فقط من صغار الأطباء، الأقل ثروة ومكانة وتأهيلا للعمل فى صعيد وريف مصر، الذى يعيش فيه 57% من إجمالى السكان، ما يُظهر فى أى اتجاه يجب أن يتم إصلاح المنظومة الطبية ككل، لإدارة أزمة شباب الأطباء فيها.
لم تكن قواعد السوق ضمن الاعتبارات التى شكلت نظام الأجور فى الحكومة المصرية، منذ وقت يسبق بكثير تأسيس مكتب توظيف القوى العاملة فى منتصف الستينيات! حيث حدد قانون جدول تسعير الشهادات التعليمية فى سنة 1951 راتبا ابتدائيّا ثابتا لكل شهادة تعليمية، ونظام علاوات دوريّا، بناء على الأقدمية ومستوى التعليم، بغض النظر عن المنصب المشغول، ومازالت الأجور الأساسية فى الحكومة المصرية توضع بهذا الأسلوب (كما ورد بدراسة رفيق أسعد بعنوان «تأثير سياسات التعويضات والتشغيل على سوق العمل المصرى»، دورية البنك الدولى الاقتصادى 1997) وترتبط المكافآت بالدرجة الوظيفية على حدود دنيا وقصوى لكل درجة، ويمنح الموظف علاوة دورية طالما لم يتجاوز أجره حدّا أقصى معينا للدرجة الوظيفية التى يشغلها، وبالإضافة إلى الأجر الأساسى، يستطيع الموظف الحصول على بدلات للأعمال الخطرة، وبدلات تتعلق بطبيعة العمل وتستطيع جهة العمل دفع حوافز، بناء على الأداء المتميز، بحيث لا يزيد، قانونيّا، المجموع الكلى لذلك على 100% من الأجر الأساسى.
وذلك كله لا علاقة له بقوانين السوق والعرض والطلب! الذى يطبق فى مسارات أخرى خاصةٍ، وليس بعيدا عن مجال الموظف العمومى الحكومى! وفى كل الأحوال ظلت الأجور الحقيقية فى الوظيفة العامة ثابتة، وظلت أدنى من مستوى الأجر، الذى يكفل الحاجات الأساسية للمعيشة فى ظل قوانين السوق والاقتصاد الحر، والتضخم وارتفاع الأسعار فى السكن والعلاج والغذاء والتعليم والترفيه وخلافه.
ما يعد خللا هيكليّا ومجتمعيّا أدى إلى تدنى أداء الجهاز الوظيفى العمومى/البيروقراطى وترهله ولا مبالاته وتفشى الفساد المالى والإدارى فى جوانبه وما جعله أشبه بكيان أسطورى متضخم عديم الكفاءة والفاعلية وفى حاجة إلى جراحة عاجلة وإعادة هيكلة عميقة وإعادة توزيع وظيفى وتحويلى لتلك الأعداد الكبيرة فيه!
ولذلك فإن أردنا دورا آخر للدولة فى التعليم والصحة، فعلينا البحث عن طريق ثالث يضمن مستوياتٍ للدخل للفريق الصحى، يكفل الحاجات الأساسية للحياة الكريمة فى سياق منظومة صحية متطورة وجديدة، يكون قاعدة الأساس فيها التأمين الصحى الشامل الذى تلوح به الدولة منذ سنوات عديدة. فكيف نصل إلى ذلك؟ وما هى ضرورات مواجهة المرحلة الانتقالية التى قد تمتد إلى سنوات إذا أردنا الحفاظ على القوى البشرية الطبية وتحفيزها على العمل الصحى العام، بخاصة فى الريف والمناطق النائية وفقا لعقود عمل لحزمة من الدخل(Remuneration package) لا تقل عمَّا يتقاضاه الأطباء وغيرهم فى القطاع الخاص أو فى المؤسسة العسكرية على سبيل المثال. وذلك ما يحتاج إلى إرادة سياسية قوية وشجاعة، فى تصميم عقود العمل التى قد تبرمها وزارة الصحة أو صندوق التأمين الصحى، كنواة للنظام الجديد، بعيدا عمَّا يسمى بكادر خاص ــ لأى كان ــ فذلك الباب الخفى للفساد والتمييز الإدارى والمالى.
تم نشر هذا المقال في جريدة الشروق يوم 23 فبراير 2014