التأمين الصحي في مفترق الطرق
أسست عديد من دول العالم أو توسعت في نظم التأمين الصحي الشامل اﻹلزامي برغم اختلاف اﻷساليب التي اتبعتها في ذلك أو النتائج التي تربت عليها.
وصنفت هذه اﻵليات التأمينية غالبًا تحت مسمى التأمين الصحي اﻻجتماعي (النظام البسماركي في ألمانيا في عام 1883)، واعتبرت وسيلة لتمويل النظم الصحية لتحقيق هدف التغطية الصحية الشاملة الذي يتضمن إتاحة الخدمات الصحية بجودة لجميع المواطنين دون أن يعانوا من أية صعوبات مالية بسبب تكلفة العلاج ما جعل هدف التغطية الصحية الشاملة محورًا أساسيًّا لتحقيق العدالة اﻻجتماعية لكل مواطن دون تمييز.
ومنذ سنوات بعيدة وضعت مصر هدف التغطية الصحية الشاملة بوضوح كهدف إستراتيجي ﻹصلاح النظام الصحي فيها ، كما جاءت المادة 18 في الدستور اﻷخير (2013-2014)، كرافعة دستورية تمهد الطريق للوصول إلى التغطية الصحية الشاملة إضافة إلى الورقة البيضاء التي وضعتها وزارة الصحة بالمشاركة مع منظمات المجتمع المدني وشركاء التنمية، التي أكدت على أن التغطية الصحية الشاملة هي رؤية إستراتيجية للقطاع الصحي المصري وأن أعمدة خطة الدولة للتنمية المستدامة (20ـ30) تضم اﻷهداف المتعلقة بالتنمية الصحية الشاملة كرؤية كلية للتنمية في مصر حتى عام 2030.
في هذا السياق نجد أن التأمين الصحي اﻻجتماعي المصري له تاريخ ممتد، بدأ في منتصف الستينيات (1964) حين صدرت عدة قوانين منظمة للتأمينات اﻻجتماعية والصحية وكان هدفها المعلن وقتها هو كفالة الحق في الحماية الصحية التأمينية تدريجيًّا لجميع المواطنين في عشر سنوات، وهذا ما لم يتحقق حتى يومنا هذا!
ومنذ منتصف التسعينيات (1996) جرت محاولات متكررة ﻹصلاح النظام الصحي هيكليًّا والذي كان يتعرض ﻻنهيار مستمر وانتقادات شديدة بسبب ضعف أدائه وغياب رؤية تطويره باتجاه اﻹنصاف والعدالة في توفير وتوزيع الموارد اللازمة له حيث انخفض اﻹنفاق الحكومي على الصحة حتى حدود غير مقبولة وارتفع إنفاق اﻷسر من جيوبهم إلى مستويات خطرة (60% من اﻹنفاق الكلي) ما هدد الكثير من المواطنين بمزيد من الفقر العوز من جراء الحصول على الخدمة الصحية.
كما كان التأمين الصحي القائم يعاني أيضًا من تعدد قوانينه وضعف موارده وتردي جودة خدماته ما جعله في مقدمة المحاور التي تتطلب إصلاحًا وإعادة هيكلة من خلال تأسيس نظام جديد وصياغة قانون موحد يضمن الوصول إلى التغطية الصحية الشاملة، سكانيًّا وجغرافيًّا وخدميًّا ليحقق هدف العدالة اﻻجتماعية في الرعاية الصحية. وﻷن جوهر مفهوم التأمين الصحي باعتباره آلية ووسيلة لتمويل الخدمات الصحية قائمًا على المشاركة في تحمل وتوزيع أعباء ومخاطر المرض المتصاعدة والعمل كطرف ثالث مستقل (صندوق مالي تأميني) بين مقدم الخدمات ومتلقيها، برزت الحاجة إليه بشدة في العشرية اﻷخيرة من تفاقم اﻷزمة الصحية.
وقبيل ثورة يناير كثفت الحكومة جهودها في ثلاث محاولات متكررة ﻹصدار قانون جديد موحد للتأمين الصحي، وقد باءت جميعها بالفشل لغياب اﻹرادة السياسية لتحقيق العدالة اﻻجتماعية في الصحة بسبب هيمنة "بناءات القوة" التي كانت تتحكم في النظام وتدفع باتجاه معاكس نحو تشجيع خصخصة وتسليع القطاع الصحي وتخلي الدولة عن دورها اﻷساسي في التنمية وكفالة الحق في الصحة والتعليم.
يناير علامة فارقة
ومع يناير من عام 2011 بزغت شمس جديدة على إرادة ورؤية مجتمعية بأهمية الملف الصحي والتأمين الصحي وتشكلت لجنة جديدة في وزارة الصحة لصياغة ومراجعة قانون التأمين الصحي الشامل، ضمت ممثلين وخبراء من مختلف اﻻتجاهات، بما فيهم منظمات الحق في الصحة واﻷكاديميين لوضع قانون وتجهيزه للتنفيذ في ظل التطورات الثورية التي شهدتها البلاد.
وفي أغسطس من عام 2014 كانت اللجنة المنوط بها وضع قانون قد انتهت من مسودته اﻷساسية وطرحتها للحوار المجتمعي على مختلف اﻷطراف من كيانات أكاديمية ومنظمات أهلية ونقابات وأحزاب مختلفة لضمان أكبر مساحة من المشاركة المجتمعية حول المشروع الذي يعتبر عمودًا أساسيًّا في إصلاح المنظومة الصحية لتحقيق التغطية الصحية الشاملة والعدالة في الصحة تمهيدًا لوضع خطة تنفيذه اﻷكثر تفصيلًا فنيًّا وماليًّا لعرضها على مجلس النواب القادم.
وفي نفس الفترة الزمنية الممتدة من عام 2011 إلى 2015 صدرت عدة قوانين تأمينية (بقرارات جمهورية سيادية) لتلبية احتياجات عاجلة من وجهة نظر الحكومة للوصول بالحماية الصحية إلى بعض الفئات والشرائح المحرومة مثل المرأة المعيلة واﻷطفال تحت السن الدراسي وأخيرًا الفلاحين في ظل آليات النظام القديم القائم المثقل باﻷعباء والمشاكل.
وهي قوانين تبدو محملة بالكثير من النيات الحسنة وإن كانت ذات طبيعة سياسية تفتقد آليات التنفيذ الفعلية كما أنها تعمق من تفتت وأعباء النظام القائم أكثر من اعتمادها على دراسات واقعية متأنية تضمن اﻹصلاح الحقيقي الهيكلي واستدامة الموارد واستفادة الفئات المستهدفة منها. ما أثار العديد من التساؤلات بشأن مستقبل المشروع التأميني اﻷساسي الذي يستهدف الشمول سكانيًّا وخدميًّا وجغرافيًّا ويحتاج إلى إرادة سياسية قوية ورؤية واضحة للبدء في تنفيذه بتوفير الموارد البشرية والمالية اللازمة له، الذي يستلزم تطويرًا سريعًا في كافة المنشآت الصحية العامة المملوكة للدولة لتكون قاعدة اﻷساس لتحقيق التغطية الصحية الشاملة والعادلة لكافة المواطنين والتي تضمن تنظيم ودمج القطاع الصحي الخاص العشوائي الذي يهيمن على تقديم الخدمات الصحية كليًّا.
وذلك في مجمله ما يجعل قضية التأمين الصحي وتحدياتها قضية ساخنة ومحلًّا للصراع والجدل وما يضع حلم التأمين الصحي والتغطية الصحية الشاملة والعدالة اﻻجتماعية في الصحية في مفترق الطرق، بعضها ﻻ يدعو إلى اﻻرتياح واﻻطمئنان بل إنه يثير الكثير من الغموض واﻻلتباس في مواجهة سعي العديد من اﻷطراف اللاعبة على رقعة الصراع، الذين ﻻ يرون في التأمين الصحي إلا تهديدًا لمصالحهم الخاصة المتنامية في قطاع الصحة وفي تسليع الخدمات الصحية، وتحقيق مزيد من اﻷرباح من عشوائية السوق الطبية.
ذلك ما يجعلنا نتساءل بقلق في اللحظة الراهنة : هل تنجح القوى التي دفعت إلى التغيير ووضع الرؤية اﻹستراتيجية للتغطية الصحية الشاملة والتأمين الصحي في اﻻستمرار في دفع مسار اﻹصلاح الصحي الحقيقي لتحقيق العدالة واﻹنصاف في الصحة كحق إنساني كفله الدستور، أم تفشل وتعود قوى تسليع الصحة وآليات السوق في فرض هيمنتها على مستقبل نظامنا الصحي؟
تم نشر هذا المقال بجريدة الأهرام ابدو بتاريخ ٢٤ يوليو ٢٠١٥ ياللغة الفرنسية