فى جذور المشكلة الصحية وأزمة ألبان الرضع الأخيرة
من الأقوال المأثورة (إنك إذا أردت معرفة الحقيقة فى أسباب أية مشكلة، عليك البحث فى جذورها، بالتساؤل بلا تردد، خمس مرات على الأقل، لماذا؟ لماذا حدث ما حدث؟
والمعروف علميا فى إطار السياسات الصحية والنظم أن هناك خمسة مفاتيح تحكم أساسية، العمل عليها فى اتجاهات مختلفة، يؤدى بطبيعة الحال إلى نتائج متباينة! وهى أساليب تمويل النظم، وأنماط هيكلة هذه النظم، والتشريعات والقوانين واللوائح الحاكمة لها، وآليات الدفع والتحفيز لمقدمى هذه الخدمات، إضافة إلى ثقافة وسلوكيات متلقى هذه الخدمات.
فى هذا السياق يمكن تحديد طبيعة المشكلة الصحية لدينا وانعكاساتها الأخيرة فى أزمة ألبان اﻷطفال الرضع!
وفى رصد مختصر لما حدث أخيرا، أصدرت وزارة الصحة قرارا وزاريا، يتم بموجبه تغيير أسلوب الحصول على الألبان المدعمة وتحويل مهمة التوزيع إلى منافذ وزارة الصحة المختلفة باستخدام كروت ذكية لمستحقى هذا الدعم. وهنا اندلعت الأزمة وتفاقمت أعراضها باختفاء الألبان ونقصها من السوق الحر. وفى ظل هذه الأزمة قرر جهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة التدخل فى الموقف باستيراد ما يقرب من 30 مليون علبة لبن لتوفير الألبان غير المدعومة فى السوق الحر بأسعار لا تتجاوز تكلفة الشراء بهدف الحد من المغالاة فى الأسعار واحتكار السوق لبعض الشركات المستوردة ومنها شركة عامة مملوكة للدولة.
وكان من أهم أسباب وزارة الصحة حول قرارها الذى أدى إلى تصاعد الأزمة أن الشركة العامة لم تستطع التحكم فى تسرب هذه الألبان المدعمة (بسعر 3 جنيهات للعلبة) من التداول فى السوق الخاص لتباع فى أغراض أخرى بأضعاف سعرها المدعوم، بالإضافة إلى تغذية الأطفال الرضع الأكثر احتياجا لهذا الغذاء التعويضى لأسباب صحية واجتماعية.
فما هى حقيقة التشخيص الصحيح لطبيعة الأزمة؟ باستخدام تحليل أدوات التحكم الخمس المشار إليها سلفا؟
فى جانب المفتاح الأول للتحكم الخاص بتمويل المنظومة الصحية:
نرى أن ثمة خللا هيكليا فى أسلوب تمويل النظام الصحى عموما، يدفع دفعا لتفاقم مثل هذه الأزمات؛
فالواقع أن الإنفاق العام على الرعاية الصحية من الخزانة العامة للدولة، كان وما زال إنفاقا متدنيا، برغم ما التزمت به الدولة دستوريا، وبرغم المطالبات المتعددة بضرورة زيادته لتلبية الاحتياجات الصحية الملحة. وفى المقابل يتصاعد الإنفاق الذاتى من جيوب المواطنين إلى حدود خطيرة تجاوزت 60% من إجمالى الإنفاق الكلى من احتياجاتهم من الخدمات الصحية والأدوية. ما يجعل قضية ألبان الرضع ليست استثناء من هذه المعادلة المختلة، وما يحرم الشرائح الأولى بالرعاية والأفقر من إمكانية حصولها على هذه الألبان بسبب المعوقات والإجراءات المعقدة والبيروقراطية لوصول الدعم المخصص لهم والذى يتناقص باستمرار فى الموازنة العامة، بدعاوى عجز الموازنة المرتفع.
وفى جانب مفتاح التحكم الثانى الخاص بالتشريعات والقوانين واللوائح الحاكمة لهذا النظام:
سوف نجد غابة من التشريعات تفتقد آليات التنفيذ ومنها ما يخص الأزمة الأخيرة، ففى حين هناك قانون صادر من عام 2012 خاص بالتأمين الصحى على الأطفال تحت سن الخامسة والرضع منوط بتنفيذه الهيئة العامة للتأمين الصحى، تلك الهيئة العريقة التى تأسست فى منتصف الستينيات، نجد غيابا كاملا لدورها فى هذا الشأن الحيوى أو تجاهله على الأقل من الوزارة التى تصدر القرارات لتنظيم توزيع اﻷلبان المدعومة.
كما حدث بقرارين وزاريين أخيرا، الأول برقم 566 والتانى بعده بيومين برقم 637، وقد صدر القرار الثانى كعلاج لما أحدثه القرار الأول من أزمة، ولتخفيف آثار التشدد فى توزيع الألبان المدعومة. ما يعكس الخلل فى عملية صنع القرار أو دراسته دراسة متأنية قبل صدوره، بما يجعله قابلا للتنفيذ، ومحققا لأهدافه.
وكان من الأجدى فى هذا الشأن الاعتماد على هيئة التأمين الصحى وقانون التأمين على الأطفال والرضع والتمهيد لذلك عبر شهور من العمل الهادئ يتم الأمر كله من خلال منظومة متكاملة للرعاية الصحية الأساسية فى وحدات صحة الأسرة إلى جانب توفير أموال الدعم اللازمة والمقررة فى الموازنة العامة دون تخفيضها وهذا ما لم يحدث وإنما صدر قرار وزارى متسرع وتم تغييره تحت وطأة الأزمة فلم يحدث رضاء ولم يحل المشكلة.
وفى جانب مفتاح التحكم الثالث والخاص بهياكل إدارة المنظومة الصحية:
سوف نجد تفتتا وتضاربا وتعددا لجهات تقديم وإدارة الخدمات وتداخل فى اﻻختصاصات، فالوزارة قائمة بقطاعاتها المختلفة إلى جانب مؤسسات عامة صحية تعليمية وتأمينية وجامعية عديدة كلها تعمل بلا تنسيق أو تناغم إلى جانب القطاع الخاص المتنامى بلا تنظيم.
وفى جانب مفتاح التحكم الرابع الخاص بآليات الدفع والتحفيز المادى والمعنوى لمقدمى الخدمات الصحية:
سوف نجد أزمة حادة متعلقة بحزمة المدفوعات للأطباء والصيادلة والتمريض والمساعدين فى كل القطاعات المملوكة للدولة، وسوف نجد شكوى مستمرة من ضعف البدلات والحوافز وما شابه من المدفوعات لهم التى ﻻ تجعلهم يتفرغون أو يُقبلون على عملهم الحكومى.
وأخيرا وفى مفتاح التحكم الخامس، والخاص بثقافة وسلوك ووعى متلقى الخدمة من المواطنين:
سوف نجد تجاهلا لمنظومة حقوق المرضى التى كفلها الدستور، إضافة إلى تغييب لوعيهم ومعرفتهم بما يستطيعون عمله عموما فيما يتعلق بحقوقهم فى مواجهة توحش آليات السوق الطبى وفيما يتعلق بحقوق أطفالهم فى التغذية العلاجية والعادية من ألبان صناعية مجانية أو مدعومة جزئيا أو كليا وفقا للدستور وقانون التأمين الصحى على الطفل والرضيع والقائم بالفعل والذى تم إصداره فى عام 2012 ليس فقط لتوفير ألبان الرضع وإنما وجبات غذائية مدرسية أيضا لأطفال المدارس لضمان غلق فجوة العدالة اﻻجتماعية المتسعة والظاهرة فى مؤشرات التنمية مثل معدﻻت وفيات الرضع والأطفال بين الفقراء قياسا بالأغنياء ومعدﻻت سوء التغذية من قصر القامة والنحول ونقص الوزن وخلافه من مؤشرات غياب العدالة.
من الخلاصة نجد أن التشخيص السليم نصف الطريق إلى الإصلاح وأن التشخيص الخاطئ وعدم تحديد أبعاد الأزمة بدقة أدى إلى ما حدث وهذا ما سوف يتكرر دائما فى ظلال اللانظام الصحى الذى يدير الأمور بردود الأفعال ويفتقد للخبرة والكفاءة والإيمان الحقيقى بالعدالة اﻻجتماعية.
فما هو العمل اذن؟
عنوان متكرر سوف ﻻ نمل منه، أهمية تأسيس أطر حاكمة ورشيدة للنظام أولها تأسيس مجلس أعلى للصحة يمثل فيه أصحاب المصلحة فى القرار، وهيئة للغذاء والدواء يمثل فيها كل الأطراف فى النظام.
والعمل على التطبيق الفعلى لمنظومة التأمين الصحى الحالية بتدعيمها ماليا وإداريا وتطبيق قوانينها القائمة مثل التأمين الصحى على الأطفال والرضع وعلى المرأة المعيلة وعلى الفلاحين الخ.. وكلها قوانين تحقق العدالة اﻻجتماعية شريطة توفير الموارد المالية لها والقدرة البشرية المؤهلة والمحفزة واعتبار ذلك خطوة فى طريق طويل اسمه التأمين الصحى الشامل لكل المصريين لتحقيق أهداف الدولة فى التنمية المستدامة كما أعلن عنه فى الخطة 30/20 للتغطية الصحية العادلة والشاملة للجميع خاصة الفئات الأولى بالحماية مثل الرضع والأطفال والنساء وكبار السن.
تلك هى جذور المشكلة الصحية التى تفسر أزمة ألبان الأطفال غير الأخيرة.
تم نشر هذا المقال عبر منصة الشروق بتاريخ 22 سبتمبر 2016