قانون التأمين الصحى خطوة على الطريق وليس كل الطريق
عرضت الحكومة أخيرا مشروع قانون التأمين الصحى الشامل على مجلس النواب بعد اﻻنتهاء منه فى رحلة طويلة امتدت لسنوات، وعرض مدعوما بدراسته المالية الاكتوارية التى أجرتها شركة دولية متخصصة فى مثل هذه الدراسات، ولم تكن المرة الأولى التى تستعين بها الدولة فى هذا الشأن.
وتدور الآن حوارات مهمة حول هذا القانون الحاكم والأساسى لإصلاح المنظومة الصحية بإعادة هيكلتها وبنائها عبر تأسيس ثلاث هيئات عامة جديدة إلى جانب وزارة الصحة التى سيتغير دورها جوهريا لتصبح مراقبا ومنظما مسئولا عن المنظومة دستوريا وعن أمور الصحة العامة والسياسات الصحية وتطوير القوى البشرية بها.
ويمثل هذا القانون فى الواقع قفزة نوعية هائلة وطَموحا بسعيه لإصلاح النظام كأداة تشريعية تؤسس لهيئة تمويل وشراء للخدمات الصحية نيابة عن المواطنين المشتركين فى النظام، وهيئة لإدارة تقديم الرعاية والخدمات الصحية والإشراف عليها لمقدمى الخدمة، ثم هيئة ثالثة للرقابة واعتماد ضمان جودة الخدمات المقدمة. وهو اتجاه جديد تماما فى تاريخ نظامنا الصحى يسعى على الرغم من صعوبته إلى تحقيق نظام حوكمة رشيدة للمنظومة يتم فيها فصل الوظائف المختلفة وضمان المحاسبة والمساءلة حولها والجودة والشمول من خلالها وتدعيم الاستخدام الأمثل للموارد وحسن إدارتها واستدامتها.
وأثار القانون ــ كالعادة ــ حزمة من التخوفات والتساؤلات والتحفظات لأهميته ولابد من التعرض لها جميعا ووضعها فى السياق المبدئى السليم لفلسفته ومبادئه. وفى هذا السياق أعرض عدة ملاحظات نقاشية تبدو ضرورية للحوار:
أولا: أثار بعض الزملاء وشرحوا وضع القطاع الصحى الحالى المتردى الذى نعرفه جميعا من نقص فى أطباء وتمريض الرعاية الأولية وتدنى حال المستشفيات العامة ونقص الدواء وسوء المعاملة وغيرها من التحديات المنطقية، وقالوا: لماذا لا نبدأ بإصلاح ذلك أولا قبل القانون، وكنت ــ وما زلت ــ من أكثر الذين حللوا وكتبوا فى ذلك من سنوات بعيدة، ولكن ذلك كله لا يشكل مبررا لتأجيل أو إجهاض القانون والسبب ببساطة أننا قد بدأنا برنامج الإصلاح الصحى فى عام 1999 ومع تغير قيادات وزارة الصحة الدائم أدركنا أن إطار الإصلاح الحقيقى يفتقر إلى تشريع ملزم وقوى لإعادة هيكلة المنظومة نظريا، وفصل التمويل عن إدارة وتقديم الخدمة، ثم الرقابة واﻻعتماد فى إطار جديد يسمح بتوفير حجم تمويل كاف وكبير يوفر مزايا لمقدمى الخدمة من الفرق الصحية يجعلهم يعملون فى مجال الرعاية الأولية أساسا فى الريف والصعيد والمناطق الأفقر من البلاد.. كمدخل للنظام ولضمان جودته نحتاج إلى هذه الأموال وهؤلاء البشر ليعملوا فى رضاء واكتفاء بالتوازى مع خطة عاجلة لتطوير التعليم الطبى ليناسب احتياجات الإصلاح... إلخ.
نعم العربة والحصان معا، أو القانون والإصلاح فى الوقت نفسه وليس أيهما أولا، فالقانون كما قلت دائما أداة ورافعة لإصلاح المنظومة أو هو قانون للإصلاح الصحى الشامل.
ثانيا: وحول هذه الحوارات أيضا تبرز اتجاهات إيجابية على الرغم من كل التحفظات المطروحة، فالمتحاورون جميعا وفى جميع الاتجاهات أصبحوا يستخدموا نفس المصطلحات والمفاهيم الخاصة بإصلاح القطاع الصحى، والذى عملنا عليه منذ أكثر من عشرين عاما، وهو ما يجعلنا مدركين أن هناك تراكما نوعيا قد حدث فى وعى النخب والناس وإننا لم نحرث فى البحر، فالبديل المطروح استراتيجيا بالقانون الجديد هو إصلاحى حتى النهاية وهو البديل الواقعى الوحيد فى منظور الزمن الحالى.
ثالثا: ثمة فارق كبير بين التنظير فى الإصلاح الصحى والتجربة العملية التى جربت منذ عام 1999 فيما يتعلق بالنتائج والرؤية والنجاحات، كما أن هناك فارقا كبيرا بين أن نتوقف كثيرا أمام نتائج الحسابات المالية الاكتوارية (وهى مهمة) وبين ما سيحدث فى الواقع عند التطبيق وعندما يتم بناء نظام صحى حقيقى كفء ومتكامل يعمل بكامل طاقاته على محاور من كفاءة تخصيص الموارد وكفاءة استخدام المتاح منها، وكما يقول خبراء اقتصاد الصحة الكبار إن الإنفاق يمكن احتواؤه بكفاءة الإدارة فى التخصيص والاستخدام، كما أن النظم الصحية الجيدة تستطيع فى النهاية ــ إذا اكتملت ــ احتواء أثار عبء المرض بالرعاية الأولية الجيدة واﻻكتشاف المبكر والتوعية وتحد من تسليع المرض واﻻستثمار فيه (وذلك غير اﻻستثمار فى الصحة)، وكيف تتضافر إجراءات تنموية حقيقية وخطط واقعية فى توفير محددات الصحة اﻻجتماعية من مياه شرب وصرف صحى وغذاء متوازن وتعليم جيد وسكن آمن وعمل مستمر.. إلخ. فى احتواء العبء المرضى ماليا. ولذلك ليس القانون ــ على أهميته فى نهاية الأمر ــ إلا حجرا فى بناء تنموى متكامل اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، فالأمور متشابكة ولا تنفصل، لذلك كما أنه فى التحليل الأخير مجرد خطوة فى الطريق وليس كل الطريق لتتضح الرؤية.
رابعا وأخيرا: مهما كانت نتائج الحوارات الدائرة الآن حول هذا القانون فإن اتفاق الجميع حول أهميته للإصلاح لم يعد مجالا للشك كما أنه يؤكد نجاح عمل اللجنة المجتمعية التى عكفت على صياغته منذ خمس سنوات تقريبا وأكثر، ووضعت هندسية وبنيه النظام الجديد المطلوب المبنى على الإنصاف والعدالة والحوكمة الرشيدة للمنظومة عبر تأسيس ثلاث هيئات جدية إلى جانب وزارة الصحة التى سيصبح دورها الجديد أكثر فاعلية باختلافه لتتفرغ للسياسات الصحية وأمور الصحة العامة والأوبئة وترصدها والتوعية الجيدة وتنمية القوى البشرية وتنظم علاقات المنظومة.
وسيصبح التحدى الأكبر هو القدرة على تنفيذ ذلك الحلم فى توقيتات ملائمة لا تجعلنا نتخوف من طول المدة لعمل ذلك أو انحراف القانون عن أهدافه فالهيكل التمويلى ليس لب المشكلة على أهميته، وإنما القوى البشرية اللازمة لهذا التغيير الكبير هو التحدى الحقيقى الذى سيبرز عند التطبيق كما أنها ستظل عندما تواجه التحدى لقيادة هذا التغيير من أعلى المستويات إلى أصغرها هى جوهر المرحلة الانتقالية لتنفيذ الإصلاح.
فهل نستطيع أو نقدر على تطبيق خطة الإصلاح الشامل الصحى عبر قانون جديد للتأمين الصحى الشامل؟.. إنه التساؤل الأساسى أو جوهر المشكلة والحوار.
تم نشر هذا المقال عبر بوابة الشروق الإلكترونية بتاريخ 28 نوفمبر 2017