وطن يُبنى بالتعذيب: عشرون عامًا من تكذيب «الادعاءات»
كنت أتوقع جيدًا ما سيحدث في حالة القبض عليّ، ولكن عندما وقع ذلك بالفعل لم يحدث أي مما توقعته ولا ما قرأت عنه في سنوات الجامعة. وفّرت لي هيئتي ومحل سكني المدوّن على البطاقة الشخصية قدرًا من الحماية، أم أني ربما كنت محظوظة في هذه اللحظة؟
بعد التحقيق الأولي الذي أجراه ضابط أمن الدولة، وقرر من خلاله إبقائي في محضر القضية، علمت أن هناك إحدى الزميلات، بالإضافة إلى الزملاء، قد جرت كهربتهم بالصاعق أثناء هذا التحقيق. ألم يكن النظام في يونيو 2014 يعذّب الجميع؟
ردًا على التقرير الصادر العام الماضي من لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، وهي المؤلفة من عشرة خبراء مستقلين وترصد تنفيذ اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة من جانب الدول الأطراف في الاتفاقية، رفضت الحكومة المصرية التوصية الواردة في الفقرة 71 من التقرير السنوي لعام 2017، بإنشاء هيئة مستقلة للتحقيق في ادعاءات التعذيب والاختفاء القسري وسوء المعاملة.
ألم يحن الوقت للحكومة المصرية بأن تعترف أن جريمة التعذيب تمارس في مصر بشكل منهجي، وليس فقط لإجبار أشخاص على الاعتراف بجرائم ما ومحاكمتهم بناء على هذه الاعترافات، وإنما بغرض الإذلال أيضًا؟
ما الذي تخافه دولة، تدعي عدم تفشي التعذيب بها، من هيئة مستقلة للتحقيق في «ادعاءات » بتعذيب من يعيش على أرضها؟ ألم يحن الوقت للحكومة المصرية بأن تعترف أن جريمة التعذيب تمارس في مصر بشكل منهجي، وليس فقط لإجبار أشخاص على الاعتراف بجرائم ما ومحاكمتهم بناء على هذه الاعترافات، وإنما بغرض الإذلال أيضًا؟
تحمي الدولة رجالها، ويصعب على أي مراقب لمحاكمة الضباط أن يجد الدولة تضحي بأحد الضباط ممن عذبّوا شخصًا حتى وفاته، تجده في نهاية الأمر قد ابتلع لفافة مثل خالد سعيد، أو أصيب بوعكة صحية مثل عصام عطا، وأخيرًا، وليس آخرًا مع الأسف، عفروتو.
رغم تقارير الأمم المتحدة وتقارير المنظمات المصرية غير الحكومية، فلا تعترف الحكومة بممارستها جريمة التعذيب على يد جميع من يمثلها من قوات الأمن.
لن ينجو أحد
منذ اندلاع ثورة يناير 2011، لم تنج فئة من التعذيب في مصر. ففي حين كان من الشائع قبل وفاة خالد سعيد نتيجة للتعذيب في 6 يونيو 2010 ألا تمارّس هذه الجريمة، ولا يجرى قبولها، إلا ضد أي من لا يملك أي امتياز طبقي أو اجتماعي، فإن من تصور أنه بعيد عن كونه الضحية القادمة، صدمته الدولة بصورة خالد سعيد، الشاب المنتمي للطبقة المتوسطة والذي يشبه معظم الشباب حولنا.
منذ اندلاع الثورة، لم ينج من التعذيب القُصّر، كما لم ينج الطالب الإيطالي جوليو ريجيني. لا ينجو أحد عندما يقرر أحد رجال السلطة تعذيبه، ولن ينجو.
منذ الشهور الأولى لعام 2011، والمنظمات الحقوقية في مصر تتحدث عن التعذيب الدائر وتطالب بالمحاسبة. لم يتوقف التعذيب وقتها، وإنما جرى رصد انتشاره في محافظات عديدة في عام 2012، بالإضافة لاستخدامه كأداة للتنكيل بالمعارضين السياسيين على سبيل المثال في فبراير 2014.
إن كانت هناك «وصفة» لخلق مناخ يشجع على استخدام التعذيب فهو بالتأكيد ما نعيشه الآن في مصر.
في كل هذا، لم تكن وقائع ارتكاب جريمة التعذيب على يد ممثلي الدولة حالات فردية كما يدعي البعض، ولم يقع التعذيب فقط في أقسام الشرطة (على سبيل المثال وليس الحصر: قسم شرطة ميت غمر، قسم شرطة الوايلي، وقسم شرطة المطرية)، وإنما وقع أيضًا في السجون التي يتوجب على النيابة التفتيش عليها بشكل دوري لمنع هذه الممارسات (على سبيل المثال وليس الحصر: سجن أبو زعبل، سجن العازولي العسكري، وسجن الحضرة).
ولم تكتف الحكومة المصرية بالاستمرار في ممارسة جريمة التعذيب، وإنما حرصت على حماية مرتكبيها وعطّلت مساءلتهم وأغلقت العيادة التي تقدم، وبدون مقابل مادي، الدعم النفسي لضحايا التعذيب، ثم حققت مع أشخاص بسبب مشاركتهم في إعداد مشروع قانون لمكافحة التعذيب.
إن كانت هناك «وصفة» لخلق مناخ يشجع على استخدام التعذيب فهو بالتأكيد ما نعيشه الآن في مصر. لا يجب أن يحلم أي شخص بـ «وطن بلا تعذيب»، وإلا سيكون مصيره السجن والتنكيل به مثلما حدث مع محمود محمد، والمعروف بلقب «معتقل التيشيرت»، كما لا يجب على أي ضحية تعذيب أن تحاول الحصول على مساعدة طبية نفسية، ولا أن يظن أحد أن هناك مجالًا للإصلاح التشريعي في هذا البلد. النظام الحالي يرفع شعار «وطننا نبنيه بالتعذيب».
ممارسة منهجية؟ لا.. حالات فردية
بينما أدخل بوابة سجن القناطر، كنت أستحضر في ذهني كل ما سمعته عن «التشريفة»، من الاعتداء بالضرب على المساجين فور وصولهم لأماكن احتجازهم، بهدف تأكيد سلطة السجن عليهم. ولكني لم أكن سمعت عن أي «تشريفة» في سجن القناطر للنساء، مر الدخول مرور الكرام عندما أكّدت إحدى الزميلات على السجانة بأننا «بنات»، فنجونا من الفحص المهبلي الذي تُجبَر عليه السجينات لدى دخولهن السجن لأول مرة، وفي كل مرة يُعدن من جلساتهن في المحكمة، أو لأي سبب آخر يستدعي خروجهن ودخولهن مرة أخرى.
هل «ادعاءات» التعذيب مجرد ادعاءات فارغة لا علاقة لها بالواقع؟
وفقًأ للمادة 20 (1)، من اتفاقية مناهضة التعذيب، فإذا تلقت لجنة مناهضة التعذيب معلومات موثوقة يبدو أنها تتضمن دلائل لها أساس قوي تشير إلى أن تعذيبًا يمارس على نحو منظم في أراضي دولة طرف، يحق للجنة أن تدعو الدولة الطرف المعنية إلى التعاون في دراسة هذه المعلومات، وتحقيقًا لهذه الغاية تدعوها إلى تقديم ملاحظات بصدد تلك المعلومات.
في عام 1996 أجرت لجنة مناهضة التعذيب أول تحقيق لها حول مدى انتشار استخدام التعذيب في مصر، وفقًا لصلاحياتها المنصوص عليها في هذه المادة التي صدّقت عليها مصر في 1986.
ولدى انتهائها من التحقيق، حاولت الحكومة المصرية إثناء اللجنة عن نشر تقريرها الأول بإدعاء، ورد في الفقرة 199 من التقرير السنوي 1996، أنه سيُفسّر بوصفه دعمًا «للمجموعات الإرهابية وسيشجعها على الاستمرار في مخططاتها الإرهابية وعلى الدفاع عن أعضائها المجرمين الذين يقومون بأعمال إرهابية عن طريق اللجوء إلى اتهامات زائفة بالتعذيب. وبعبارة أخرى فإن ذلك قد يُفسر في نهاية الأمر على أن اللجنة تشجع بصورة غير مباشرة المجموعات الإرهابية ليس في مصر وحدها بل في جميع أنحاء العالم. وهذا ليس بالتأكيد أحد الأهداف المحددة في ولاية اللجنة».
إلا أن اللجنة، وبعد ثلاث سنوات، من 1991 إلى 1994، من التحقيق في صحة الادعاءات بانتشار التعذيب في مصر، نشرت تقريرها في نهاية الأمر، لتخلص بأن «قوات الأمن في مصر، وبخاصة مخابرات أمن الدولة، تمارس التعذيب بصورة منتظمة»، وفسرت اللجنة كون «التعذيب يمارس بصورة منتظمة» بالآتي:
«تعتبر اللجنة أن التعذيب يمارس بصورة منتظمة حين يكون من الواضح أن حالات التعذيب المبلغ عنها لم تحدث مصادفة في مكان معين أو في وقت معين، بل يتبين أنها اعتيادية ومنتشرة ومتعمدة في جزء كبير من أراضي البلد المعني على الأقل. وفي الواقع، قد يكون التعذيب ذا طابع منتظم دون أن يكون مقصودًا مباشرة من جانب الحكومة. فقد يكون نتيجة لعناصر يصعب على الحكومة التحكم فيها. وقد يشير وجوده إلى وجود تعارض بين السياسة العامة التي تحددها الحكومة المركزية، من ناحية، وتنفيذ تلك السياسة من جانب الإدارة المحلية من ناحية أخرى. والتشريع غير المناسب، الذي يتيح في الواقع مجالًا لاستخدام التعذيب، قد يزيد من الطبيعة المنتظمة لهذه الممارسة.»
وفي مايو 2017، أصدرت لجنة مناهضة التعذيب تقريرها السنوي والذي تناولت في جزء منه الوضع في مصر، وفقًا لصلاحياتها التي تنص عليها المادة 20 (1) من اتفاقية مناهضة التعذيب، وذلك بالنظر في وقوع جريمة التعذيب من قبل الدولة من بعد تلقيها شكاوى منذ نهاية عام 2012.
ولم تكتف اللجنة بالاعتماد على مقدمي الشكاوى، بل لجأت لمعرفة رد الحكومة المصرية، كما فعلت في تحقيقها الأول، مستخدمة مصادر متنوعة، وبنص كلامها، فقد «نظرت اللجنة في معلومات تتعلق بالتعذيب في مصر واردة من مسؤولين وهيئات في الأمم المتحدة، بما في ذلك مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ولجنة حقوق الطفل، والمقرر الخاص المعني بالتعذيب، والفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي، ومن اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب. فهذه المصادر تؤيد الزعم بأن التعذيب مورس بصورة منهجية في مصر طوال فترة التحري.»
عشرون عامًا ولم يتغير شيء
هل يرى أحد أن الوضع تغير في مصر في الفترة الفاصلة بين التحقيقين، بين 1996 و2017؟ للأسف لا، فقد جاءت نتيجة تحقيق اللجنة بخصوص انتشار التعذيب في مصر مطابقة لكل «ادعاءات» المنظمات الحقوقية المصرية المستقلة باستمرار تفشي استخدام التعذيب من قبل ممثلي الدولة، والمصحوب بالانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان الأخرى.
في النهاية، وفي الفقرة 69 من التقرير السنوي لعام 2017، خلصت اللجنة إلى أن التعذيب ممارسة منهجية في مصر:
«ويبدو أن التعذيب يحدث، أكثر ما يحدث، عقب عمليات الاعتقال التعسفية، وأنه يُمارس غالبًا للحصول على اعتراف أو لمعاقبة المعارضين السياسيين وتهديدهم. ويحدث التعذيب في مخافر الشرطة والسجون ومرافق أمن الدولة ومرافق قوات الأمن المركزي. ويمارس التعذيب مسؤولو الشرطة والمسؤولون العسكريون ومسؤولو الأمن الوطني وحراس السجون. إلا أن المدعين العامين والقضاة ومسؤولي السجون يسهلون أيضًا التعذيب بتقاعسهم عن كبح ممارسات التعذيب والاحتجاز التعسفي وسوء المعاملة، أو عن اتخاذ إجراء بشأن الشكاوى. وقد وقع العديد من الحوادث الموثقة في القاهرة الكبرى، ولكن أُفيد أيضًا عن حالات وقعت في أنحاء مختلفة من البلد. ويفلت مؤتكبو أعمال التعذيب على الدوام تقريبًا من العقاب، على الرغم من أن القانون المصري يحظر التعذيب والممارسات المتصلة به، ويُنشئ آليات محاسبة، الأمر الذي يدل على تضارب خطير بين القانون والممارسة. وفي نظر اللجنة أن كل ما تقدم ذكره يقود إلى استنتاج لا مفر منه وهو أن التعذيب ممارسة منهجية في مصر.»
بعد صدور هذا التقرير قبلت الحكومة المصرية ببعض توصيات اللجنة، مع رفضها لتوصيات أخرى بإنهاء ممارسة الحبس الانفرادي، وإنشاء هيئة مستقلة للتحقيق في ادعاءات التعذيب والاختفاء القسري وسوء المعاملة، وقصر اختصاص المحاكم العسكرية على الجرائم التي تتصف حصريًا بطابع عسكري، وحظر «اختبارات البكارة»، وإنهاء ممارسة الفحوص الشرجية التي تجري على يد الأطباء الشرعيين للأشخاص المتهمين بجرائم، كما ورد في الفقرة 71 من التقرير السنوي لعام 2017.
بعد كل هذا، من غير المعقول أن تكذّب الحكومة المصرية من يقول إن جريمة التعذيب هي ممارسة منهجية في مصر، ومن غير المصدّق أن يتوقف المدافعون عن حقوق الإنسان في أي لحظة عن توثيق وقائع التعذيب، أو عن تقديم الدعم لضحاياه.
تم نشر هذه المقال عبر موقع مدى مصر بتاريخ 26 فبراير 2018
في نهاية عام 2019، سيجري الاستعراض الدوري الشامل الثالث الخاص بمصر. ومن الضروري على الحكومة المصرية أن تحرز أي تقدم في وقف انتهاكات حقوق الإنسان، قبل عرض سجلها أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وبالأخص وقف استخدام التعذيب ومحاسبة كل من تورط في ارتكاب تلك الجريمة.