لا تشبه الليلة البارحة: عن تغير منظومة القيم المجتمعية المتعلقة بحقوق النساء
يأتي شهر مارس من كل عام، فتبدأ احتفاليات يوم المرأة العالمي في مختلف بقاع العالم، ولكن مارس شهر له خصوصية أيضًا بالنسبة لنساء مصر، فـ 16 مارس يوم المرأة المصرية، أما 9 مارس فهو تاريخ كشوف العذرية الإجبارية التي قامت بها قوات الجيش ضد متظاهرات في ميدان التحرير في 2011، في جريمة جنسية لم يحاسَب عليها أحد.
وكم تبدو المفارقة محزنة هذا العام، فالقوات المسلحة القابضة على السلطة الآن، تحاول بأجهزتها احتواء الحراك النسوي الذي تفجر خلال سنوات الثورة، كسياسة لتبييض الوجه محليًا ودوليًا، بينما، وفي الوقت نفسه، تغض الطرف عن جرائم العنف الجنسي التي ترتكبها قوات الأمن، وتشن الشرطة حملاتها للقبض على عشرات المثليين والمتحولين جنسيًا وتتبعهم داخل غرف نومهم، في انتهاك فج لخصوصيتهم، محاكمةَ إياهم على ميولهم وسلوكياتهم الجنسية الخاصة، كما تقوم ذات السلطة بتضييق الخناق على منظمات المجتمع المدني من خلال إغلاق بعض المراكز الحقوقية، ومنع بعض النشطاء البارزين من السفر، بالإضافة إلى عسكرة المجال العام والانقضاض على المؤسسات الثقافية المختلفة، في مناخ عام هادف لإشاعة الخوف والفزع.
ولكن رغم تجليات هزيمة الثورة المتبدية في أغلب المعارك التي اخترنا خوض غمارها، فهذه الهزيمة السياسية لا تعني بالضرورة هزيمة مجتمعية، فالحراك النسوي/ الثوري حقق- خلال السنوات الماضية- نقلات نوعية فيما يتعلق بالتصورات المجتمعية عن العنف الجنسي خصوصًا، وحقوق النساء والحقوق الجنسية عمومًا.
أول وأكبر النجاحات التي يمكن الحديث عنها هي الإنجازات التي حققتها الحركة في ما يخص العنف الجنسي ضد النساء في المجال العام. فمن أكثر الأفعال شيوعًا اليوم، قيام فتيات ونساء بتقديم بلاغات ضد من يتحرش بهن قولًا أو فعلًا في الشارع، بل فضح وتجريس ضباط الشرطة غير المتعاونين في عمل محاضر التحرش. لم يكن هذا واقع الحال منذ عشر سنوات مضت، فالعديد من النسويات لا يزلن يذكرن حتى اليوم كيف كان لا يُسمح بذكر لفظ "تحرش جنسي" في برامج تلفزيونية عديدة قبل الثورة، وكان يُطلب من الضيوف الاكتفاء بكلمة "تحرش". يذكر الكثيرون أيضًا كيف كان الإنكار هو رد فعل الإعلام والدولة على حوادث العنف الجنسي الفردية والجماعية، والتي زادت باطراد واضح منذ بداية الألفية الجديدة. ولوقت طويل تجوهلت مطالبات المنظمات النسوية بالإصلاح التشريعي لقوانين العنف الجنسي، وباعتراف الدولة بمشاكل النساء في الشوارع وأماكن العمل، أما النساء اللاتي اخترن مواجهة التواطؤ المجتمعي، وحاولن الحصول على حقهن القانوني، فكان عليهن مقاومة حملات تشهير شرسة تسعى للنيل من سمعتهن.
بالاستماع إلى شهادات الناجيات من أحداث الأربعاء الأسود، حين جرى التحرش بالصحفيات والمتظاهرات المعترضات على التعديلات الدستورية في مايو 2005 إبان حكم مبارك، نجد أن قوات الشرطة قامت بتخليص أحد المتحرشين والمعتدين جنسيًا من أيدي المحامية التي اعتدى عليها بعد نجاحها في الإمساك به، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل رفضت الشرطة عمل محضر لهذه المحامية، كما رفضت النيابة عمل مناظرة لملابس نوال علي الممزقة جراء الاعتداء عليها، بحجة تأخر الوقت، وجاء قرار النائب العام بحفظ البلاغ لعدم الاستدلال على الجناة، وفي النهاية شنت القنوات الإعلامية حملة ضد نوال علي، مدعية أنها مزقت ملابسها بنفسها وأنها تدعي كذبًا قيام بلطجية مأجورين من الحزب الحاكم بالاعتداء عليها.
أما نهى رشدي، صاحبة أول حكم قضائي في قضية تحرش في مصر في 2008، فتدل فتجربتها على حجم المعاناة التي كان عليها تحملها لتكسر حالة التطبيع المجتمعي مع العنف الجنسي، فبعد أن قام شخصٌ بالتعدي عليها جنسيًا والتحرش بها جسديًا في وضح النهار في أحد شوارع مصر الجديدة، وبعد أن جاهدت للإمساك به، تجمع حولها أكثر من أربعين شخصًا يلومونها على ملابسها، ويحاولون تخليص المتحرش منها وإعادته إلى سيارته. وبعد أن اقتادت المتحرش، بمعاونة صديقتها، إلى نقطة الشرطة، حاول الضباط وجميع من في القسم إثناءها عن تحرير محضر، ولكنهم بعد إصرارها أخذوا أقوالها، ورفضوا أخذ أقوال صديقتها التي كانت شاهدة على الحادث، ورفضوا نقل المتهم بسيارة شرطة إلى قسم مصر الجديدة لتوثيق المحضر، مما اضطرها إلى أخذه بسيارة والدها. ولم تنته محاولات تثبيطها عند هذا الحد، بل ادعى اﻹعلام أنها إسرائيلية، باﻹضافة إلى الكثير من اﻹشاعات، وردود الفعل الغاضبة التي تكرر أنها بذلك تفضح نفسها وتخرب سمعتها. وبفضل دعم أسرتها وأصدقائها، وكذلك دعم المنظمات النسوية، تمكنت نهى من مواصلة المسار القانوني، إلى أن نالت حكمًا ضد المتحرش في أكتوبر 2008، يقضي بسجنه ثلاث سنوات، إلى جانب تعويض مادي لصالحها.
أخذت مقاومة العنف الجنسي بالطبع منحى راديكاليًا أثناء سنوات الثورة، بفضل المجموعات القاعدية التي تكونت لمواجهة استشراء العنف ضد النساء في المظاهرات، وهنا أيضًا ظهرت نساء بالغات الشجاعة، مثل ياسمين البرماوي وعايدة الكاشف وهانيا مهيب، ممن اخترن الظهور بوجوههن على شاشات التلفزيون للحكي عن الاعتداءات الجنسية الجماعية التي وقعت لهن، في محيط وقلب ميدان التحرير. أسهم ظهور هؤلاء النساء، ليس فقط في إنهاء حالة الإنكار المجتمعي بخصوص واقع العنف الجنسي في مصر، ولكن أيضًا في إلهام كثير من الفتيات الشجاعة للدفاع عن أنفسهن، كما أسهم نسبيًا في مقاومة ثقافة وصْمِ ولوم الضحية السائدة، وحل محل هذا وصم المتحرش. وكان خير تعبير على النقلة القيمية التي حدثت خلال العقد الماضي، هي الحملة التي شنها مستخدمو تويتر وفيسبوك، في أواخر العام الماضي، ضد الإعلامية ريهام سعيد، حينما استخدمت الصور الشخصية لفتاة جرى التحرش بها، للاستدلال على أنها تستحق ما نالها، مما أدى إلى إيقاف سعيد بشكل مؤقت.
نجح العمل القاعدي وحملات منظمات المجتمع المدني في الضغط على الحكومة، لتغيير أحد مواد الجرائم الجنسية، ولإدخال لفظ "التحرش الجنسي" في القانون لأول مرة في يونيو 2014، وعلى عكس كثير من التغييرات القانونية التي تسنها الحكومة، لتظل حبرًا على ورق ولا يعترف المجتمع بها، تفيد دراسة أعدتها مجموعة "دفتر أحوال" بأنه خلال عام 2015، قُبض على 2259 شخصًا على خلفية اتهامات متعلقة بالتحرش. هذا الرقم له دلالة واضحة على تغير أنماط سلوك النساء والفتيات ورد فعلهن على جرائم التحرش.
وبانتقالنا إلى الثقافة الدارجة، سنلمس تغيرًا لا يستهان به في طرح قضايا النوع الاجتماعي، تزامن مع ظهور أفلام مثل فيلم “678"، وفيلم "أسماء" ومسلسلات مثل "سجن النسا" تناقش قضايا طالما اعتبرها المجتمع تابوهات غير قابلة للمناقشة. ولكن المذهل أن هذا التغير وصل للثقافة الإعلانية، والمتتبع لتطور حملة مشروب الشعير "بريل"، يمكنه لمس الفرق، فقد قررت "بريل" من البداية توجيه استراتيجيتها الدعائية للرجال تحديدًا، واختارت في سنواتها الأولى شعارات مثل "ربيلها الشنب يعلمها الأدب"، و"شخصية البنت آخر حاجة تعلق عليها"، للإشارة أنه على الرجال التعليق على مظهر النساء وأجسادهن. ولكن فارقًا كبيرًا وملموسًا ظهر مؤخرًا، فرغم أن الحملات اﻷخيرة لا تزال تعلق بالسلب على ملابس الشباب أو طريقة مشيتهم، إذا خالفت الشكل الخشن والمتعارف عليه لملابس "الدكر"، إلا أن حملتهم "الرجولة أدب" مثلًا، تروَج لأن الرجولة تعني الدفاع عن الفتيات ضد التحرش، ومساعدة النساء في الأعمال المنزلية. وبعيدًا عن أي انتقاد يمكن توجيهه للحملة الإعلانية، فهذا التغير بالقطع يعكس تغيرًا في أمزجة الشباب المتلقي عن السلوك الرجالي المقبول، كما يعكس اضطرار صناع الحملة لأن ينهوا الترابط بين الرجولة ومعاكسة الفتيات، ويضعوا محل هذا الوقوف ضد التحرش.
لا يقتصر النجاح الذي تحقق على المعتقدات الخاصة بالعنف الجنسي، بل ربما كان العنف الجنسي مدخلًا للاشتباك مع فكرة الجسد بشكل عام، ومناقشة العديد من الحقوق الجنسية للنساء والمجموعات غير المقبولة اجتماعيًا، ويمكننا لمس هذا التغيير إذا قارنّا بين رد الفعل الإعلامي والمجتمعي في قضايا النسب الخاصة بالمشاهير، فعندما قررت هند الحناوي في عام 2004، وبمعاونة ودعم كبيرين من أسرتها ومن منظمات نسوية، مواجهة الرأي العام ومطالبة أحمد الفيشاوي بإثبات نسب طفلتها إليه، أنكر الفيشاوي ذلك وشنّ عليها هجومًا عنيفًا، هو وأسرته، ولام الكثيرون هند بمنطق أنها تفضح نفسها أو أنها "ترمي بلاها" على ممثل مشهور وداعية شاب ورع، ولم يأت الحكم لصالحها إلا بعد مرور عقد من الزمان. يبدو رد الفعل مختلفًا تمامًا في حادثة شديدة الشبه، فالممثلة زينة التي حاولت إثبات نسب طفليها التوأم للممثل أحمد عز، وواجهت إنكاره كذلك، كان الرأي العام متعاطفًا معها إلى حد كبير، بل إن إنكار أحمد عز بعد حكم المحكمة، والذي عبر عنه بتغريدة "أقسم بالله ما ولادي" تحول لمادة للسخرية على صفحات فيسبوك وتويتر، وللمفاجأة جاءت ردود فعل رجال كثيرين في الشارع، تفيد بأن على أحمد عز تحمل تبعات أفعاله.
التغيير الذي فاجأني شخصيًا، هو رد الفعل على القضية المعروفة إعلاميًا بـ "باب البحر"، والتي سمحت فيها قوات الداخلية لإحدى المذيعات بمرافقتها أثناء اقتحام حمام شعبي بدعوى أنه مكان لالتقاء المثليين، وصوّرت المذيعة عملية الاقتحام، ونشرت، من خلال برنامجها على إحدى الفضائيات، صورًا لرجال عراة. هذا السعي الحثيث لمسرحة الحدث جعل العاملين في مجال الحقوق الجنسية واثقين من كونها محاولة لخلق كوين بوت جديدة، ونشر حالة من الفزع الأخلاقي، وعلى عكس توقعات الجميع، لم تبدأ حملات التشهير بمن قُُبض عليهم في الحادثة، ولا جرى وصفهم -كما حدث في كوين بوت 2001- بأنهم عبدة شيطان وما إلى ذلك، وإنما جاء رد قطاعات واسعة من الجمهور، خاصة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، ناقدًا لتصرفات الإعلامية منى عراقي، ومدافعًا عن حق الأفراد في الخصوصية، وقام ضيوف الحلقة الذين ظهروا مع منى عراقي بالإعلان عن أنه أسيء استخدام تصريحاتهم لأغراض غير أخلاقية، ودُشّن هاشتاج "مخبر إعلامي" للتدوين ضد حادثة باب البحر، وسطرت العديد من المقالات وأعمدة الرأي التي تهاجم سلوك المذيعة، المخالف لأبسط آداب المهنة وقواعدها. استمر الدعم الجماهيري للمتهمين في قضية باب البحر حتى نال جميع المتهمين البراءة من التهم المنسوبة إليهم،، ورُفض بعدها استئناف النيابة على الحكم.
تحتاج المحاولة لإيجاد أسباب وراء هذا التغيير مقالًا منفصلًا، يمكننا فيه الحديث عن دور الثورة وحرية التنظيم التي أتاحت لمجموعات عديدة تثوير قضايا مجتمعية مهملة، أو دور وسائل التواصل الاجتماعي كأدوات تنظيمية ووسائل للحشد ومساحات لمناقشة قضايا مسكوت عنها، ويمكننا أيضًا الحديث عن القناعات التي تختلف باختلاف الأجيال، ولكن هذا شأن آخر.
هذا بالطبع ليس للقول إن المجتمع أصبح تقدميًا، فهذه مساحات لا تزال متنازعًا عليها، كما أنني لا أسعى لرسم صورة وردية للمشهد النسوي الحالي، فلا يمكن فصل الحركة عن السياق الثقافي والاجتماعي الأوسع. بالطبع خسرت الحركة النسوية كثيرا بهزيمة الثورة، فمجموعات مقاومة العنف الجنسي الميدانية، والتي كانت سببًا في العديد من النجاحات الاجتماعية والثقافية، الخاصة برؤية الناس لمشاكل التحرش والعنف الجنسي، أصبح أغلبها الآن غير قادر على العمل الميداني، بسبب استحالة الحصول على تصاريح موافقة من وزارة الداخلية، تسمح لها بالتدخل الميداني أثناء الأعياد والتجمعات، أو حتى تصريحات لعمل "حملات شارع" لرفع الوعي. أدت عسكرة المجال العام، باﻹضافة لهزيمة الثورة، إلى إحباط أعداد كبيرة من المنخرطين في الحراك، وانسحابهم من العمل العام أو الالتفات لمشاريع شخصية، ومع ذلك، نجد اليوم العديد من المبادرات النسوية الشابة الجديدة تتشكل في القاهرة وفي المحافظات الأخرى، داخل الجامعة وخارجها، وتطرح أسئلة طازجة وتخوض معارك غير تلك التي خاضها جيلنا، مثل معارك الاستقلال في السكن والاستقلال المادي للفتيات، وفي نفس الوقت تواصل معارك قديمة مثل الختان وحرية الحركة وغيرها، ربما سنظل نشهد أثر الفراشة الذي حركته الثورة لسنوات قادمة.
هزيمتنا السياسية لا تمنعنا من الإقرار بنجاحاتنا المجتمعية، ومن تقدير النساء اللاتي اخترن البقاء في خطوط المعركة الأولى، في مواجهة المجتمع وتصوراته عن أدوار النساء. في مارس نحيي نهى رشدي، نوال علي، ياسمين البرماوي وهند الحناوي، ونحيي جميع النساء الباسلات اللاتي لم يخفن أن يكن الأوائل.
كل عام وأنتن بخير.
تم نشر هذا المقال بمناسبة اليوم العالمي للمرأة عبر موقع مدى مصر بتاريخ 8 مارس 2016