مـا وراء أزمـة الجمعية التأسيسية
لا يمكننا فهم أزمة تشكيل الجمعية التأسيسية بدون فهم منطق وأولويات القوى الفاعلة داخلها، والممكن تقسيمهم إلى أربعة أطراف تتقاطع أحيانا فيما بينها وتتنافر معظم الوقت: الإخوان المسلمين والسلفيين والقوى الديمقراطية غير الإسلامية والمجلس العسكرى، ومن خلفه قطاعات من بيروقراطية الدولة، لكل من تلك القوى أولويات وهواجس تؤسس لمواقفها من مسألة الدستور الدائم وتتلخص فى الأساس فى مسألتى شكل النظام السياسى وهوية الدولة.
القوى الديمقراطية غير الإسلامية والسلفيين لا يملك كلاهما تصورا يستميتان من أجله حول شكل نظام الحكم، ربما لأنهما لا يعتبران نفسيهما فى قلب المنافسة على السلطة التنفيذية أو لأنهما منذ البداية استغرقا فى وضع ذاتهما كطرفين للاستقطاب الخاص بهوية الدولة، تلك المسألة التى تصدرت الجدل العام حول الدستور بعد استفتاء 19 مارس وإلى وقتنا هذا وعلى أثرها تم إصدار عدد من الوثائق لما سمى وقتها مبادئ حاكمة أو استرشادية للدستور كوثائق السلمى الأولى ووثيقة التحالف الديمقراطى ووثيقة الأزهر بحثا عن توافق لم يتحقق. فمن جانبهم، أعلن السلفيون دائما فى الاجتماعات المشتركة للقوى السياسية وبصراحتهم المعهودة انهم غير معنيين بشكل نظام الحكم سواء كان برلمانيا ام رئاسيا وان همهم الشاغل هو الباب الأول من الدستور خاصة المادة الثانية منه وتعديلها بحيث تنص على أن أحكام الشريعة الإسلامية وليس مبادئ الشريعة الاسلامية مصدرا للتشريع وبما يستتبع تحصين تلك الاحكام بإنشاء هيئة لكبار العلماء وربما عبر الأزهر حال سيطرة القوى الإسلامية المنظمة عليه للفصل فى التشريعات. بينما تحاول القوى الديمقراطية غير الاسلامية ضعيفة التنظيم تجنب تحديات الاقصاء والتهميش السياسى على ضوء نتائج استفتاء 19 مارس والانتخابات البرلمانية وتحاول الإبقاء على كامل الباب الأول من دستور 1971 ودون مساس بصيغة المادة الثانية من الدستور.
ويأتى موقف الإخوان الحالى متوافقا مع القوى غير الاسلامية، فتصوراتهم أكثر عملية ويؤيدون إبقاء المادة الثانية على حالها، استنادا إلى أن سيطرة التيار الإسلامى على البرلمان والسلطة التنفيذية كاف لخلق دولة ذات مرجعية إسلامية فى المدى القريب ومدعوما بثقة لها ما يدعمها فى الواقع من إمكانية تحقيق انتصارات انتخابية واحدة تلو الأخرى.
لهذا يحمل الاستقطاب حول هوية الدولة روحا استباقية، فالدساتير تؤسس أولا لشكل نظم الحكم خضوعا للتوازنات بين القوى أو كحاصل للصراع فيما بينها ثم تأتى المبادئ الخاصة بهوية الدولة تتويجا لذلك ولا اخفى أن هذا الاستباق الخاص بهوية الدولة المصرية ومصادر تشريعها لم يكن إلا صخبا يخفى خلفه الصراعات أو التوافقات الخاصة بشكل نظام الحكم ووضع القوات المسلحة داخله.
المسألة التالية المحورية فى خلق الأزمة الحالية هى شكل النظام السياسى ووضع القوات المسلحة داخله وأبطالها هما الإخوان المسلمين والمجلس العسكرى ومن خلفه قطاعات من البيروقراطية المصرية المتذمرة من التغيير عموما. ما بين تبنى الإخوان للنظام البرلمانى الصرف أو النظام المختلط، فإن هناك توافقا بينهم وبين المجلس العسكرى حول تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية ولكن كالعادة الشيطان يكمن دائما فى التفاصيل فأية صلاحيات ستقلص ولصالح من؟، هل لصالح البرلمان أم لصالح مجلس الدفاع الوطنى المفترض أن يكون حاضنة حضور المؤسسة العسكرية فى السلطة التنفيذية، ام أن هناك تأسيسا دستوريا للمجلس العسكرى نفسه؟. عدم التوافق أو الحسم بشأن تلك التفاصيل إلى جانب أسباب اخرى قد يكون هو ما دفع بالإخوان المسلمين لنقض تعهدهم بشأن عدم الترشح للانتخابات الرئاسية والتقدم بمرشح. الغريب والمثير للسخرية فى ذات الوقت أن حرص الإخوان والمجلس العسكرى على إتمام الدستور قبل انتخابات الرئاسة هو الأعلى بين كل الأطراف، تلك المهمة المستحيلة التى تتطلب تهميش كل الاطراف لصالح اقرار صيغة لنظام الحكم مازالت سرية وقيد التفاوض إلى الآن والتى ادى عدم حسمها إلى فتح المجال لإمكانية ظهور لاعب جديد مستقل عنهما وهو رئيس الجمهورية المنتخب شعبيا ليدخل طرفا ثالثا فى الصراع حول السلطة والصلاحيات.
ليس للمجلس العسكرى تصور مصمت عن شكل النظام السياسى انما ضمان الحفاظ على منطقة نفوذ آمن للمؤسسة العسكرية داخل عملية صناعة القرار السياسى، ما افصح عنه قادة المجلس خلال الفترة الماضية يؤكد على تبنيهم لصيغ تؤمن للمؤسسة العسكرية استقلالا عن جهاز الدولة المدنى وكذلك حق النقض بخصوص اى قرارات أو اجراءات تتقاطع فيها مصالح المؤسسة العسكرية ورؤيتها وحساباتها مع أصحاب القرار السياسى المنتخبين وتحديدا فيما يخص سياسات الدفاع والأمن القومى التى تستتبع معها مجمل السياسات الخارجية. اكثر من مرة يتم التصريح برضا المجلس العسكرى تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية والتأكيد على استمرار النصوص الخاصة بوضع القوات المسلحة كما هى فى دستور 1971 ولكن مع الإشارة لوجود النص الخاص بإنشاء مجلس يسمى «مجلس الدفاع الوطنى» يتولى رئيس الجمهورية رئاسته ويختص بالنظر فى الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد ويبين «القانون» اختصاصاته الاخرى.
لم يكن مجلس الدفاع الوطنى فى ظل الجمهورية الأولى اكثر من مجلسا استشاريا يعقد بدعوة من رئيس جمهورية مطلق الصلاحيات، بيد أن فى ضوء توافق الإخوان والمجلس العسكرى على تقليص تلك الصلاحيات قد يصبح من الممكن لمجلس الدفاع الوطنى المشار لعب دورا حاسما فى صناعة القرار السياسى فى مصر، التى قد تشهد لاول مرة نوعا من الحكم الجماعى لم تعهده الا شهور قليلة فى بداية حكم انور السادات قبل إقرار دستور 1971، الامر الذى قد يثير المخاوف من عودة البلاد لحكم مجموعات مغلقة من كبار القاده العسكريين والامنيين مطعمين بعدد من المدنيين ولكن بسند مؤسس له دستور هذه المرة.
* نشر هذا المقال في جريدة الشروق 28 مايو 2012.