مفهوم الأمن القومي.. بين الحقيقة والخيال
يُعرّف الأمن القومي بأنه قدرة الدولة على تَأمين استمرار أساس قوتها الداخلية والخارجية، والعسكرية والاقتصادية في مُختلف مناحي الحياة لمواجهة الأخطار التي تهددها من الداخل والخارج، وفي حالة الحرب والسِّلم على حدٍّ سواء. يعرف تريجر وكرننبرج الأمن القومي بأنه «ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية». ويعرفه هنري كيسنجر بأنه يعني «أية تصرفات يسعى المجتمع – عن طريقها – إلى حفظ حقه في البقاء». أما روبرت ماكنمارا فيرى أن «الأمن هو التنمية، وبدون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن، والدول التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن ببساطة أن تظل آمنة».
وقد عرف د / زكريا حسين، الرئيس السابق لأكاديمية ناصر للعلوم العسكرية، الأمن القومي العربي بـ«أنه.. قدرة الأمة العربية على الدفاع عن أمنها وحقوقها وصياغة استقلالها وسيادتها على أراضيها، وتنمية القدرات والإمكانيات العربية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، مستندة إلى القدرة العسكرية والدبلوماسية، آخذة في الاعتبار الاحتياجات الأمنية الوطنية لكل دولة، والإمكانات المتاحة، والمتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، والتي تؤثر على الأمن القومي العربي».
وقد مر مفهوم الأمن القومي بمرحلتين مهمتين نتيجة التطورات العالمية: في المرحلة الأولي كان ينظر اليه بالنظرة الاستراتيجية الضيقة وهي صد هجوم عسكري معادٍ وحماية الحدود من الغزوات الخارجية والمحافظة على الاستقلال الوطني، وفي المرحلة الثانية صار على الدولة أن تؤمن مواطنيها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ضد أخطار متعددة فرضتها طبيعة الانفتاح الواسع على العصر الحديث.
وفي ظل انتهاء عصر العزلة، وذيوع فكر العولمة تراجعت سيادة الدولة وتناقصت استقلالية القرار الوطني لصالح قوي إقليمية أو دولية، فهناك قرارات أصبحت تصدر بالمشاركة بين السلطة الوطنية وغيرها من السلطات الخارجية مثل المنظمات الدولية، ولم تعد القرارات الاقتصادية حكرًا للمسئولين في الدولة وإنما أصبحت مشاعا، بالإضافة إلى تأثرها بالمؤسسات الخارجية كالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرهما، مما يعد انتقاصا من السيادة ومن الأمن القومي.
وهكذا أصبحت مساحة التدخل الأجنبي في كثير من شؤون الدولة ـ في ظل العولمة ـ أكبر من أي عصر مضى، واتخذت صورا متغيرة، كما سمحت بأدوار متعددة لبعض التيارات الاجتماعية والأفكار الجديدة ومنظمات المجتمع المدني المختلفة، كما أن ظاهرة العنف والإرهاب التي برزت خلال العقدين الأخيرين أدت إلى تغيير مفاهيم الأمن القومي للدول.
وقد اتسع مفهوم الأمن في العقود الأخيرة ليشمل قضايا ليست بالضرورة ذات طابع عسكري أو أمني، ليشمل مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بعد أن ثبت أن هناك مهددات للأمن القومي بخلاف العدوان والمهددات الخارجية. مثل صراع الفروق الطبقية وسوء توزيع الدخل وغياب العدالة الاجتماعية، وللأمن القومي مجموعة من المحددات أو الأبعاد مثلا من الناحية السياسية يمثل الحفاظ على كيان الدولة وشكلها سواء من الناحية الداخلية أو الخارجية، ومن الناحية الاقتصادية يعني توفير المناخ الملائم للوفاء بالاحتياجات الشعبية وتحقيق النماء والرفاهية المجتمعية، ومن الناحية الاجتماعية لا يعدو أن يكون توفير الأمن لكافة المواطنين بالقدر اللازم لبقاء علاقة الانتماء والشعور بالولاء للدولة، ولن يكون ذلك أبداً إلا من خلال تقريب الفوارق بين الطبقات وتطوير الخدمات، هذا بخلاف البعد العسكري للمفهوم ذاته والذي يتمثل بالحفاظ على القوة اللازمة لحفظ التوازن الاستراتيجي، وهيبة الدولة على المستوى الإقليمي والدولي.
ولكن لماذا يتم وضع هذه الكلمة في المدونة العقابية المصرية كمصطلح مطاط، يصلح من خلاله توجيه الاتهام إلى أي فرد، دونما تحديد لماهية الكلمة، وحقيقة هذا المصطلح، وفي أغلب القضايا السياسية يتم توجيه اتهام «تهديد الأمن القومي»وذلك برغم قول المحكمة الدستورية العليا المصرية في العديد من أحكامها وتأكيدها على وجوب أن تكون المواد العقابية في صياغة محددة، وفي قوالب لغوية عصية على التلاعب بها، وبعيدة `عن أن يتم استخدامها بأشكال وأنماط مختلفة، حيث يتم في الأغلب توجيه الاتهام دونما تحديد لمعناه أو ما المقصود منه في كل سياق على حدة.
ومن زاوية ثانية بعيدة عن القوانين والمحاكم والاتهامات، فإن مفهوم الأمن القومي يتسع ليشمل كل ما يتعلق بالإنسان، حيث إن محور الحياة هي الإنسان، وتدور حوله كافة الأشكال، وما تكون الحكومات أو تتشكل إلا بغرض أن يكون هدفها هو نماء المواطن، والحرص على وجوده، ودعم حياته بكافة السبل وتوفير كافة الإمكانيات اللازمة لمعيشته، فهكذا يجب أن تقوم الدول، وأن تؤسس بشأنه الحكومات.
ولكن تعودنا في حياتنا أن يتم استخدام هذا المصطلح فقط فيما يخص كيان الدولة فقط، أو ما يدور في الفلك السياسي الداخلي أو الخارجي، وتم إخراج منه ما عدا ذلك من صلاحيات يشتملها هذا المعنى، وأهمها الصحة والتعليم والسكن والغذاء، فكل هذه المفردات تدخل ضمن ما يطلق عليه بالأمن القومي، وهذه الفئات المستبعدة من السياق الحكومي تعد أهم من المفردات السياسية، أو الاستخدامات السياسية للأمن القومي، فلو أن الدولة حرصت على توفير احتياجات المواطنين سالفة البيان، فإنها بالفعل تكون قد حققت على أرض الواقع مفهوم الأمن القومي، حيث تكون قد أمنت للمواطنين قدرتهم على الحياة في نماء ورفاهية.
أما إذا حاولنا ضبط هذا المصطلح أو تحديد معناه أو مفهومه، فإنه لا يخرج عن كونه: لأمن في اللغة هو نقيض الخوف. والفعل الثلاثي أمِن أي حقق الأمان. قال ابن منظور: «أمنت فأنا آمن، وأمنت غيري أي ضد أخفته، فالأمن ضد الخوف، والأمانة ضد الخيانة، والإيمان ضد الكفر، والإيمان بمعنى التصديق، وضده التكذيب، فيقال آمن به قوم وكذب به قوم». وقد ورد المفهوم في القرآن الكريم بقوله تعالى: «فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».و تتفق معظم الأدبيات التي قامت بتعريف مفهوم الأمن على أن المفهوم يشير عموماً إلى تحقيق حالة من انعدام الشعور بالخوف، وإحلال شعور الأمان ببعديه النفسي والجسدي محل الشعور بالخوف، والشعور بالأمان قيمة إنسانية كونية مرغوبة لا تقتصر على فئة اجتماعية معينة أو مرتبطة بمستوى الدخل، فالفقير مثل الغني يحتاج إلى الشعور بالأمان ويسعى إلى تحقيقه وإن اختلفت درجات المتمتع به، ونظراً لصعوبة تحقيق الأمان الكامل، فقد أصبح يُنظر للأمن على أنه مسألة نسبية مرهونة بالسعي لتعزيز أفضل الشروط لتوافره.
وأنا لا أستطيع أن أطلب من السلطة الممثلة للدولة أن تلبي كل احتياجات المواطنين، وخصوصا تلك التي تفوق قدرتها، ولكني أستطيع أن أضع أمام المعنيين هذا التعريف الحقيقي لمفهوم الأمن القومي، وأرى أنه يجب عدم الزج به في المدونات القانونية وخصوصا العقابية منها إلا بعد أن يتم تدقيق المعنى المقصود في كل نص تجريمي، وأستطيع أيضا أن أُطالب بالسعي الدؤوب نحو تحقيق الأمن والآمان للمواطنين في كل مفردات حياتهم، وهكذا يتم تحقيق هذا المصطلح.
تم نشر هذا المقال عبر منصة المصري اليوم بتاريخ 12 نوفمبر 2017