التكلفة المجتمعية لمدن الأسوار العالية
عرف المجتمع المصرى المدن السكنية الجديدة ذات الأسوار العازلة، أو ما أطلق عليه «كومبوند» منذ بداية دخول الدولة المصرية لعصر الخصخصة الاقتصادية مع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضى، وقد بدأ ظهور هذه المدن الجديدة بأسوارها على استحياء فى بداية الأمر، وكانت شبه مقصورة على أماكن سياحية أو مدن مصيفية، ثم بدأت رويدا رويدا فى الانتشار فى المجتمعات السكنية الجديدة، كنوع من التمييز المتعالى بين المدن الجديدة وبعضها البعض، أو فى داخل المدينة الواحدة للفصل والتمييز بين الأحياء المختلفة، مثل أحياء الفيلات أو القصور، وأحياء للشقق الفاخرة، أو لما هو أقل من ذلك فى درجته الترفيهية.
وبالطبع لا يستطيع الغالب الأعم من أبناء الشعب المصرى أن يكون من ذوى الحظوة فى السكن فى هذه المجتمعات السكنية الجديدة أو المعزولة، ومن ثم فقد باتت حكرا على طبقات محددة من ذوى الثراء، وكلما زاد حد الثراء صاحب ذلك رفعة فى الدرجة السكنية داخل المدن الجديدة، إلى أن أصبحت هذه الظاهرة وضعا مجتمعيا سائدا فى الحياة المصرية تعزل الطبقات المجتمعية بعضها عن البعض الآخر، حتى قاربت المدن القديمة على أن تصير مدنا للفقراء وعوام الناس، وبالتالى بدأت تفقد أو تقل معها الرعاية اللازمة للسكان والمصاحبة للحق فى السكن مثل النظافة والصحة والتعليم، وفى المجمل ما يمثل أساسا ضروريا للحق فى السكن الملائم، وعلى النقيض من ذلك بخصوص المجتمعات الجديدة ومدن الأسوار العالية، ويعود هذا الفارق فى الأساس إلى كون ساكنى هذه المدن ليسوا فى حاجة إلى تدخل مساعد من الدولة لتوفير بعض الخدمات اللازمة، لكونهم يعتمدون فى أساس حياتهم على قدراتهم المالية فى شراء جميع الخدمات اللازمة للسكن، وإن كانت الدولة لا تهمل هذه الفئة فى تقديم الخدمات أو المساعدات لكون ساكنيها من ذوى العلاقات أو المناصب أو من ذوى رءوس الأموال.
ومع تدخل الدولة فى هذه السوق العقارية نجد نموذجا لزيادة حدة العزل المجتمعى فى العاصمة الإدارية الجديدة، حيث انتشرت فى الفترة الأخيرة أخبار عن وجود سور لجزء من هذه المدينة يصل ارتفاعه إلى سبعة أمتار، وهو ما يشكل عزلا تاما لهذه المساحة المسورة عن باقى الأحياء أو المساحات، فهل أدرك أصحاب فكرة ارتفاع السور لهذا المستوى على أقل تقدير أن تكلفة بناء هذا السور بنصف ارتفاعه كافية لبناء مدرسة أو مستشفى فى أحد الأحياء الفقيرة.
***
وإن كانت هذه الأسوار فى ظاهرها تحقق لساكنى هذه المدن ما يسمى بالأمن أو الأمان المجتمعيين وذلك عن طريق شركات الحراسة الخاصة والبوابات واشتراطات الدخول لهذه المدن، ولكنه لا يمثل إلا أمانا ظاهريا فقط، فهو فقط يعزل هذه الفئة المجتمعية عن باقى المجتمع الخارج عن نطاق المدينة، وكما يقول خبير التطوير الحضرى أمير جوهر «هم فى الأغلب يخدمون طبقة أو ركنا معينا من المجتمع، بشكل رئيسى الطبقة العليا ومن لديهم وظائف ويستطيعون تحمل رهنا عقاريا طويل المدى، فى حين أنهم يجب أن يخدموا بدلا من ذلك قطاعا أكبر من المواطنين وخاصة من الطبقات التى تشكل أغلبية السكان فى مصر والتى تشكل الأغلبية من الأزمة السكانية». وقد عبر أيضا باسل كامل أستاذ العمارة والنظرية الحضرية فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة بأن هناك حاجة لحلول فى ظل تزايد المجتمعات المسورة التى تخلق إحساسا بوجود «آخرين»، وهو ما يعنى الفصل أو العزل المجتمعى بين طبقات المجتمع المصرى الواحد.
هذه المدن التى أسماها عبدالرحمن منيف فى رائعته «مدن الملح»، والتى يتزامن وجودها هذا مع زيادة العجز المحلى فى توفير سكن اجتماعى يلبى حاجة السكان من الناحية الاجتماعية والاقتصادية. وقد تناول الدكتور عمر الشهابى مشكلة المشاريع العقارية وتفاقم الخلل السكانى فى دول الخليج العربى بالتفصيل فى كتابه «اقتلاع الجذور» مبينا عجز هذه المشاريع عن تلبية حاجات السكان على الرغم من وفرتها، ناهيك عن خلق ظواهر جديدة ما هى إلا نتيجة لهذه المشاريع التى شُيدت فى ظل غياب التخطيط الاستراتيجى المتكامل. ظهرت «مدن الملح» لتحريك رءوس أموال فائض النفط وإدخال مدن الخليج فى سباق المدنية والتطور العالمى الذى بات يُقاس بالتطور العمرانى. فأصبحت كل المدن تشبه بعضها دون مراعاة للمناطق المأهولة ومراكز العواصم القديمة، وهو ما أدى لخلق صدع بين النسيج العمرانى القديم والجديد. وقد تمثل هذا الصدع فى وفرة المشاريع العقارية وتضادها المتمثل فى قلة توافر مساكن اجتماعية تتماشى وحاجة الناس.
***
فهل يستطيع المجتمع المصرى بأسره حكاما ومحكومين أن يتحمل النتيجة المجتمعية الناتجة عن هذه الأسوار، والتى من الممكن أن نوجز منها على الأقل الشعور التمييزى بين فئات المجتمع، وما يتولد عنه من مشاعر تنافرية بين طبقات المجتمع، والتى تشكل خللا مجتمعيا قد يولد عزلا أعلى من مساحات وارتفاعات الأسوار العازلة؟.. ومع مرور الوقت قد تولد أجيال لا تستطيع أن تتآلف مع بعضها أو تتعايش فى تسامح مجتمعى من المفترض أن يكون من أهم افتراضات قيام الدولة الحديثة، حتى ولو كانت هذه المدن يتحمل ثمنها أصحابها، ولكن الضريبة والعبء المجتمعى يعود على الكل، وتتحمل الدولة تبعته بخلاف ما يتحمله المجتمع ذاته، هذا بخلاف أن تزايد الهوة المالية والشعور بالفارق الاجتماعى بين الفئات داخل المجتمع الواحد قد يكون من بين الأسباب الدافعة إلى الجريمة بين بعض هذه الطبقات وبعضها، فقد يولد الإحساس بالدونية بغضا وعدم تقبل لفئة الأغنياء من ذوى الأسوار العالية لدى العديد من قاطنى الأحياء الأشد فقرا، والمحرومة بالتالى من الخدمات الأساسية اللازمة لشعور أهل هذه المناطق بأدنى معانى الإنسانية بالمقارنة بغيرهم من ساكنى هذه المدن المعزولة، كما أنه قد يولد لدى الطرف الآخر ــ وهم أهل مدن الملح ــ شعورا بتميزهم مجتمعيا على أقل تقدير عن باقى سكان المدن أو الأحياء القديمة.
وإن كنت أعلم جيدا أن لذوى الثروات وأصحاب الدخول المرتفعة الحق المطلق فى التمتع بثرواتهم كيفما يعن لهم، وبالطريقة التى تتناسب وطرقهم الحياتية، إلا أننى أجد أن ذلك يولد التزاما مجتمعيا على عاتق الحكومة المصرية ملخصه على أقل تقدير توفير الاحتياجات الضرورية واللازمة والمصاحبة لأغلبية المجتمع المصرى فى المجتمعات القديمة أو المدن القديمة، وأهم هذه الاحتياجات هى الصحة والتعليم والطرق وما يلزم ذلك من شبكات صرف صحى ومياه صالحة للاستخدام وما إلى ذلك من أدوات معيشية رئيسية، ولكن وفى ظل الظروف الاقتصادية غير الطبيعية التى يحياها المصريون، وفى ظل تزايد معدل الفقر لدى معظم المصريين، أرى أن المشكلات المجتمعية، وأخصها الحق فى السكن المناسب يجب أن تتوافر له مقومات نجاحه، وأن تسعى الدولة لشمول الأحياء الفقيرة بالمزيد من الخدمات الاجتماعية، وألا ترفع عنهم غطاء الحماية اللازمة للحياة.
تم نشر هذا المقال عبر موقع جريدة الشروق الإلكتروني بتاريخ 13 سبتبمر 2017