الحق فى التنقل والمنع من السفر
فى طريقى صباحا للدخول إلى حى جاردن سيتى بالقاهرة من عند أول سور السفارة الأمريكية، استوقفتنى قوة أمنية على مدخل الشارع يرأسها ضابط صغير الرتبة، وسألنى عن وجهتى، وما أحمله فى حقيبتى الصغيرة، وبعد أن نظر إلى ما بداخلها ومازحته عن «سندوتشات الإفطار» التى لم يرها ربما تحمل شيئا أو تروق له، هممت بالانصراف إلا أن استرجعنى صوت أجش لأمين شرطة يقف بجوار الضابط، فرجعت فسألنى عن وجهتى مجددا فأخبرته، فما كان منه إلا أن قال لى «تعالى لف من آخر السور»، فنظرت إلى الضابط متعجبا فتدخل فى الحوار، فقلت له بصوت بادئ فى الغضب: «أنتم هنا لحماية السفارة الأمريكية، وليس لمنع تجوال المواطنين المصريين أو لجعلها مستعمرة أمريكية، فتحدث إلى عن الأمن، فرددت عليه بمفهوم الأمان، وأخبرته أن دوره الأمنى فى حدود ما يقول هو التحقق من سلامة الداخلين والخارجين فقط، وليس تحديد وجهتهم، أو منعهم من دخول هذا الشارع المصرى».
وتركته وانصرفت ولكن ثارت بداخلى مجموعة من التساؤلات أو الأحاسيس الانفعالية المتداخلة عن معنى الوطن والمواطنة، والأمن والأمان، والحق فى التجول والسفر، وكان الأخير تحديدا هو ما أخذنى إلى البعيد البعيد.
الحق فى التنقل والسفر، بما يمثله ذلك العنوان من فتوحات فكرية وإسهامات عظيمة لمفكرين عن مدلوله وكنهه وحدوده، وما أرسته الترسانة الحقوقية الدولية من نصوص تؤطر لذلك الحق بحسبانه من أهم المفردات الحقوقية الشخصية اللصيقة بالإنسان، وما أضافته المدونات الدستورية المصرية كإطار داخلى لحماية هذا الحق، كل تلك المفاهيم دارت فى مخيلتى مصطدمة بقوة مع قول «أمين الشرطة»، والذى يدلل على منع المرور من هذا الطريق، وكيف يكون ممنوعا علينا كمصريين كنوع من الحماية للسفارة الأمريكية، ولكن الأدهى فى الأمر أن تمر سحابة تفكيرية عكرة تنقلنى من المنطقة الداخلية إلى منطقة المنع من السفر الخارجى، والوضع على قوائم الممنوعين من السفر، أو قوائم ترقب الوصول، وغير ذلك من القوائم العديدة التى لا أعلمها، وبمطالعة بعض القوانين والقرارات الوزارية تيقنت أن هناك توسعا فى ذلك الأمر فيكفى أن أذكر لكم أن هناك إحدى عشرة جهة رسمية لها الحق فى الإدراج على قوائم الممنوعين من السفر بالنسبة للأشخاص الطبيعيين وبناء على طلب الجهات الآتية دون غيرها: المحاكم فى أحكامها وأوامرها واجبة النفاذ، والنائب العام، وقاضى التحقيق، ومساعد وزير العدل للكسب غير المشروع، ورئيس المخابرات العامة، ورئيس هيئة الرقابة الإدارية، ومدير إدارة المخابرات الحربية، ومدير إدارة الشئون الشخصية والخدمة الاجتماعية للقوات المسلحة، والمدعى العام الاشتراكى ومساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن الوطنى، ومساعد وزير الداخلية لقطاع مصلحة الأمن العام، ويجب أن يكون الإدراج فى غير حالات طلب المحاكم صادرا من رئاسة الجهات المشار إليها دون فروعها.
***
وأن أهم أو مجمل أسباب المنع من السفر تكمن فى أن يكون القرار صادرا من المكتب الفنى للنائب العام بالمنع من السفر؛ وذلك على خلفية التورط فى قضايا جنائية تستلزم المنع، وتتمثل فى أن يكون الشخص الممنوع من السفر متهما فى جناية أو جنحة يعاقب عليها، بعقوبة مقيدة للحرية وأن هذه الجريمة من ضمن الجرائم التى تمس أمن وسلامة البلاد، وأن يكون صادرا ضدهم أحكام نهائية واجبة النفاذ فى قضايا تتعلق بالمصلحة العامة للدولة. وكذلك عدم تأدية الخدمة العسكرية والحصول على شهادة تؤكد ذلك، أو الحصول على إذن بالسفر من المنطقة العسكرية للشباب ممن هم فى سن التجنيد ولم يتم تحديد موقفهما بشكل نهائى، كل هذا بخلاف إمكانية المنع لأسباب وقتية مثل حيازة مبالغ تزيد على عشرة آلاف دولار أو ما يعادلها، أو حيازة أدوية علاجية مدرجة على جداول المخدرات، دونما إفادة طبية.
ولكن أثارنى كل هذه الجهات التى من حقها مصادرة حرية أو حق التنقل والسفر، حيث يكفى أن يكون هنالك رقم قضائى فقط ضد الشخص، حتى تكون هناك أسباب تجعل من حق السلطات أن تصدر أمرا بالمنع من السفر، حتى لو استمر ذلك الرقم القضائى محبوسا دون ممارسة أى تحديثات عليه مثل استكمال التحقيقات، أو الإحالة إلى المحاكمة على أسوأ الفروض، وهو ما يجعل من هذا الأمر الذى يتم تغليفه تحت مقولة إنه إجراء احترازى إلى عقوبة مسبقة دونما محاكمة، وهو ما يتناقض مع ما أرسته المحكمة الدستورية العليا بقولها إنه «من المقرر أن حق المواطن فى الانتقال يعكس رافدا من روافد حريته الشخصية التى حفل بها الدستور، دالا بذلك على أن حرية الانتقال تنخرط فى مصاف الحريات العامة وأن تقييدها دون مقتضى مشروع إنما يجرد الحرية الشخصية من بعض خصائصها ويقوض صحيح بنيانها». وذلك فى حكمها بعدم دستورية قرار وزير الداخلية المنظم حينها لأوامر المنع من السفر.
***
ومن هنا فإن هناك حاجة مجتمعية لتنظيم قانونى لأمر المنع من السفر، لا يخل بالقيمة الحقوقية أو الدستورية للحق فى التنقل والسفر، ويتناوله وينظمه بما يتوافق مع قيمة ذلك الحق، ولا يجعل أمر تنظيمه فى يد السلطة التنفيذية بشكل غير محدد، وأن تكون نصوصه واضحة محددة الصياغة، غير فضفاضة، وعصية على التأويل والالتباس، كما أنه لا يجب أن يكون مطلقا أبدا، وعلى أقصى تقدير أرى أنه يجب أن يكون محددا فى مداه الزمنى، وأعلم جيدا أنه كان هناك مشروع لتعديل قانون الإجراءات الجنائية يرجع لعام 2015 لتنظيم أمور المنع من السفر، وقد كان هذا المشروع يجعل لكل من يصدر ضده أمر من المنع الحق فى التظلم منه كل ثلاثة أشهر، وذلك وقت أن كان هناك وزارة للعدالة الانتقالية، وهى التى كانت وراء هذا المشروع الذى لم يتم.
ومن ثم وجب أن تنال المؤسسة التشريعية دورها فى تنظيم احتياجات المجتمع التى تنوب عنه، وتدلى بدلوها فى تنظيم أمر الحق فى التنقل والسفر بصورة تليق وتتفق مع كل ما صار عليه أمر الدول الأخرى حيال تنظيمها للحقوق والحريات. ويكفى للهيئة التشريعية استرشادا ما قررته المحكمة الإدارية العليا حينما قالت إنه «فى غياب القانون الذى ينظم القواعد الموضوعية والشكلية لإصدار قرارات المنع من السفر، وفى ضوء حكم الدستورية العليا، لا تستنهض النيابة العامة هذه الولاية فى خصوص المنع من السفر ولا تقوم لها قائمة، ويكون ما تصدره النيابة العامة فى هذا الشأن مجرد إجراء فاقد لسنده الدستورى والقانونى يخضع لرقابة القضاء الإدارى».
تم نشر هذا المقال عبر موقع جريدة الشروق الإلكتروني بتاريخ 31 ديسمبر 2017