مقالي الممنوع من النشر
منذ أن بدأت الكتابة الصحفية من خلال بعض الصحف المستقلة وبعض المواقع الإلكترونية على شبكة المعلومات الدولية، وتتعرض بعض مقالاتي للمنع من النشر بين الحين والآخر، ولكن يفقد المرء عقله حين تخبرك الصحيفة بموافقتها على نشر المقال، وربما يتم تحديد موعد لنشر المقال، ثم تأتي لك رسالة بالاعتذار عن عدم إمكانية نشر المقال عبر الصحيفة أو الموقع، وهنا تدرك جيدا أن الأمر ليس من داخل الصحيفة.
ولكوني أؤمن بقدر الكتابة وقيمتها ومدى تأثيرها على المجتمع، فإنني أدرك جيداً أن منع المقالات من النشر، وهو الأمر الذي يصيب كثيرا من مقالات العديد من الكتاب، وأدرك أيضا أن ذلك المنع في الأغلب من حالاته لا يعود إلى إرادة الصحيفة أو الموقع أو لمخالفة المقال لسياسة الصحيفة، أو لضحالة فكرة المقال، أو عدم جدواه أو قلة قيمته، وما إلى ذلك من الأسباب الموضوعية المرتبطة بقيمة المقال وجوهره، ولكني أرى أن هذه القرارات تعود في غالب حالاتها إلى مقص الرقيب المسلط على رقاب الصحف وكل وسائل النشر، دونما أدنى تدخل أو إعمال لسلطة الصحيفة في ذلك الأمر،
وهذا الأمر ليس بجديد على التاريخ المصري، ولكن في السنوات الأخيرة ساد التفاؤل بين جموع الكتاب والمفكرين والصحفيين بانفراج حدة المنع من النشر، وهو ما يمثل بشكل أو بآخر منعاً من الكتابة، وحسب ما جاء عن موقع «مراسلون بلا حدود» أن مصر جاءت في مؤخرة التصنيف العالمي للحريات الصحفية، عبر القائمة التي أعدتها منظمة «مراسلون بلا حدود»، حيث احتلت المرتبة 159 من أصل 180. وبعيدا عن الأحوال التي ينظم فيها القانون منع النشر وهو أمر خارج عن نطاق هذا المقال، وهي الحالات التي حددها القانون مثل منع نشر تحقيقات النيابة العامة، أو منع نشر ما يدور في جلسات المحاكمة السرية. يبقى الأصل العام وهو حرية النشر المرتبط بالحق في المعرفة والحق في تداول المعلومات وحرية التعبير وأهم طرقها الكتابة. وللرقابة على الصحف والنشر تاريخ طويل في مصر، فمثلا في عهد جمال عبدالناصر يكفي أن نذكر أنه في لقائه بالصحفيين العرب، في 4 فبراير سنة 1967، قال جمال: «.. إحنا لنا خط عام معروف، خط اشتراكي تحرري ثوري، لا نسمح فيه بخط رأسمالي رجعى، كل واحد حر، كل رئيس تحرير حر، ولا يستطيع أحد أن يقول له اعمل كده»، وهذا ما يدلل على توجيه الخطاب الصحفي في طريق محدد سلفا، وهو طريق الاشتراكية كما ورد على لسان ناصر نفسه، وفي عهد الرئيس السادات على الرغم من أن دستور عام 1971، نص في المادة 47 على كفالة حرية الرأي، ونصت المادة 48 على حرية الصحافة، وأضافت حرية «وسائل الإعلام» بالمقارنة بالدساتير السابقة، كما نص الدستور أيضاً على «حظر الرقابة» وإنذار الصحف بالطريق الإداري..
كانت مجرد الإشارة بانتقاد ما لنظام الحكم تثير غضب الرئيس الراحل السادات، حتى قال في أحد خطاباته إنه ليس في حاجة إلى نقابة للصحفيين «وسوف يحولها إلى ناد»، ووصل به الأمر إلى تهديد معارضيه – في خطاب عام – إلى استخدام «المفرمة»!! و«أن الديمقراطية لها أنياب»! إلا أن أزمة نهاية السبعينيات كانت شديدة العنف، فانتهت إلى أزمة سبتمبر 1981 الشهيرة، ثم اغتيال الرئيس السادات بعد شهر واحد. وعقب تولى الرئيس مبارك حكم مصر، صدر قرار جمهوري في 30 يناير 1982 بإعادة 30 صحفياً إلى أعمالهم السابقة، وبدأت الأزمة تنفرج بعودة الصحف المغلقة، وتنوع الصحف الحزبية.. وبقدر ما تمتعت الصحافة الحزبية من اختفاء «الرقيب» إلا أن الملاحقة القانونية طبقاً لقانون العقوبات ظلت مستمرة. وتجدر الإشارة إلى كتاب «الصحافة في العالم» الصادر في باريس عام 1989، ويلخص الكتاب أوضاع الصحافة المصرية، بأنها «كانت تخضع خلال المرحلة الناصرية للمراقبة المطلقة الحكومية، ولم تكن هناك صحافة معارضة».. وبعد سنة 1970، كان هناك نوع من التطور الخجول، وتم السماح بصدور عدد من صحف المعارضة، ولكنها توقفت بعد ذلك بسبب العراقيل الحكومية المتعمدة.. وفى عصر مبارك تمتعت الصحافة- كما أشار الكتاب- بقدر من الحرية النسبية، والنبرة العامة تسعى إلى تعبئة القراء من أجل مساندة الدولة في اتجاهاتها السياسية، والرقابة ملغاة رسمياً.. ولكنها مستمرة ومهيمنة! وقد تكون نوعاً من «الرقابة الأبوية» على حد تعبير الرئيس الراحل السادات! وكأن الكاتب أو الصحفي لم ولن يكون ناضجاً أبدا. ولكن وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير لسنة 2011، قد توقع الشعب المصري الكثير من الحرية، خصوصا في نطاق النشر، ومنع الرقابة على الصحف، سواء كانت هذه الرقابة على سلطة إصدار صحيفة، أو في نطاق منع رأي من النشر، وما يمثله هذا المنع من مصادرة كاملة للحق في التعبير، وتفريغه تماما من مضمونه، إذ على الرغم من كفالة تلك الحقوق في الدساتير أو الإعلانات الدستورية التي أعقبت ثورة يناير، والتي انتهت إلى الدستور الحالي لسنة 2014، والذي يضمن عدم المساس بحرية الرأي والتعبير بشموليتها، إلا أن الواقع مغاير لمفهوم ومعنى هذه النصوص، وقد لا يشعر بذلك إلا الممارسون لمهنة أو هواية الكتابة عبر صفحات الرأي، ولابد من مناقشة الموضوع بشكل مباشر دون مواربة، فبماذا نسمي منع مقال من النشر سوى بالرقابة؟
ومن هنا، هل تمثل الكلمة عبئا على الحكومة، خصوصا إذا ما كانت هذه الكلمة ليس بها ما يشين أو يتعارض مع الصالح العام، أم أن أمر مناقشة تصرفات السلطة وتناولها بالنقد صار خطا أحمر لا يجب الاقتراب منه؟ أرى أن الكلمة الناقدة لا تمثل سهاما جارحة للقائمين على السلطة، بل تمثل تنويراً ونقاط ضوء ملقاة أمامهم لتحسين تصرفاتهم، أو تغيير نهجهم في الممارسة لأمور السياسة والحكم بما يتوافق مع مصلحة الشعب، ومن ثم لا يجب أن تكون هناك رقابة غير مرئية أو غير ملحوظة على مقالات الرأي، وأن هناك سياقا دستوريا وقانونيا يشكل المظلة العامة للحكام والمحكومين، وهو ما يعبر عنه القانونيون بمقولة دولة القانون، تلك التي أعلى من قيمتها الدستور وجعل من أمر وجود هذا المبدأ أهم ركيزة تدلل على اتساق وضعية الدولة بمفهومها الواسع، ولا تمييز في ذلك بين السلطة والمواطنين. وبرغم تعدد المرات التي تعرضت فيها للمنع من النشر عبر موقع أو صحيفة، إلا أنني ما زلت أمارس الكتابة لاعتقادي بأنها أهم السبل لتحقيق صالح الأمة ونهضتها، وبها تُقاس مدة تحضرها، على أمل أن نتخطى ذلك القيد، أو تلك الرقابة لعلنا نستفيد جميعنا مما يكتبه الكتاب حتى ولو كان نقداً للأوضاع.
تم نشر هذا المقال عبر منصة المصري اليوم بتاريخ 25 أكتوبر 2017