أزمة الرعاية النفسية من الخانكة إلى العباسية
لم تكن الأزمة التى أثيرت أخيرا بمستشفى العباسية للصحة النفسية الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة!.
«فرغم خصوصية انتهاك حقوق المرضى النفسيين الذى حدث بشكل مزدوج ما بين إهمال بعض المسئولين والتعمد الفاضح لتصوير المرضى من جانب بعض العاملين».
إلا أن مشكلة انتهاك حقوق المرضى النفسيين لها جذور قديمة حيث شهدت فترة صيفية حارة قريبة أزمة مختلفة لمرضى مستشفى الخانكة التى تضم أعدادا كبيرة من المرضى النفسيين بسبب ارتفاع درجة حرارة الطقس دون توفير وسائل ملائمة لهم لحمايتهم من سخونة العنابر، ما أدى وقتها لبعض الوفيات كان من الممكن تلافيها وهو ما لم يحدث لقلة الإمكانيات المادية المخصصة لخدمات الرعاية النفسية عموما فى موازنة وزارة الصحة ــ يصل نسبة الإنفاق على الصحة النفسية إلى نسبة ﻻ تتجاوز 2% فقط من مجمل الإنفاق الحكومى على الصحة ــ إلى جانب نقص أعداد الأطباء المتخصصين فى الرعاية النفسية ومساعديهم من مختلف التخصصات التمريض المؤهل وفق المعايير الطبية الدولية عموما ــ أقل من 1000 طبيب نفسى فى كل القطاعات العامة والخاصة ــ.
خلفية تاريخية (إصدارات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية).
على مدى قرون طويلة كان يُنظر إلى الاضطرابات النفسية نظرة متحيزة ورافضة تستوجب الخوف والاجتناب فضلا عن إساءة المعاملة واﻻستغلال والاضطراب النفسى، كان عبر العصور يرجع ذلك إلى قوى شريرة غير قابلة للتفسير العلمى، وقد شهدت أوروبا فى العصور الوسطى قسوة شديدة فى التعامل مع المرضى النفسيين الذين كثيرا ما كان يتم تعذيبهم وقتلهم وحرقهم لطرد الأرواح الشريرة التى تسكنهم، وبحلول القرن السابع عشر والثامن عشر تراجعت تلك التفسيرات وأصبح يُنظر للاضطراب النفسى باعتباره خللا عضويا إلا أن ذلك لم يستجلب التعاطف أو التسامح إذ اعتبر المريض مسئولا عن مرضه وعن الاختلال فى مشاعره وبالتالى فهو يستحق العقاب، حيث كان يتم حبس المرضى فى السجون العامة والمصحات والمشاغل والمعازل الفقيرة حيث يحيون معيشة غير آدمية فى ظروف شديدة القسوة ويتعرضون لكل أنواع الإساءة واﻻستغلال.
ومع بداية ظهور النزعة الإنسانية فى القرن الثامن عشر، ظهرت الدعوة إلى وضع حد لهذا التعامل غير الإنسانى مع المرضى النفسيين وتم بناء مصحات كبيرة لاحتوائهم وبدأ تطبيق العلاج الأخلاقى الذى يهدف إلى تقديم الرعاية الإنسانية لهم إلا أن الأحوال داخل هذه المصحات الكبيرة سرعان ما تدهورت لتتحول بدورها إلى أماكن لعزل واحتجاز المرضى فى ظروف شديدة السوء واستمر هذا الوضع عالميا حتى القرن التاسع عشر.
على الرغم من أن هذا القرن شهد بداية ظهور علم النفس كأحد فروع الطب إلا أن المرضى النفسيين وسواهم من أصحاب السلوك المخالف للسائد فى المجتمع استمروا يُعزلون فى مصحات كبيرة أو مؤسسات للرعاية تبنى على أطراف المدن وقد لا تختلف كثيرا عن السجون.
ومع القرن العشرين تغيرت تلك النظرة جذريا للصحة النفسية والعقلية فلم يعد المرض النفسى أو العقلى مدعاة للعزل أو الوصم، وبرزت أساليب علمية جديدة للرعاية النفسية تبدأ من مستويات الرعاية الأولية فى وحدات صحية أصغر لا تستلزم سوى السعى للتعامل المبكر مع الاضطراب النفسى مهما كان نوعه وتشخيصه، والسعى لدمج المرضى فى مجتمعاتهم بلا وصم فكل إنسان مهما كانت أحواله قابلا للاضطراب النفسى المؤقت الذى يمكن التعامل معه داخل أطر مجتمعية إنسانية دون حاجة لمثل هذه المعازل الكبيرة المعذبة.
• تطورات إيجابية
مع نمو حركة حقوق الإنسان عقب الحرب العالمية الثانية ومع التقدم العلمى فى علوم الأعصاب والعلوم الكيميائية إضافة للطفرة التى حدثت فى اكتشاف الأدوية وعقاقير الأمراض النفسية وظهور أشكال جديدة من العلاج النفسى والسلوكى التى تنظر إلى الاضطرابات النفسية مثلها مثل الأمراض الجسدية تحدث بسبب تفاعل مجموعة من العوامل البيولوجية واﻻجتماعية والنفسية والأهم أنها قابلة للعلاج والشفاء كسائر الأمراض، وكان محصلة ذلك تغيير فى النموذج العلاجى للاضطرابات النفسية من العزل فى مصحات ومؤسسات إيواء كبيرة مغلقة إلى الرعاية المفتوحة وإعادة اﻻندماج فى المجتمع وترتب على ذلك التوجه أن تناقصت أعداد المرضى الذين يعالجون داخل المصحات الكبيرة فى العالم، وفى بعض الأحوال تم إغلاقها كلية كما حدث فى إيطاليا ــ مثلا ــ حيث نص على ذلك فى قانون إصلاح الصحة النفسية الإيطالى الصادر فى عام 1978 واستبدالها بشبكة متكاملة من خدمات الرعاية النفسية المجتمعية وانخرطت العديد من الدول النامية بما فيها مصر فى التحول من اﻻعتماد على نموذج العلاج فى المستشفى لصالح توفير الخدمات التى تقدم الرعاية النفسية والعلاج داخل المجتمع مثل العيادات الخارجية وأقسام المستشفيات العامة ومراكز الحالات الطارئة والخدمات المتنقلة وخدمات الإقامة النهارية وخدمات دعم العائلات والرعاية المنزلية والرعاية الأولية النفسية فى وحدات صحة الأسرة.. إلخ.
ويهدف نموذج العلاج داخل المجتمع على عكس نموذج إبعاد المرضى وعزلهم داخل المستشفيات إلى ضمان حصول غالبية المرضى على الرعاية النفسية التى يحتاجونها داخل مجتمعاتهم وأماكن إقاماتهم وهو المدخل الذى يمكن أن يوفره نموذج الرعاية الأولية النفسية عبر شبكة وحدات الرعاية الأولية التى تمتد بطول وعرض البلاد فى مصر (نحو 5000 وحدة رعاية أولية).
***
فهل نمضى فى هذه الطريق لإصلاح منظومة الرعاية النفسية؟ فالسياسة الصحية المعلنة منذ عام 1986 حددت خطط حكومية فيما يتعلق بالصحة النفسية هدفها توجه نحو إدماج الرعاية الصحية النفسية الأساسية ضمن الرعاية الصحية الأولية، وضمن الخدمات اﻻجتماعية والتعاون مع القطاعات الحكومية المختلفة وغير الحكومية والخاصة المعنية بتحقيق هذا الهدف، وكما جاء فى تعديل السياسة الصحية النفسية منذ عام 2003 التى تشير إلى أن من بين الأهداف الجديدة للسياسة الصحية إنشاء وتطوير خدمات الصحة النفسية المجتمعية وإصلاح المستشفيات النفسية القائمة وإعادة هيكلتها وتطوير تقديم الصحة النفسية فى الرعاية الأولية.
على الرغم من كل هذا التأكيد على أهمية إدماج الرعاية النفسية ضمن الرعاية الأولية فإن الجهود التى تم بذلها لتحقيق ذلك لم تكن كافية وكانت نتائجها محدودة للغاية ولم تحقق الغرض منها، فحسب منظمة الصحة العالمية فإن نسبة أطباء الرعاية الأولية الذين تلقوا دورات تدريبية قصيرة حول الصحة النفسية لا تتجاوز 5 % كما أن غالبية هؤلاء الأطباء ليس لديهم أى بروتوكولات للمساعدة فى تشخيص وعلاج الاضطرابات النفسية.
وباختصار، فإن جميع التقارير تجمع على أن مصر تعانى من نقص فى الموارد المالية والبشرية المخصصة للصحة النفسية ومن قصور فى إتاحة هذه الخدمات التى قد تتوافر فى المدن الكبرى فقط، وﻻ تتوافر فى المناطق الأخرى وخاصة الريف كما أن الرعاية الصحية الأولية ما زالت فى طور التطوير وغير قادرة على تقديم الخدمة الصحية النفسية أو تحويل المحتاجين إليها أو توفير الأدوية النفسية الأساسية، كما تشير التقارير إلى ضعف التعاون بين القطاع الصحى الرسمى والقطاعات المجتمعية الأخرى بما فيها منظمات المجتمع المدنى المعنية بحقوق المرضى النفسيين إضافة إلى غياب دور لجان لحقوق المرضى المنوط بها متابعة مثل هذه التحديات والتنبيه إليها ومنع تفاقم أى انتهاكات للمرضى النفسيين مثل ما حدث أخيرا وأثار قضية تصوير المرضى فى ظروف مزرية.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 12 فبراير 2018