تعديلات قانون الإجراءات الجنائية والمحاكمة العادلة
لما كان التشريع «القانون» هو السند الذى يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فالتشريع على هذا النحو هو السند الذى يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فإن ما تقره التشريعات من القواعد القانونية فى شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التى كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها ويتعين أن يكون منصفا ومبررا، وبالتالى فإنه لا يجوز للسلطة التقديرية للمشرع أن تتجاوز أو تنحرف عن الأهداف الدستورية فى طريقة وكيفية مباشرته لاختصاصه الفريد، وقد اشترط الدستور لتحديد قواعد الإجراءات الجنائية مستندا إلى مبدأ عام، وهو الثقة فى القانون لتنظيم الحريات.
ويرتكز أساس هذا المبدأ على ما تتمتع به من قواعد القانون من صفة العمومية والتجريد، وفى أنه يصدر من سلطة تمثل الشعب. وصفة عمومية القانون وتجريده هى بذاتها ضمان أساسى لأنها تؤكد أن القيود الواردة على الحريات لا تستند إلى اعتبار شخصى، وتضمن مساواة المواطنين عند ممارسة حرياتهم، كما أن صدور القانون من السلطة التشريعية يكفل تعبيره عن الإرادة الشعبية، فضلا عن أن الموافقة عليه لا تكون إلا بعد مناقشته علنا أمام ممثلى الشعب، بالإضافة إلى الإجراءات الشكلية التى يتعين اتباعها قبلا للإقدام على أى تعديل للقانون.
***
ومن خلال هذا المدخل، فإن ما جاء به مشروع تعديلات قانون الإجراءات الجنائية، وخصوصا فيما يتعلق بالحق فى المحاكمة العادلة والمنصفة، التى هى موضوع هذا المقال، حيث سبق لنا أن تناولنا هذا المشروع من زاوية مساسه بالحق فى الدفاع، وهو من هذه الزاوية لم يكن أقل من الزاوية السابق التعرض لها فى العدوان على حق المواطنين فى المحاكمة المنصفة والعادلة منذ لحظة بدء التقاضى حتى إسدال الستار فى الدعوى بحكم باتٍ منهٍ للخصومة، ولكن وإحقاقا للحق فلابد وأن نثنى على ما جاء فى المشروع بداية فى المواد أرقام 338 و 33 مكرر و 338 مكرر «أ» و339 و340 و341 و342، وهذه المواد متعلقة بكيفية التعامل مع المرضى النفسيين والمضطربين عقليا بطريقة أكثر اتساعا وعمقا واحتراما لهذه الفئة من المجتمع، عما كان الأمر عليه فى قانون الإجراءات قبل هذه التعديلات، وهو الأمر ذاته الذى يصدق على ما جاء بالمادة 365 من هذا المشروع، والتى تعالج الجرائم التى تقع على المرضى، وكذلك المجنى عليهم من الأطفال.
ولكن أول مثالب هذا المشروع فيما يتعلق بإجراءات المحاكمة، هو ما جاء به فى المادة 238 وهى التى تعالج أمر إعلان المتهمين، وهى المادة التى استحدثت إعادة إعلان المتهم، واعتبار الحكم الصادر فى حقه حضوريا بعد إعادة الإعلان، وهو الأمر الذى ساوى فى ذلك التقاضى فى الأمور المدنية، على الرغم من اختلاف المجالين، وهو الأمر الذى أكملته المادة التالية لها، بنصها على اعتبار من يحضر جلسة، ويتخلف عن باقى الجلسات يُعد الحكم الصادر فى شأنه حضوريا، ثم أكدت ذات المعنى المادة 240، وهى المعنية بحالة تعدد المتهمين. وقد فات على صانعى هذا المشروع بقانون ما يمثله الحضور فى القضايا الجنائية من أهمية فارقة عن الدعاوى المدنية، بما يشكل مصادرة للحق فى التقاضى على درجتين، والحق فى إبداء الدفاع، ومن زاوية موضوعية فكلنا يعلم ما يتم فى أوراق الإعلان من المحضرين، وكيفية التعامل باستهانة مع الأوراق القضائية، وإن كانت الدولة تسعى إلى تطبيق هذا النظام المستحدث، فقد كان من الأجدر بها أن تقوم أو تعمل على تحديث نظام المحضرين بما يضمن فعليا وصول الأوراق القضائية إلى أصحابها، ولن يغنى فى ذلك محاولة الإعلان عن طريق الهاتف المحمول المستحدثة بنص المادة 234 مكرر.
***
وإذا ما انتقلنا إلى موضوع آخر قد أتى النص عليه فى المادتين 268 و 268 مكرر، المعنيتين بعدم نشر وإذاعة وقائع الجلسات، ونشر أخبار أو معلومات عنها إلا بموافقة كتابية من رئيس الدائرة، فما بال واضعى هذين التعديلين بالمعنى الأوسع لمفهوم العلانية، وكذلك الحق فى تداول المعلومات.
ويأتى بعد ذلك ما جاء النص عليه فى المادة 419 مكرر / 10، وهى التى تعتبر تخلف المستأنف للحكم الصادر عليه فى جناية عن الحضور هو أو وكيله فى أى جلسة من جلسات الاستئناف ــ مبررا للمحكمة فى أن تنتدب له محاميا، وتصدر حكمها فى الاستئناف، ونعلم جميعا أن أمر العدالة يعانى كثيرا فى خصوص انتداب محام للمتهم، حيث إنه فى الواقع لا يتم تطبيقه سوى بصورة شكلية فقط، تعد مجافية لمعنى الحق فى الدفاع، وأذكر لكم مثلا فى ذلك المعنى، فقد كنت حاضرا أمام إحدى دوائر الجنح المستأنفة بمحكمة شمال القاهرة، وحدث أمامى أن تمسَّك المتهمون بحضور محاميهم، ولكن المحكمة حاولت أن تنتدب لهم آخر لتغيّب المحام الأصيل، وكنت أجلس فى مواجهة هيئة المحكمة فاستأذن رئيس المحكمة أن أقوم بتولى الدفاع، ولكونى شاهدا لما حدث من المتهمين، فقمت بإثبات حضورى فى محضر الجلسة، ثم أثبت طلبى لأجل الاطلاع والاستعداد والمذكرات، وذلك بهدف تحقيق ضمانة الحق فى الدفاع للمتهمين، فما كان من هيئة المحكمة إلا الاستجابة.
***
ومن هنا فإنى أقول للقائمين على هذا المشروع بتعديل قانون الإجراءات الجنائية: إن ذلك ليس بالأمر الهيِّن واليسير أن تتم معالجة موضوع بهذه الدرجة من الخطورة والتأثير على أمر العدالة على إطلاقها بمثل هذه الطرق المتعجلة، فإن ما يتم عرضه ومحاولة تعديله يتجاوز نصف قانون الإجراءات الجنائية، فلماذا إذن لم تتم صناعة مشروع متكامل تظهر فيه فلسفة صانعه، ويتم فيه الاعتماد على المتخصصين وذوى العلم من أهل القانون، قبل أن تتم إحالته إلى مجلس النواب ــ وهو المجلس الذى ليس لدى معظم أعضائه الخلفية العلمية القانونية التخصصيةـ ـ على نحو يكفل حقوق المتقاضين وتحقيق أقصى مدى ممكن من الضمانات اللازمة نحو توفير إجراءات المحاكمات العادلة، وقد أقرت المحكمة الدستورية العليا المصرية أن الأصل فى سلطة المشرِّع فى مجال تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخوما لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها، وكأن الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية بتنظيم موضوع معين، فإن ما تقره من القواعد القانونية فى شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التى كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها ويتعين أن يكون منصفا ومبررا.
ومن هنا أرى أنه على مجلس النواب أن يتوقف عن مناقشة أو تمرير هذا المشروع.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 17 فبراير 2018