تعديلات قانون الإجراءات الجنائية والحبس الاحتياطى
لم تزل مشكلة الحبس الاحتياطى وطول مدته فى التشريعات المصرية عالقة منذ زمن بعيد، وقد ظن المتابعون لأمور العدالة أن تأتى تعديلات قانون الإجراءات الجنائية ــ التى تسير إجراءات تقنينها بسرعة شديدة داخل اللجنة الدستورية والتشريعية بمجلس النواب ــ بما يقلل من خطورة أمر الحبس الاحتياطى ويجعله يتوافق إلى حد ما مع قرينة البراءة، إن لم يكن يتفق أو يساير الوضع الحاصل فى البلدان الأخرى.
وللأسف، فإن عدم وجود تعريف محدد للحبس الاحتياطى فى قانون الإجراءات الجنائية المصرى ــ سوى ما جاء فى تعليمات النيابة العامة على أنه إجراء من إجراءات التحقيق ــ يتعارض مع مبدأ أن الأصل فى الإنسان البراءة، وبالتالى فلا ينبغى تطبيقه إلا فى أضيق الحدود. وقد اجتهد الفقه القانونى فى محاولات وضع أُطُر للحبس الاحتياطى كان أهمها: أن الحبس ــ بحسب الأصل ــ عقوبة لا يجوز توقيعها على الإنسان إلا بمقتضى حكم قضائى واجب النفاذ، فالهدف من الحبس هنا هو سلب حرية المتهم فى أثناء مدة التحقيق، لذلك ينبغى أن تقدر الضرورات بقدرها، ويجب أن يتدخل المشرع لوضع الضمانات والإطارات القانونية المُلزمة لحماية ذلك.
وتسير القوانين المصرية على أن مدة الحبس الاحتياطى فى أحوال الجنايات يجب ألا تزيد على سنتين، وإن كنت أرى أنها مدة طويلة جدا فى مرحلة ما قبل صدور حكم فى القضية بحبس المتهم، وذلك مقارنة باتجاه معظم التشريعات إلى الأخذ ببدائل الحبس الاحتياطى، مثل الإلزام بالبقاء فى دائرة مكانية محددة، أو الإلزام بالتوقيع لدى دفاتر قسم الشرطة الكائن فى دائرة سكنه، أو الإلزام بعدم القيام بفعل معين أو ارتياد أماكن بعينها، وما إلى ذلك من تدابير احترازية تغل يد السلطة عن تمديد أوامر الحبس الاحتياطى لمدد طويلة، وهو ما يتماشى مع الاتجاهات الحديثة فى قانون العقوبات الساعية نحو إصلاح سلوك المتهمين، والأخذ بالنظريات النفسية والاجتماعية، والتى يؤكد غالبها على أن الوجود فى السجون قد لا يشكل إصلاحا فى جميع الحالات.
وقد كان أكثر المتشائمين من العاملين فى المجال القانونى لديهم بصيص من الأمل فى أن تتناول التعديلات العديد من الإصلاحات على موضوع الحبس الاحتياطى فى مصر، ولكن جاءت مواد هذه التعديلات مخيبة لكل هذه الآمال.
***
وقد جاء النص على الحبس الاحتياطى فى مشروع القانون الجديد فى الفصل السابع منه تحت عنوان «أمر الحبس» بداية من المادة رقم 116، ولسنا فى محل عرض لتفاصيل تلك النصوص، ولكن الأهم فيها هو ما جاء فى المادة 129 من هذا المشروع والتى جعلت الحد الأقصى للحبس الاحتياطى فى مواد الجنح ستة أشهر، وفى مواد الجنايات ثمانية عشر شهرا، وسنتين فى حالة ما إذا كانت العقوبة المقررة هى السجن المؤبد أو الإعدام، ثم جاءت المادة التالية رقم 30 لتفتح الباب على مصراعيه لمد مدد الحبس الاحتياطى دونما التقيد بالحدود المرسومة بالمادة السابقة.
وهنا نستطيع أن نؤكد أن ما جاء بهذه التشريعات قد فتح الباب على مصراعيه لجعل أمر الحبس الاحتياطى وهو من المفترض أنه فى حالة حدوثه أن يكون من الأمور المؤقتة، جعله ممددا دونما التقيد بأية حدود قصوى. ومن ثم ففى حالة إقرار مثل هذه التعديلات يصير معها الحبس الاحتياطى عقوبة مسبقة قبل الحكم القضائى، توقع باسم القانون، وهذا ما يتنافى تماما مع قرينة البراءة والتى تعد من أصول المحاكمات الجنائية، والتى تستوجب أن يتمتع بها المتهم منذ لحظة القبض عليه، وحتى إسدال الستار بصدور حكم نهائى وبات فى الدعوى الجنائية، كما أن تمرير مثل هذه التعديلات يتعارض كلية مع كل التطورات التى جاءت فى مجال العقوبات المقررة، والتى أخذت فى السير نحو التخفيف إلى حد كبير من العقوبات السالبة للحرية، فى حالة المحاكمة واستحقاق المتهم للعقاب، ولكن ونحن هنا وفى مرحلة ما قبل المحاكمة نتجاوز كل الأطر ولا نضع سقفا للحبس الاحتياطى ونجعله مفتوحا على النحو السابق بيانه، وهو الأمر الذى يصيب العدالة الجنائية فى صميمها، ويأخذ من ثقة المتقاضين فى القضاء الجنائى، وثقتهم كذلك بالقانون.
***
وحتى تكتمل الصورة أمام القارئ أضع أمامه ما حدث بخصوص الإفراج عن المتهمين بكفالات مالية، حيث وافقت لجنة الشئون التشريعية والدستورية على نص المادة رقم 132 وما بعدها من مشروع التعديلات والمتعلقة بالإفراج عن المتهمين، والتى تسير نحو طريق غير مفهوم فى كيفية استرداد المتهم للكفالة، حيث تم وضع شروط لعدم استرداد الكفالة كلها أو نصفها، ومما هو جدير بالإشادة الموقف الذى أبداه نادى القضاة المصرى فى تحفظه وعدم موافقته على ما جاء بهذه التعديلات من صيرورة نصف مبلغ الكفالات لصالح صندوق القضاة فى حالات بعينها، وهو الأمر الذى تم توصيفه بحسب بيان نادى القضاة بأنه أمر تشوبه عدم الحيدة، وهو أمر لو يعلم صانعو هذه التعديلات عظيم.
وبالعودة إلى موضوعنا الرئيسى وهو أمر الحبس الاحتياطى، ومدى التجاوزات الواردة بهذه التعديلات على كل معايير ومحددات المحاكمات الجنائية وأصلها العام فى براءة الإنسان، والتى يجب أن تدور حوله كل القوانين الجزائية والإجرائية المتعلقة بالمحاكمات الجنائية، حيث إنه لا يحق ولا يجوز تحت أى مسمى من المسميات أن تتم مصادرة حرية الإنسان لمدد غير معلومة، أو قل فرضا لمدة عامين من الحبس دونما محاكمة، ثم بعدها ربما تتم تبرئة المتهم، وأعلم أن هذا المشروع قد جاء به ما يقرر المبدأ الدستورى، الذى أقره الدستور المصرى لسنة 2014 بشأن التعويض عن الحبس الاحتياطى، ودونما الدخول فى تفاصيل كيفية التعويض أو مقدارهن ولكن التساؤل الأهم هو هل تجازى أية تعويضات عن ضياع عمر الإنسان خلف القضبان وما يصاحب ذلك من ضياع لأهله وتشتت لأسرته؟ فهناك العديد من الأسر التى لا تستطيع الإنفاق على ذويها داخل السجون ممن يقضون مدد طويلة من الحبس الاحتياطى من بينهم من فاق العامين حتى قبل صدور هذه التعديلات.
أومن تماما أنه لا يوجد ما يمكن أن يعادل من حرية الفرد، والتى تساوى فقط قيمة حياته، وأنه يجب على صانعى القوانين أن يكونوا أكثر حرصا على حقوق الأفراد فى الحياة والحرية، وذلك لكونهم يمثلونه كنواب عنه فى هذا الصدد، ومن ثم وجب عليهم أن تتجه تشريعاتهم إلى ما يصون حريات الأفراد ويدعم حياتهم، وعلى السادة النواب أن يعلموا أو يتعلموا من ذوى الخبرات قيمة الحريات وقدرها حين التشريع، فإنه من المبدأ العام لا يصح التجريم إلا لضرورة مجتمعية، ولا يجب أن تكون العقبات مبالغا فيها، فلابد وأن تتناسب مع مقدار الجريمة، وهو الأمر الذى لابد وأن ينتج تماشيا مع الشرعية الإجرائية، أن يتم التعامل مع موضوع الحبس الاحتياطى بحذر شديد، ولا يتم فتح بابه على مصراعيه لمصادرة حريات المواطنين قبل المحاكمة.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني 11مارس 2018