ماذا يخبئ لنا الصندوق؟
وقفت السيدة الفرنسية الأنيقة ذات الشعر الفضي تتغنى بعربية مكسرة، بأبيات شعر أحمد شوقي، التي تغنت بها أم كلثوم "وما نيل المطالب بالتمني"، لتلهب حماس آلاف الحاضرين. تحدثت ببلاغة عن ضرورة محاربة الفساد، وضرورة الانتباه إلى النمو الاحتوائي (الذي يفيد الفقراء). وفي نهاية الخطاب، قالت بصوت مؤثر رخيم ناظرة إلى الرئيس المصري: "ما أنا إلا على بُعد مكالمة هاتفية". باختصار، لعبت على كل الأوتار التي من شأنها تغري المصريين حكومة ومستثمرين وشعبا، اللازمة لتذويب الموقف الرسمي والشعبي الرافض للاقتراض من صندوق النقد الدولي.
كان ذلك في افتتاح المؤتمر الاقتصادي الذي دعا إليه الرئيس المصري في مارس عام 2015. وكانت الخطيبة هي كريستين لاجارد، مديرة الصندوق. وأثمر خطابها بعد ذلك عن اتفاق قرض كبير إلى مصر، بعد امتناع رسمي دام أكثر من عشرين عاما. ولم نكن ندري وقتها أن الحكومة المصرية ستضطر بعد ذلك بثلاثة أعوام إلى إجراء تلك المكالمة الهاتفية.
إفقار خمسة ملايين في عامين
أخطأ الصندوق في تقدير الآثار المتوقعة على الاقتصاد نتيجة السياسات التي فرضها على الاقتصاد المصري. فجاءت الآثار السلبية أعنف مما توقع في الكثير من المناحي، على رأسها الارتفاع الكبير في التضخم، والتدهور الكبير في سعر الجنيه المصري، ليسهم معا هذان الخطآن وحدهما في تساقط الملايين تحت خط الستر.
خمسة ملايين فقير جديد في عامين. أكبر مستوى للفقر في مصر، وأسرع معدل للإفقار. يمكن القول أن تطبيق برنامج الصندوق قد ساهم في تزايد عدد الفقراء في مصر. حيث زاد من 25 مليون مصري إلى نحو 30 مليونا. هذا تقدير أولي رسمي صادر عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء. ولم يعلن بعد عن الزيادة في أعداد الجوعى (نسبة الفقر المدقع والتي كانت تقترب من أربعة ملايين مصري قبل البرنامج). نحن لا نعرف، ولكن توضع على مائدة الحكومة وصنع القرار البيانات الدقيقة لتطور أعداد الفقراء والجوعى كل ثلاثة أشهر. فهل هذه هي ما تسببت في الخلاف الأخير بين الصندوق والحكومة المصرية؟
بعد أن أشاد خبراء الصندوق ب"إنجازات" الحكومة عقب آخر زيارة لخبرائه في أكتوبر 2018، فوجئنا بأن الصندوق امتنع عن صرف الشريحة الخامسة المستحقة من القرض. خطوة كاشفة تدحض مقولة "البرنامج مصري مائة في المائة"، و"القرض بلا شروط"، وغيره من الرطان الذي ردده الطرفان حين أعلن الاتفاق على القرض.
أمسكنا الصندوق من اليد التي تؤلمنا حين هدد بسحب شهادة الثقة. وانخرطت الحكومة المصرية في تلك الأثناء في تفاوض سري شرس، بعيدا عن رقابة الشعب أو حتى البرلمان. بدأ التفاوض بتصريح من وزير المالية بأن مصر لن تلجأ لقرض جديد من الصندوق وانتهى -أو هكذا يظهر بإعلان مؤسسة الرئاسة عودة المياه إلى مجاريها. حيث أعلن بيان للرئاسة صرف المبلغ المستحق لمصر خلال شهر يناير الحالي. فعلام اختلف الطرفان؟ لا نعرف. وعلام اتفقا؟ لا نعرف.
أثناء العامين الماضيين، تغير برنامج الإجراءات التي تتعهد الحكومة والبنك المركزي -كتابة- بتنفيذها، كما يتبين من خطابات النوايا التي يوقع عليها كل من رئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزي. وخلال العامين، لم تلتزم الحكومة إلا بالقليل من التعهدات المكتوبة، ولكن الصندوق لم يعترض -على الأقل علنا. فما الذي غير الأحوال؟
يوجد نوعان من المطالبات الصندوقية: مطالبات لا يختلف عليها اقتصاديان، على رأسها الشفافية ونشر المزيد من البيانات عن الاقتصاد، ومحاربة الفساد وأصحاب النفوذ السياسي من المستثمرين وأيضا فرض الضرائب على الأثرياء. ولكن تجاهلت الحكومة تلك المطالبات ولم يمتنع الصندوق عن صرف الفلوس إلى مصر. فما هي المطالبات أو الشروط التي أثار تجاهلها الأزمة؟
أزمة الميكانيزم
تحصر معظم التقارير، الصادرة عن الصحف المصرية، الخلاف المصري- الصندوقي في تأجيل الحكومة لتحرير أسعار الوقود إلى المستهلكين. يقضي الاتفاق بين مصر والصندوق بأن تحرر مصر أسعار الكهرباء والبنزين والسولار المخصصة لاستهلاك القطاع العائلي (وهو المستهلك الأصغر للطاقة، مقارنة بالشركات والفنادق وبعض المصانع) بحلول يونيو 2019. وقبل مصر، اتفق الصندوق أيضا على نفس الشرط مع تونس ومع الأردن.
جوهر الاتفاق هو الوصول إلى نقطة لا تتدخل فيها الدولة في تسعير البنزين. بل يخضع السعر إلى معادلة تربط بشكل آلي بين السعر العالمي والسعر المحلي للبنزين. سبقت كل من تونس والأردن مصر في تطبيق تلك المعادلة، في لحظات كان البترول العالمي يشهد انخفاضا في الأسعار العالمية.
فلما بدأ البترول يرتفع سعره عالميا، وانتقل ذلك إلى المستهلكين في كل من تونس والأردن، شهدت الشوارع انتفاضات شعبية غاضبة، كان أكبرها وأهمها على الإطلاق في الأردن، خلال الصيف الماضي. حتى اضطر الملك للتدخل بوقف زيادة أسعار المحروقات، وأقيلت الحكومة. وحتى الآن لم يهدأ الشارع الأردني. ثم تراجعت فرنسا عن زيادة أسعار الوقود على إثر تظاهرات شعبية واسعة، وأخيرا، انضم الشعب السوداني إلى موجة العصيان والغضب فجرتها أيضا قرارات رفع أسعار الطاقة. إنه "الميكانيزم" مفجر الغضب.
يبدو أن تلك الاضطرابات المجاورة قد أثلجت أقدام الحكومة المصرية قلقا.
حيث كان من المفترض أن تقترح "الميكانيزم" أو معادلة تسعير الوقود وتقديمها إلى الصندوق في يونيو 2018، ثم تأجل ذلك إلى أكتوبر، ثم لم تقدمها الحكومة. والآن، وفقا لما نشر في الصحافة، فإن الحكومة كي تحصل على الرضا الصندوقي وعلى شريحة القرض، قد تعهدت بتطبيق المعادلة في مارس 2019، بادئة بالأسهل، بنزين 95، الأقل استخداما والأقل دعما.
نشرت الصحافة أيضا عن مصادر غير معلنة عن أن الحكومة المصرية قد أقنعت مديرة الصندوق بتأجيل تحرير أسعار البنزين والسولار ثلاثة أشهر إلى سبتمبر 2019. وأشارت مصادر أخرى إلى استثناء الوقود الذي تشتريه شركات الكهرباء اللازم لإنتاج الكهرباء من خطة التحرير تلك.
وهكذا نستطيع استنتاج التالي: سوف تزيد أسعار الوقود في محطات البنزين مرة أو مرتين في العام كلما زادت أسعار البترول في العالم. فهل آلية تسعير الوقود للمستهلكين قدر محتوم أم يمكن إيجاد بديل لها؟ يبدو أن الحكومة قد نسيت مقترحا سابقا أكثر عدالة، وهو تفعيل كروت البنزين، والتي كانت تستهدف سعرا محررا يتحمله فقط أصحاب الاستهلاك العالي من الوقود.
قامت الحكومة برفع أسعار الوقود خمس مرات منذ عام 2014، كان آخرها بنسبة %44 في المتوسط، في يونيو 2018، ما رفع نسبة تغطية السعر لتكلفة الإنتاج إلى %73 للبنزين، والسولار والكيروسين، والمازوت، وذلك بحسب تقرير الصندوق الصادر في يوليو 2018. ومع ذلك، ارتفعت فاتورة دعم الطاقة إلى 120 مليار جنيه في العام المالي 2018، بدلًا من 108 مليارات المخططة.
المعروف أن دعم الطاقة الموجه إلى القطاع العائلي يشكل %20 فقط من إجمالي دعم الطاقة. ومن ثم، فإن تحرير أسعار الطاقة لهذا القطاع لن يؤثر على فاتورة دعم الطاقة إلا قليلا، في مقابل أثرها السلبي الكبير على الدخل الحقيقي وعلى رفاهية المواطنين.
من ناحية أخرى، لا يعترف الصندوق بأن الغاز الطبيعي مدعوم من الحكومة. وهو أمر منافٍ للدقة، وللعدالة الاجتماعية. حيث يستخدم أكثر من %90 من الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء (وفي تشغيل المصانع كثيفة الطاقة. كما يستهلك إنتاج الكهرباء أيضا معظم السولار المدعوم. ومن ثم، على الرغم من ست زيادات متتالية في أسعار الكهرباء، ما زالت تلك مدعومة لأن جزءا كبيرا منها يوجه إلى قطاعات بعينها، غير معلنة على وجه الدقة، ما يؤدي إلى تشوه تخصيص الطاقة والاستثمارات.
ولذلك تطالب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في تقرير عين على الدين 3 بتطبيق معادلة تحرير أسعار الطاقة الموجهة إلى الشركات.
بديل نظيف ورشيد
كانت حكومة أحمد نظيف في بداية الألفية الثالثة قد حاولت التفاوض مع القطاع الخاص والحكومي على رفع دعم الطاقة تدريجيّا عن الصناعات مع التفرقة بين الصناعات الكثيفة وغير كثيفة استهلاك الطاقة. ولكن لم يتم تطبيق هذه المعادلة أبدًا.
ففي عام 2006، أعلن وزير الصناعة وقتها رشيد محمد رشيد، عن خطة لبدء تحرير أسعار الطاقة المباعة إلى المصانع، بعد أن سبقتها خطة تحرير أسعار الطاقة إلى المستهلكين في القطاع العائلي. وكانت تلك أول مرة يثار فيها أمر الدعم الموجه إلى "الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة": 20٪ من المصانع تستهلك 80٪ من الطاقة المدعمة الموجهة إلى المصانع.
بدأت الخطة بمضاعفة أسعار الطاقة إلى تلك المصانع. وكانت تعتزم زيادة الأسعار تدريجيا عبر معادلة – آلية تربط بين أسعار الطاقة العالمية وبين سعر بيعها إلى تلك المصانع. وقامت الدنيا داخل أروقة لجنة سياسات الحزب الحاكم وقتها، الحزب الوطني. وشهد الحزب تلاسن قياداته من الملاك الجدد للمصانع التي اشتروها عبر برنامج الخصخصة. فقد ورث أولئك وضعا يحصلون فيه على الغاز الطبيعي والكهرباء والسولار بأثمان تقل عن المملكة العربية السعودية، أكبر مصدر للبترول في العالم. وجاء عام 2007.
في ذلك العام، تأثرت مصر بالارتفاع العالمي في أسعار المواد الغذائية والبترول، وشهدت مصر لأول مرة ضحايا فقدوا حيواتهم في طوابير الخبز وأنابيب البوتاجاز. قبل رجال أعمال الحزب الوطني زيادة جديدة في أسعار الطاقة إلى بعض مصانعهم وشركاتهم تحت وطأة الأزمة. ولكن لم تر المعادلة النور أبدا.
بعد الثورة، تجدد الحديث عن أهمية وجود تلك المعادلة، وعن دعم الطاقة العملاق الذي يذهب إلى تلك الأقلية من المصانع والشركات. وربط البنك الدولي في دراسة هامة بين حجم الدعم الذي توجهه الدولة إلى بعض الشركات وبين النفوذ السياسي لرجال الأعمال من أصحاب تلك الشركات. ولكن لم تر المعادلة النور.
مع أن تحمل عدد قليل من الشركات عالية الربحية عبء تحرير أسعار الوقود أو على الأقل مشاركتها في تحمل هذا العبء هو بديل أكثر عدالة. وسوف يؤدي إلى نفس الهدف: تقليص دعم الطاقة، وبالتالي إرضاء الصندوق. ولكن فيما يبدو لن ترى تلك المعادلة النور.
نشر هذا المقال في موقع الشروق بتاريخ السبت ٥ يناير ٢٠١٩