مبادرات صحية رأسية فى مسار من الإصلاح الصحى الأفقى
فى الآونة الأخيرة تصاعدت اتجاهات وسياسات صحية تتبنى حزمة من البرامج والمبادرات الصحية الرأسية مثل البرنامج القومى لمكافحة الفيروسات الكبدية بالمسح واﻻكتشاف المبكر والعلاج والذى استهدف نطاقا واسعا من السكان فى سابقة لم تحدث من قبل إقليميا ودوليا وأكدت القراءات الأولية لهذه المبادرة نجاح مؤشرات الاستهداف وإقبال المواطنين عليها.
ثم بدأ الآن مسح للأطفال فى المدارس فى مراحله الأولى فى تسع محافظات لاكتشاف نسب حالات الإصابة بين الأطفال بالنحول وقصر القامة والأنيميا والسمنة فى أهم مرحلة عمرية يمر بها الإنسان.
وكانت المسوح الصحية السابقة والتى كانت تجرى بشكل دورى وحسب توفر الإرادة والموارد المالية لها قد أشارت سابقا ومنذ عام 2008 وإلى عام 2014 (DHS) على بروفايل مخرجات الحالة الصحية للسكان كمرآة عاكسة لمؤشرات التنمية البشرية وللوضع الوبائى المرضى اﻻنتقالى الذى نمر به والذى يتبدى فى تراجع عبء الأمراض السارية وزيادة نسبية فى عبء الأمراض غير السارية برغم ذلك فإن مصر كانت فى معدل انتشار الالتهاب الكبدى سى وما زالت هى الأعلى عالميا فى شريحة السكان (15 ــ 59 عاما).
أما ما يخص معدل اﻻنتشار للأمراض غير السارية (NCDs) فهو كان وما يزال يعتبر مرتفعا وفى زيادة مستمرة سواء ما يتعلق بأمراض ضغط الدم ومضاعفاته أو السكر ومضاعفاته أو معدلات انتشار الإصابة بالسرطان بأنواعه. ومثل كثير من البلدان فإن متوسط مخرجات الحالة الصحية فى مصر كان ومازال يخفى فروقا نوعية داخل الشرائح السكانية (الأفقر والأغنى) مما يعكس عدم المساواة اﻻقتصادية واﻻجتماعية بين مجموعات السكان الأفقر.
حيث أشارت بيانات المسح الصحى السكانى ــ منذ عام 2008 إلى عام 2014 ــ إلى أن خطر الوفيات بين الأطفال فى الشريحة الأفقر من السكان أكبر بنسبة 2.5% من الأطفال فى الشريحة الأغنى (بافتراض تقسيم المجتمع إلى خمس شرائح اقتصاديا). كما صنفت مصر من بين أكبر عشر دول فى العالم ﻻنتشار التدخين والتبغ والذى يعد أكبر سبب للوفاة والإعاقة ومن المنظور العالمى تعتبر مصر أيضا واحدة من البلدان التى تواجه تحديات كبرى من زاوية المخاطر الصحية الأساسية.
فالسمنة وزيادة الوزن على سبيل المثال ارتفعتا بشدة بمعدلات ملحوظة فوق المتوسط الإقليمى والعالمى، ومعدلات الزيادة فى النساء أكبر من الرجال وبالنسبة للسمنة فى الشريحة العمرية من 15 ــ 59 عاما نجد أنها فى النساء ضعف الرجال.
والمشكلات الصحية بوجه عام المصاحبة للسمنة وزيادة الوزن تتصاعد فى مصر بمعدلات تدعو للقلق ورغم ذلك فمن المهم ملاحظة أن السمنة فى مصر مصاحبة مع مشاكل متصاعدة ودائمة لسوء التغذية خاصة بين الأطفال.
وسوء تغذية الطفل يعد سببا كامنا مهما لمرض الأطفال ووفياتهم وتحليل البيانات بين آخر مسحيين صحيين DHS منذ عام 2008 إلى عام 2014 تظهر أن قصر القامة (الطول قياسا للعمر) stunting وﻻ أفضل استخدام كلمة تقزم فى زيادة بين عامى 2005 إلى 2008 والهزال wasting (نقص الوزن قياسا بالطول) فى زيادة أيضا بين الأطفال فى نفس الفترة. ومعدلات انتشار نقص الوزن (الوزن قياسا بالعمل) ارتفع أيضا فى ذات الفترة underweight، وقد قدرت المسوح وقتها أن 11% من أسباب وفيات الأطفال فى مصر مصاحبة بسوء التغذية والتى تحولت إلى حالات باثولوجية مضت دون علاج.
هذا ما أكدت عليه المسوح السابقة وحتى عام 2014 وذلك ما يعظم من أهمية المسح الأشمل والأوسع الجديد الذى ستبدأه الدولة فى مدارسها فى الشهور الثلاثة المقبلة تمهيدا لتحديد حجم المشكلة الصحية بين الأطفال باعتبارها واحدة من أهم مؤشرات التنمية البشرية لدينا.
ورغم حجم التحديات الكبرى فى تنفيذ وتمويل مثل هذه البرامج والمبادرات المهمة وفى استعداد الفرق الصحية التى سوف تذهب إلى الأطفال فى مدارسهم فإن تلك المبادرات يجب أن تكون من صميم مسئوليات وزارة الصحة المستمرة وأن تتم بشكل دورى ومستمر على الأقل كل عامين أو أربعة أعوام لضمان إمكانية رصد مدى التقدم الذى سوف نحرزه من وراء هذه المسوح لأنها ﻻ تستهدف فقط تحديد حجم المشكلة الصحية وإنما علاجها أيضا لسد فجوة العدالة اﻻجتماعية فى الصحة فهى مرآة عاكسة لحجم هذه الفجوة بالفعل خاصة بين الفئات الأفقر فى المجتمع.
ومن ثم ستبرز أهمية وقضية دمج مثل هذه البرامج الرأسية فى البرنامج الأفقى الأساسى لإصلاح النظام الصحى دمجها على مستوى الخدمات التى سوف تقدم يوميا فى وحدات ومراكز الرعاية الصحية الأساسية ونموذج طب الأسرة الجديد والذى سوف يضمن تمويله من خلال التأمين الصحى الشامل الجديد، إضافة إلى موارد وزارة الصحة المحدودة لطبيعتها فى الموازنة العامة والمعتمدة فى جانب منها على بعض المنح والقروض الخارجية.
كما أن دمج جميع المبادرات الرأسية الأخرى التى ستبرز فى سياق سياسات الوزارة والتى تحظى بدعم إعلامى واسع ودعائى فى إطار الإصلاح الصحى التأمينى الشامل أصبح من الضرورة بمكان مثل تشجيع الرضاعة الطبيعية ومقاومة الديدان المعوية عند الأطفال ورعاية الأم الحامل ومكافحة ختان الإناث ومواجهة المشكلة السكانية وغيرها من البرامج المهمة والأساسية فلا ضمان لاستمرارها إﻻ عبر نظام طب الأسرة والرعاية الأساسية ومن خلال شبكة واسعة من وحدات ومراكز طب الأسرة الممولة تأمينيا.
ولذا يستمر ما هو رأسى فى إطار أفقى أشمل يتسم باﻻستدامة واﻻستمرارية وإمكانية قياس أثره فى الحاضر والمستقبل القريب والبعيد.
وهذه الرؤية قديمة فلا ندعى اختراع العجلة عندما نؤكد عليها ولكن فقط نذكر صانعى القرار الصحى والمسئولين عن تنفيذه بها لعلهم يتنبهون لما يسمى فى اقتصاديات الصحة بالأولويات وبالفرص المتاحة البديلة وباﻻستخدام الأمثل للموارد المتاحة الآن لضمان استدامتها فى نظام متكامل محكم مدخله الرئيسى هو الرعاية الصحية الأساسية وجنوده الأساسيون هم الفرق الصحية وأطباء الأسرة العاملون فى هذه الوحدات المنتشرة بطول وعرض البلاد.
نشر هذا المقال في موقع الشروق بتاريخ 25 فبراير 2019