أغنى الأغنياء
عند إحدى البوابات المنتشرة حول السور العالي، تقف السيارة ويبرز صاحبها هاتفه المحمول لأحد أفراد طاقم الأمن المبتسمين. تبرز علامة مشفرة على شاشة الهاتف، يضعها الأمن على الجهاز، لتظهر على شاشة كبيرة بيانات صاحب المحمول وصورته. يبتسم الجميع، وتفتح البوابة، مرحبا بك في عالم أغنى الأغنياء.. إنه عالم الواحد في المائة.
انتشر هذا التعبير خلال العقد الماضي، تعبيرا عن تلك الطبقة الضيقة من علية القوم الذين زاد نصيبهم من الدخول والثروات حول العالم، بفضل عدد من السياسات الاقتصادية. فمن هم أولئك في مصر؟
لا إجابة علمية دقيقة، حيث توصف مصر بأن بياناتها حول الثروة ضعيفة، بحسب أكثر من جهة دارسة للثروات حول العالم. ومع ذلك، تقع مصر في مصاف الدول ذات مستوى مرتفع من اللامساواة، حيث تحوز شريحة ال10٪ الأغنى على 91٪ من إجمالي الثروات في المجتمع. ويحوز ال 1٪ الأعلى دخلا على 19% من إجمالي الدخول.
لكن يمكن لعالم الاقتصاد أو الاجتماع أن يتوقع أن أصحاب الدخول العليا يأتون من وظائف معينة. توضح بعض مواقع التوظيف أن الأعلى أجرا هم كبار المهنيين عموما وعلى رأسهم كبار الأطباء، كبار العاملين ببنوك الاستثمار والتجارية، وموظفو الشركات الدولية التي تعمل في مصر. ويمكن إضافة كبار موظفي الدولة، وأقلية من العاملين بالخارج الذين صاروا يأتون كل عام للقاء الأهل دون تجشم عناء النزول إلى القاهرة. وأولا وأخيرا، أصحاب المئات من الشركات العائلية الكبرى.
ديستوبيا الحضارات البائدة
قد تعتقد أن الأسوار صعبة الولوج هي التماس للخصوصية والهدوء. ولكنك ما إن تدخل حتى تفاجأ بالصخب والزحام. الشاطئ مكدس، والشوارع مليئة بالسيارات. كأن السور مصمم فقط لاستبعاد من يختلف شكلا. هو حاجز ثقافي في المقام الأول، لا أمني. يريد هؤلاء أن يتجولوا كما يتجولون بحرية على الشواطئ -العامة- في أوروبا، بدون نظرات المصريين "العاديين" الذين لا يشاركونهم نفس الملابس أو نفس المأكل، أو اللغة.
هناك إحساس ما بالجمال في التصميم، ولكن فقط بما يسمح لجذب ملايين الجنيهات لكل وحدة. ولكن لاعتبارات الربح، تجد البيوت - فيما عدا بضع عشرات منها، مكدسة في صفوف متراصة، تطل على بعضها البعض، ولا تطل على البحر. ويبقى الزحام هو الغالب. حتى لتظن أن البلد كلها محشورة هناك. في مصر، حين نتحدث عن الواحد في المائة، فإننا نتكلم عن مليون نسمة. محشورون في عدد "محدود"، محكوم بالموضة، من الشواطئ.
على الشاطئ المزدحم، الإنجليزية هي اللغة الأم. لغة الموسيقى ولغة الحب ولغة التعارف ولغة العراكات الصغيرة. تسمعها بين الأطفال وبين الشباب بعضهم البعض أو بين الأهل والأبناء، قد تتخللها بعض الكلمات العربية العامية بلكنة معينة. فإذا علمنا أن أقل من 10٪ من الأسر المصرية ترسل أبناءها إلى مدارس خاصة، ومن 1 إلى 3٪ من الأسر ترسل أبناءها إلى مدارس دولية.. فكن على يقين أن من يدخل من البوابة من جيل الأبناء هم بالضرورة من ضمن هؤلاء.
على عكس أغنياء أوروبا الذين يفتخرون جيلا بعد جيل بمهاراتهم اللغوية والخطابية بلغتهم الأم، تجد السواد الأعظم من أبناء الأغنياء في مصر، لا يمتلكون ناصية اللغة العربية. كما أن العالم مفتوح أمام جوازات سفرهم، الأجنبية وحتى المصري منها، بفضل أرصدة آبائهم في البنوك. لذا فقليل منهم من يكمل دراسته في مصر. وتزيد نسبة من يهاجرون إلى دول أخرى أكثر تقدما من بين أبناء ال1٪، لتشهد مصر ظاهرة هجرة العقول كما لم تشهد من قبل. خاصة وأن عددا من الدول الأوروبية تفتح أبوابها للمتميزين من هؤلاء في ظل تناقص عدد السكان هناك ونقص أعداد الشباب نسبة إلى كبار السن.
كل ما قبل العلمين صار باليا، قليل مما بعدها حسن.
حفنة صغيرة من القرى الجديدة حصلت على علامات الجودة الخاصة بال1٪. هي علامة خافية، لا يلحظها المرء بسهولة. لا تتحدد بسعر الوحدة فقط، ولا تحتاج إلى دعاية كبيرة كي تحظى بالشارين. بل الزبائن يختارهم أصحاب المشروع، وتنتقل الكلمة من فم موثوق لآخر.
ولأن الربح الأقصى هو دائما الدافع، فلن تجد في تلك القرى الجديدة أي محال لبيع الكتب أو المجلات والجرائد، على عكس قرى الأغنياء الساحلية التي بنتها الدولة في التسعينات من القرن الماضي. لن تجد قراءاً على الشاطئ، لا كتب إلكترونية ولا ورقية.
ولن تجد بطول الساحل فعاليات ثقافية أو فنية راقية. لا تعلم في أمر الثقافة والفن أهي اقتصاديات العرض أم اقتصاديات الطلب التي تسود. بمعنى هل الطلب ضعيف على الثقافة، فلا تجد من يرغب في الاستثمار في تلك "السلعة" لأن الإقبال عليها محدود، ومن ثم الربح؟ أم هو اقتصاد العرض المتعطل، أي أن الطلب موجود، والناس راغبون في المنتجات الثقافية، ولكنهم لا يجدون من يلبيه، لأن المستثمر لا يضخ قدرا كافيا من السلعة - سهوا أو سعيا وراء الربح الأسرع الآتي من الطعام.
كمثل أثرياء الرومان في زمن المدينة البائدة پومپيي، ينكب أبناء ال1٪ على صنوف الطعام، النشاط الأكبر والأوسع حولهم. وتجد طوابير المنتظرين أمام محال الطعام غير مبالية بفروق الجودة الرفيعة.
هناك أيضا جهل– أو تجاهل للبيئة، حتى فاضت مياه البحر الزرقاء بمخلفات الپلاستيك. وتجد نظام جمع القمامة الصارم داخل القرية ينتهي بإلقائها خارج حدود نظر الداخلين والخارجين. ولا يحسب أولئك حساب صحتهم التي تتعرض يوميا للمبيدات الحشرية الضارة صباح مساء للتغلب على البعوض والذباب المترعرع على أكوام قماماتهم. كما لا يعبئون بنقاء الهواء الذي يغمرونه بعوادم سياراتهم، ولا بندرة المياه التي يبددونها في ملاعب جولف نادرا ما يلعب عليها أحد، على حساب جيرانهم في القرى الساحلية المجاورة الأقل حظوة الواقعة قبل العلمين، ولا نقول على حساب زراعة الأرز.
أين مصر من عالم اللامساواة؟
يشترك أثرياء مصر في عدد من الصفات مع نظرائهم حول العالم، مثل الحرص على استمرار النموذج المولد للثروات والتمايز القائم عليها، ولو على حساب الأغلبية حول الكرة الأرضية، وهو ما أدى إلى تفاقم ظاهرة اللامساواة، لدرجة بات فيها أقل من ثلاثين شخصا يمتلك ثروة تعادل ثروات نصف البشرية، بحسب أحدث تقرير لمنظمة أوكسفام عن اللامساواة.
ليس هذا وضعا عفويا ولا مؤقتا، بل جاء عبر الاستيلاء على العملية الديمقراطية من قبل تلك النخبة. وهكذا، ساهمت الحكومات "المنتخبة" في تفشي اللامساواة في العالم. فهي لا تفرض قدرا ملائما من الضرائب على الشركات ولا الأفراد من الأغنياء، ومن ثم لم تعد تملك القدر الكافي من الأموال اللازمة للإنفاق على الخدمات الحيوية مثل الصحة والتعليم والابتكار والحفاظ على سلامة الكوكب البيئية. ونجد التكلفة باهظة جدا على تقدم البشرية.
وفي عالم الأزمة الاقتصادية الممتدة والنمو العالمي البطيء، يصبح مع الوقت بقاء وازدهار أغنى الأغنياء مرتبط باستبعاد أفقر الفقراء من ثمار النمو القليلة.
العدو الأكبر لأغنى الأغنياء
لعل من الإنصاف القول بأن الضرائب بصنوفها هي العدو الأكبر لهم. والملاحظ أنه خلال العقود الأربعة الأخيرة، تم إلغاء العديد من الضرائب على الأثرياء حول العالم. أهمها تخفيض الحد الأقصى للضرائب على الدخول العليا من 70-90٪ إلى 40٪ (وفي مصر 25٪). أيضا تخفيض الضرائب على المواريث والهبات (وفي مصر تم إلغاؤها من الأساس). كما لم يتم استحداث أنواع جديدة من الضرائب لتتواكب مع أنواع الأنشطة المالية والأرباح الناجمة عنها. "حين يتعلق الأمر بدفع الأثرياء للضرائب، أصبح الأمر وكأنه اختياريا"، كما تلاحظ إحدى أعضاء الكونجرس الأمريكي. وبالطبع لا أحد يختار أن يدفع. وهكذا، في الولايات المتحدة، واحدة من أكثر الدول لامساواة، يأتي 4 سنت فقط من كل دولار ضرائب من الثروة.
ثروة الوالد
ولعل الثروة الموروثة هي السمة الغالبة لأغنياء اليوم حول العالم كما في مصر. البيزنس العائلي يشكل جزءا رئيسيا من الشركات الكبرى في مصر. كثير من القرى الساحلية - موئل ال1٪ الأغنى من المصريين خلال شهري الصيف- بنتها شركات عائلية.
عالميا، بسبب تحسن الأعمار، وقلة الإنجاب، صار الأب الغني يهب أبناءه جزءا كبيرا من ثروته أثناء حياته، كما تحرص العائلات الغنية أن يدير الأبناء الإمبراطورية التي أقامها الأب أو الجد. فلا تخرج المليارات خارج العائلة. "المحسوبية -الكوسة- هي أمر جيد طالما بقيت حكرا على أفراد العائلة"، كما يقول أحد أبناء عائلة فوربس، إحدى أغنى العائلات الأمريكية. وتخلق هذه الظاهرة العالمية جيلا مختلفا من الأثرياء، غير معتمدين على إبداعهم، وغير معتمدين على سواعدهم. فهم أثرياء بالميراث لا بالضرورة عن جدارة.
وفي مصر، خاصية لا أعرف مدى انتشارها عالميا. فقد تراكمت وتضاعفت ثروات عائلية بفضل الاستحواذ (عملية شراء) على شركة العائلة أو نصيب منها من قبل الشركات العالمية أو الخليجية. الاستحواذ هو أحد أهم وسائل التراكم السريع والتركز للثروة. وهو في مصر معفى من الضرائب.
تخيل شركة دواء أسسها رب العائلة، وكبر الأبناء ودخلوا في إدارة الشركة التي زاد حجم رأسمالها من مليون إلى 10 ملايين بفضل جهد الأب. ثم تقاعد الأب الشغوف بشركته التي خلقها من العدم، وباعها الأبناء -أو باعوا حصة منها- إلى شركة عالمية مقابل 500 مليون جنيه مثلا. هكذا تضاعفت ثروة العائلة - من شارك منها في الإدارة ومن لم يشارك- خمسين ضعفا بين يوم وآخر لمجرد أن شار اشتراها. ولم تدفع الأسرة عن ذلك أي ضريبة.
سمة أخرى مشتركة بين أثرياء مصر والعالم، هي الاحتفاظ بثرواتهم السائلة خارج البلاد، بعيدا عن يد جامعي الضرائب المحليين. في مصر كشفت مها أبو ودن في تحقيق استقصائي حديث أن ما يقترب من نصف الشركات لديها فروع في ملاذات ضريبية. وتقدر قيمة خسائر الخزانة العامة سنويا ب10 مليارات جنيه.
في فيلم أخرجه أحد أبناء أغنى الأغنياء في الولايات المتحدة بعنوان "الواحد في المائة"، استغل الفتى اسم عائلته كي يدخل مؤتمرا يشرح فيه كبار المستشارين الماليين لعائلات ال1٪ حصريا أفضل وسائل تنمية الثروة. يقول أحد المنظمين في الفيلم ضاحكا: "أفضل أن يستمر الأغنياء في توليد الثروة والاحتفاظ بها من أجل المزيد من توليد الثروة ومن ثم إفادة المجتمع بدلا من أن تذهب الثروات عبر الضرائب والدولة إلى سياسات اجتماعية ودعم للأفقر. لا أريد أن أبدو وغدا، ولكن لا تأخذ مني النقود".
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ٢ اغسطس ٢٠١٩