نحتاج إلى المرونامان
يقف الرجل مغبرا محنيا على ارتفاع عشرات الأمتار عن الأرض، فوق سطح فرن عملاق لتصنيع الطوب. السطح مشقق، والارتفاع شاهق، ولا حاجز أو حبال تحمى الرجل من السقوط. يحكى زائغ العينين عن زميله الذى سقط أخيرا ومات، بعد يوم العمل الذى يطول 24 ساعة. «إنه عمره»، يقول بصوت مختنق.
فى حلقة من برنامج باب الخلق، ذهب الإعلامى محمود سعد إلى مصانع الطوب فى مدينة الصف، فى قلب الصحراء. تتراوح أجور العمال (كلهم باليومية) بين 40 إلى 100 جنيه يوميا بحسب الخبرة (أقل من الحد الأدنى للأجر).. يحمل العامل على كتفه «يوميا 30 ألف طوبة، كافية لبناء بيت على مساحة نصف قيراط». لا عقود، لا تأمينات، لا ساعات عمل محددة، ولا أدوات حماية من مخاطر المهنة، ولا حق فى عطلات. «تذهب الماهية كلها إذا ما مرض أحد الأبناء». ويعمل الأطفال دون الخامسة عشرة بالمخالفة للقانون فى تلك المصانع الملوثة عالية الخطورة، بأقل من 150 جنيها فى الأسبوع. «لا أحد يطيق هذه المهنة. لكن ما لنا عمل غيرها».
مرونامان ليس رجلا.. إنه فكرة. فكرة نشأت فى بلاد سعيدة.
تساءلت صاحبتى منذ عامين على فيسبوك، معاتبة المطالبين بالعدالة الاجتماعية: «ألا يوجد لديكم ما تنادون به عدا التعليم والصحة؟». استفزنى التساؤل.. فماذا من شأنه أن يكون أكثر أهمية من شعب متعلم ومتمتع بالصحة؟ التعليم والعلاج المجانيان هما حق للجميع وهما مفتاح تقدم الأمم. وهما أكبر علامة على وجود دولة رفاه، قائمة على ضرائب عادلة تنفقها الحكومة لخلق فرص متكافئة للترقى الاجتماعى. هكذا طمأنت نفسى فى صمت.
لم أنس سؤال صاحبتى طيلة عامين، حتى قفزت إلى ذهنى أخيرا ما أظنها إجابة.. إنها عدالة الأجور وسياسات العمل بشكل عام. ما أصعب أن نتذكر البديهيات.
الأصل أن الإنسان يعمل ليفى باحتياجاته. ومع التطور، صار يعمل لدى الغير أجيرا، أى مقابل أجر. وقامت الثورات حول العالم ضد استغلال أصحاب الورش والمصانع والشركات الذين يراكمون أرباحهم، ضد من يرفلون وحدهم فى الترف والنعيم، تاركين الغالبية من السكان، العاملين بأجر، فقراء معوزين. عبر القرون، ظلت المطالبة بأجور عادلة هى جوهر العدالة الاجتماعية.
لم يتعلم العالم المتقدم ــ كما نعرفه اليوم ــ العدالة الاجتماعية بالتجربة والخطأ، ولا بالديموقراطية النيابية ــ على أهميتهما ــ فحسب. بل تعلم أيضا بالضغط الشعبى، وعبر الثورات وعبر حروب عالمية أبادت الملايين وأفلست خزائن دول.
ومن خلال قرون من النضالات، انتزعت شعوب الدول المتقدمة التى نعرفها اليوم تطوير آليات الديموقراطية وخاصة الحق فى التنظيم وإنشاء النقابات من أجل التفاوض حول أجورها، وحول حقوقها، مثل إجازات سنوية ومرضية مدفوعة الأجر، ونصيب من الأرباح المحققة، وسقف لساعات العمل وحد أدنى للأجور وللمعاشات. كما نالت الحق فى وظائف مضمونة (مثل الوظائف الحكومية لدينا، عقود دائمة ثابتة).
وكفلت الضرائب التصاعدية القدرة على تمويل تعويضات بطالة سخية لمن اضطر لترك عمله. ذلك كان عصر «الأمان» الوظيفى الكامل.
وكانت تلك حقبة ذهبية، حقبة ما بعد الحربين العالميتين. عرفتها بالأخص القارتان الأوروبية والأمريكية الرأسماليتان (وقد يقول قائل إن تلك المكاسب كانت تخوفا من تهديد انتشار الفكر الاشتراكى آنذاك). شهدت تلك الفترة مع ارتفاع معدلات النمو، تنامى وازدهار الطبقة الوسطى، وتراجع نصيب الأغنياء من الثروات والدخول. صار النمو أكثر عدالة. حتى تبدلت الرياح..
عرف العالم الأول فترة من الكساد وتراجع الأرباح (نتيجة حرب أكتوبر 1973، حين تضامنت السعودية مع مصر، وهددت بقطع إمداداتها النفطية إلى العالم الصناعى، فتضاعفت أسعار البترول). ما مكن السياسيين المحافظين والفكر الاقتصادى التقليدى من تطبيق أفكارهم النقيضة، التى تحث على خفض الأجور وامتيازات العاملين. وذلك عبر تقويض وتلجيم العمل النقابى، وتسهيل تسريح العمال، واختراع عقود العمل المؤقتة. واكتسبت تلك الإجراءات مسمى «المرونة» فى سوق العمل.
ومن ناحية أخرى، تم منح إعفاءات ضريبية سخية، وخفض الضرائب على الدخول العليا من 90٪ إلى نحو النصف. ارتفع النمو مجددا، ولكنه نمو ظالم، ارتفعت معه اللامساواة.
وفى ذروة تلك الموجة، فى نهاية التسعينيات، ظهر مفهوم «المرونامان».
التجربة الدانماركية
تفردت بضع دول فى شمال أوروبا، على رأسها الدنمارك وهولندا، بمنهج وسطى، بسياسة هى مزيج من مرونة سوق العمل والأمان الوظيفى، أسموه «المرونامان» Flexicurity. حيث أدخلت تلك الدول مرونة تسريح العاملين، استجابة لأصحاب الشركات الذين يشكون من أن بضاعتهم تواجه منافسة عالمية شرسة مع تنامى العولمة. ولكنها احتفظت بدور فعال ونشط فى صرف تعويضات بطالة سخية، وتقديم الدعم للأجور التى تدفعها الشركات، وبرامج تدريب مجانية وإعادة تأهيل، بل والبحث عن وظائف لكل من يرغب فى العمل، حتى يتمكن المفصولون من إيجاد وظائف جديدة لائقة فى أسرع وقت.
ومع نجاح التجربة فى الحفاظ على النمو ومعدلات تشغيل مرتفعة، تبنى الاتحاد الأوروبى تلك السياسة فى صلب سياسته الإقليمية المشتركة فى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. الهدف ليس هو التشغيل الكامل فحسب بل مواطن آمن سعيد. فماذا حدث؟
للأسف، انتبه العالم لفكرة المرونامان فى لحظة ركود طويل عنيف، فرغت فيه خزائن الدول مرة أخرى، لا بسبب الحروب هذه المرة، ولكن، حين اختارت الحكومات أن تنقذ البنوك الكبرى على حساب غالبية المواطنين. ومن أجل تخفيض عجز الموازنات العامة، سرعان ما تقلصت المخصصات اللازمة للأمان. بينما لجأ أصحاب الشركات والحكومات إلى تسريح العمالة بالملايين حول العالم، وانتشر العمل غير المنتظم وغير المؤمن عليه، الأقل أجرا، وهو ما صار يعرف بالبريكاريات، أى طبقة العمل الهش.
فشلت الدول المتقدمة فى تبنى مفهوم موحد ملزم لـ«المرونامان». ومن ثم، غلبت المرونة على الأمان، حتى فى الدول الإسكندنافية. وهكذا، تفاقمت الأمراض النفسية والبدنية والمجتمعية مع تفاقم الفقر والجوع ومن ناحية أخرى تفاقمت الثروات فى يد أقلية من الأغنياء. هل ترانا نتحدث عن إنجلترا أم عن مصر؟
لعنة استمارة 6
فى مصر، يحمى القانون العاملين من التسريح. نظريا فقط. إذ تكفل المحامون الجهابذة بالتحايل على تلك الحماية عن طريق اختراع مصرى. فصار من مسوغات التعيين، أن يوقع كل عامل أو موظف فى القطاع الخاص على استمارة 6، وهى صيغة قانونية تفيد بتخليه عن وظيفته مسبقا، لاستخدامها لاحقا إما لتهديده، أو لتسريحه بدون حقوق، إذا لزم الأمر. كما انخفض عدد العاملين بعقود ثابتة سواء فى الحكومة أو القطاع الخاص، ناهيك عن القطاع غير الرسمى. وهكذا غاب أهم ملمح من ملامح الأمان.
ثم تكفلت أربعة عقود من خصخصة الاقتصاد ــ أى توسيع دور القطاع الخاص ــ مع استمرار التخوف السياسى / الأمنى من التنظيم الجماعى الحر، بتقليص دور النقابات والتفاوض الجماعى بين أصحاب المصلحة المختلفين. باختصار، احترق أصحاب الأجور فى جحيم «المرونة».
وهكذا انتشر العمل غير الرسمى، وتراجعت نسبة الأجور من الدخل القومى، لحساب نسبة الأرباح كما يلاحظ تقرير عن مصر أصدره البنك الدولى، الذى يرصد أن متوسط الربحية فى مصر بلغ 40٪ على رأس المال، فى حين تقلصت حصة الأجور إلى 25٪ من الدخل القومى (كانت تلك النسبة تبلغ أكثر من 35٪ فى التسعينيات، وهى تبلغ نحو 60٪ فى الدول المتقدمة). ولم يتم فرض حد أدنى للأجر فى القطاع الخاص (رسمى أو غير رسمى) منذ عام 1982. كما فشلت كل محاولات صرف تعويضات للبطالة أو وضع حد أدنى للمعاشات. ولا نتحدث عن غياب دور الدولة (مكاتب العمل والصندوق الاجتماعى للتنمية) فى توفير فرص التدريب والبحث عن فرص العمل ودعم الأجور، أو ما يسميه الاقتصاديون بسياسات العمل الإيجابية.
لذلك كله، كان من المنطقى أن يسارع الأحزاب والنشطاء العماليون عقب ثورة 2011 بالسعى إلى تطوير سبل التفاوض الجماعى عبر إنشاء نقابات مستقلة بعيدة عن النقابات الرسمية التى عابها الابتعاد عن دورها وفقدت مصداقيتها. فالتفاوض الجماعى مع أصحاب الأعمال ــ حكومة وقطاع خاص ــ أمر لا غنى عنه لتعديل المايلة، أى لتخفيض الاستغلال الذى يقع على أصحاب الأجور.
شابت تلك التجربة المبتسرة الكثير من المثالب، ولم تتح لها الفرصة لتصويب أخطائها. وظلت مصر ضمن القائمة السوداء لمنظمة العمل الدولية، والتى تضم الدول التى لا تراعى قوانينها ولا مؤسساتها حرية التنظيم النقابى، ولا التفاوض ثلاثى الأطراف (ممثلو العمال مع ممثلى المستثمرين والحكومة)، فلا تحظى بالتالى بأساسيات العمل اللائق. ولكن ــ على خلاف مصر ــ سعى عدد من الدول النامية لتطبيق المرونامان.
وظل الفارق بين الدول المتقدمة والدول النامية فى التطبيق المرونامان هو نقطة الانطلاق. انطلقت الدول المتقدمة التى نجحت فى تطبيق المرونامان من نقطة فيها كل عناصر الأمان، فيها دعائم دولة الرفاه. بينما تغيب تلك الدعائم عن الدول النامية ومن ضمنها مصر، والتى تنطلق من نقطة سهولة التسريح الجماعى للعمال.. ومن ثم، يصبح السؤال: كيف يمكن أن تبنى الدول النامية دعائم دولة الرفاه.. واليوم تلتقى دول العالم ــ متقدم ونام وناشئ ــ فى منطقة وسط.. منطقة تتسم بالجمود الخطر. ويلاحظ البرلمان الأوروبى وضعا فيه الكثير من «المرونة» والقليل ــ إن وجد ــ من «الأمان».
الواقع لا يشجع على النهايات السعيدة
تتراجع أدوار الأحزاب والنقابات، وتسيطر على البرلمانات مصالح الشركات الكبرى وأصحاب الثروات. ومن ثم يضيق هامش الحوار الاجتماعى، فيغيب التفاوض الجماعى. والنتيجة، تفاقم اللا مساواة، والتطرف والعنف الناتجين عن اليأس.
نظريا، يمكن تأسيس دولة رفاه اجتماعى مناسبة لعالم القرن الحادى والعشرين.. تقوم على ضرائب تصاعدية على الثروات داخل البلاد وأيضا تلك المهربة خارجها، وكذا ضرائب على الريوع (أرباح بلا جهد ولا مخاطرة تذكر، كالتى تتولد عن تراكم الثروات المالية والعقارية). كما تقوم على توسيع دائرة الديموقراطية باستبدال الديموقراطية النيابية بديموقراطية تشاركية، قوامها حرية التنظيم والتعبير، لتشرك أكبر قدر من المواطنين فى تفاصيل اتخاذ القرارات الاقتصادية، كبيرها وصغيرها. وقائمة على إدخال نماذج إنتاج مجتمعية محلية، إضافة للقطاع الخاص والعام، والتعاونى.
ولكن واقعيا، فى عالم الاقتصاد السياسى الذى يأخذ فى الاعتبار مراكز القوى، لا تسير الأمور هكذا. علمتنا تجربة 2011، أنه لا نهايات سعيدة لمجرد وجود أفكار جميلة ومنطقية.
فى أرجاء العالم الأربعة، ومصر ليست استثناء، اقتصاد يسيطر عليه شركات ومؤسسات كبرى تنعم بأفضلية سن القوانين لمصلحتها.. قطاعات يختلط فيها الاقتصاد بالنفوذ السياسى، ظلت تراكم أرباحا خيالية، وصار الوجه المقابل لتلك الأرباح هو الاستغلال.
كيف يمكن أن يتنازل هؤلاء عن مكتسباتهم التى راكموها عبر السنين؟ كيف يقتنع هؤلاء وأولئك بأهمية التفاوض الجماعى سبيلا للتقدم وللنمو الاحتوائى؟ هل يمكن تجاوز الكساد العالمى الحالى عبر تهذيب الرأسمالية المتوحشة، وإضفاء لمحة إنسانية (بمعنى رحيمة ولكن أيضا بمعنى عاقلة وراشدة)؟ هل يمكن تأسيس نظام جديد مركزه إنسان آمن سعيد من دون ثورات وحروب؟
باختصار، الفرن مشتعل، والعاملون فوق فوهته مغبرون متعبون من يوم كدٍ طويل، ولا يعودون إلى بيوتهم بما يسد رمق أبنائهم. ويعود سؤال الربيع العربى ــ والعالمي؟ ــ ليفرض نفسه بقوة. وحان الآن وقت البحث عن إجابات، بحسب التوقيت المحلى.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ١١ اكتوبر ٢٠١٩