الإنفاق على الفصول، هل على قد إمكانياتنا نشد اللحاف؟

سُئل وزير التربية والتعليم خلال حوار صحفي على قناة "سي بي سي" عن احتياجاتنا من المدارس لتغطية الزيادة السكانية المتوقعة في السنوات القادمة. في البداية، أشار الوزير إلى توقع زيادة 10 ملايين طالب بحلول عام 2030. ثم جاء رد الوزير كالتالي: "طيب، هل فيه إمكانيات... دايمًا بندور على حلول بإمكانياتنا. يعني هو دا دايمًا الرؤية واللي أنا بشتغل عليه، أنا وزملائي كلنا. إحنا بنحل بإمكانياتنا وهنفضل نحل بإمكانياتنا. إحنا مش هنسيب ولادنا في الآخر، هنفضل نحل بإمكانياتنا".

لم يقدم الوزير إجابة واضحة حول كيفية التعامل مع الوضع الحالي أو الحلول الممكنة لتكاليف بناء الفصول. وما المقصود بإمكانياتنا؟ لان هذا الكلام يوحي بأننا نواجه نفس السياسات في معالجة المشكلات، حيث يُنظر إلى التعليم الحكومي كعبء على الدولة وليس كاستثمار في بناء المجتمع. بالإضافة إلى إن يعتبر التعليم حقا أصيلا يكفله الدستور والمواثيق الدولية. 

 يأتي ذلك في ظل استمرار انخفاض إنفاق الدولة على التعليم وعدم التزامها بالنسب الدستورية التي أقرها الدستور المصري في 2014 "تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للتعليم لا تقل عن ٤٪ من الناتج القومى الإجمالى، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية"، وقد بلغت نسبة الإنفاق للسنة المالية 2024/2025، 1.72% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد حذر البنك الدولي من أن التراجع في الإنفاق يؤدي إلى نقص في الفصول والمعلمين. كل ذلك يؤثر سلبًا على جودة العملية التعليمية، نحن نتحدث عن البنية الأساسية للتعليم، مثل توفير الفصل والمعلم، دون التطرق إلى جوهر العملية التعليمية وتفاصيلها. من خلال ذلك، كيف تدخل الوزير لتقليل الكثافة في الفصول.

أشار وزير التربية والتعليم والتعليم الفني، محمد عبد اللطيف، في المؤتمر الصحفي الأخير بتاريخ 14 أغسطس 2024، إلى أزمة نقص الفصول في مصر. أوضح الوزير أن مصر بحاجة إلى 250 ألف فصل لتقليل الكثافة الطلابية، التي تصل في بعض المناطق إلى 200 طالب في الفصل الواحد. 

طرح الوزير عدة حلول لتقليل الكثافات، حيث كان المقترح الأول تحويل المدارس الثانوية إلى فترات مسائية، واستغلال هذه المدارس للمرحلتين الإعدادية والابتدائية في الفترة الصباحية، وذلك حسب احتياجات كل إدارة تعليمية. أما المقترح الثاني فهو "الفصل المتحرك".

مع بداية العام الدراسي 2024/2025، أصدرت وزارة التعليم بيانًا يفيد بأنها نجحت في خفض الكثافات الطلابية إلى أقل من 50 طالبًا في جميع مدارس الجمهورية، ما عدا 47 مدرسة، وذلك من خلال استحداث 100 ألف فصل. ولكن هذا الوضع يتطلب توفير معلمين لتغطية الفصول الجديدة، في حين نعاني من عجز يصل إلى 460 ألف معلم. فيما يخص ذلك ، تحدث الوزير عن زيادة في عجز المعلمين من 460 ألف معلم إلى 650 ألف معلم ، بعد إضافة عدد من الفصول الدراسية بواقع 98 ألف فصل تقريبًا، ووجود عجز في الفصول يصل إلى 250 ألف فصل.

ستعتمد الوزارة على إتاحة الفرصة للمعلمين لزيادة نصابهم الأسبوعي من الحصص بمقابل 50 جنيهًا للحصة الإضافية. وهذا يعني أن الدولة تسعى لتعويض انخفاض رواتب المعلمين من خلال إضافة حصص إضافية، دون التركيز على تحسين الرواتب بشكل فعلي. بالإضافة إلى ذلك، فإن زيادة الحصص عن النصاب المقرر تُعتبر عبئا إضافيًا على المعلمين، مما يؤثر سلبًا على تفاعلهم وجودة الشرح داخل الفصل مع الطلاب. 

بالإضافة إلى ذلك، تعتمد الوزارة على الاستعانة بـ50 ألف معلم بالحصة، لكن تأثير هؤلاء المعلمين المؤقتين على جودة العملية التعليمية لا يزال غير واضح، فضلاً عن عدم الاستقرار الوظيفي الذي يعاني منه هؤلاء المعلمون. 

أشار تقرير البنك الدولي لعام 2022 إلى أن مصر بحاجة لبناء 117 فصلًا خلال خمس سنوات أي من 2022 إلى 2027. مما قد يخفف الضغط قليلاً على المدارس الحكومية ويخفض الكثافة إلى 45 طالبًا في الفصل. يتطلب هذا بناء حوالي 23 ألف فصل سنويا، مع افتراض أن الزيادة الطلابية ستبقى ثابتة حتى عام 2026. وعليه، كيف كانت أوضاع بناء الفصول في السنوات العشر الأخيرة؟

في أبريل 2024، أصدرت وزارة التربية والتعليم الفني بيانًا يوضح عدد الفصول الدراسية في المدارس خلال عشر سنوات من 2014 إلى 2024. وقد أظهر البيان أن إجمالي عدد الفصول خلال هذه الفترة بلغ 127,450 فصلًا. لاحظنا أن المؤشر شهد ارتفاعًا منذ العام الدراسي 2014/2015، حيث سجل 6,580 فصلًا، وصولًا إلى 20,186 فصلًا في 2017/2018. ومع ذلك، تعرض المؤشر لصعود وهبوط حتى بلغ ذروته في العام الدراسي 2021/2022، حيث وصل عدد الفصول إلى 21,869 فصلًا، وهو العدد الأعلى خلال السنوات العشر.

ومع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة انخفاضًا حادًا في عدد الفصول، حيث انخفض العدد إلى 6,419 فصلًا في العام 2023/2024. يشير هذا الانخفاض إلى تراجع الإنفاق على بناء الفصول، حيث تم إنشاء 6,419 فصلًا فقط على مستوى الجمهورية، في حين تحتاج محافظة القاهرة وحدها إلى توفير حوالي 2,307 فصول سنويًا، وفقًا لتقرير صادر عن محافظة القاهرة بالتنسيق مع مديرية التعليم، والذي يشير إلى الحاجة إلى 11,533 فصلًا خلال الفترة من 2022/2023 حتى عام 2027 لمواجهة الزيادة السكانية.

ولكن، هل مشكلة الفصول في مصر تقتصر على مجرد توفير الأموال؟ تتناول دراسة بحثية لدكتورة هانيا صبحي، الباحثة في معهد ماكس بلانك في ألمانيا، تحديات وعوائق أخرى تواجه بناء المدارس في مصر، مثل مشكلات التكاليف وسوء توزيع الموارد، ومركزية القرارات في عمليات البناء. كما تشير الورقة إلى مشكلات صيانة المدارس الناتجة عن سوء التنسيق بين الوزارة وهيئة الأبنية التعليمية، وتوضح أن النموذج الموحد المستخدم لا يأخذ في الاعتبار طبيعة المجتمعات الريفية والحضرية. 

ووضعت الورقة عدة توصيات لتفادي هذه المشكلات، تتضمن بناء مدارس أكبر في المناطق الحضرية التي تعاني من تكدس سكاني، وأصغر في المناطق الريفية، واعتماد بعض اللامركزية في هيئة الأبنية التعليمية للتنسيق مع الفاعلين المحليين، ووضع مؤشرات لتخطيط المدارس لضمان العدالة في التعليم، مثل إلغاء نظام تعدد الفترات، وتحسين نظام الصيانة، والاهتمام بالمدارس التي تعاني من سوء النظافة، وأخيرًا تطوير نماذج بناء المدارس بما يتناسب مع احتياجات المجتمعات الحضرية والريفية.

يجب الإشارة أيضً إلى أن متوسط الكثافات الطلابية في العام 2023/2024 لا يزال مرتفعًا، حيث سجلت المرحلة الابتدائية 50 طالبًا، والمرحلة الإعدادية 48 طالبًا، والمرحلة الثانوية 41 طالبًا في الفصل الواحد.

ولضمان توفير بيئة تعليمية محفزة للمعلمين والطلاب، يتطلب الأمر وجود فصول ذات كثافة منخفضة، مما يساعد المعلمين على التركيز مع الطلاب في التقييم والشرح. لذا، يجب زيادة الميزانية المخصصة لبناء الفصول، ليس فقط لحل مشكلة الكثافات الطلابية، بل أيضًا للتخلص من نظام تعدد الفترات الدراسية في المدارس، حيث إن 59.7% من المدارس تعمل بهذا النظام، و62% من الطلاب يتلقون التعليم في فصول متعددة الفترات. يؤثر هذا النظام سلبًا على الوقت المتاح للطلاب في المدرسة، مما يحرمهم من الأنشطة التعليمية الأخرى.

لتحقيق كل ذلك، من الضروري السعي والالتزام بالدستور فيما يتعلق بالإنفاق على التعليم، تماما كما يتم توفير أموال للطرق والمشروعات القومية. يجب أن تعتبر الدولة التعليم مشروعا قوميا، ليس فقط في الخطب والتصريحات، بل في تطبيق المواد الدستورية بصدق، دون التحايل على ذلك من خلال إضافة نسب من فوائد الديون إلى التعليم، لتظهر في البيان المالي أن الدولة قد التزمت بنسبة التعليم في الدستور. إن تحقيق هذه النسب فعليا يعطينا فرصة لتقديم حلول حقيقية لمشكلات التعليم، وسنكون قادرين على حلها بإمكانياتنا الحقيقية.