حيثيات حكم القابضة للرعاية الصحية...تضع أسساً قانونية جديدة لحماية الحق في الصحة في مصر
بيان صحفي
صرحت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية اليوم بأن حيثيات حكم وقف إنشاء الشركة القابضة للرعاية الصحية أدخلت تغييرات جوهرية على بنية الحماية القانونية للحق في الصحة في مصر. وأضافت المبادرة المصرية أن أسباب الحكم الصادر في 4 سبتمبر الجاري ترسي أسساً قانونية جديدة بشان العلاقة بين المواطنين والدولة فيما يتعلق بالتأمين الصحي يتجاوز أثرها قرار إنشاء الشركة القابضة لينطبق بشكل أعم على كافة الخطط الحكومية المتعلقة بإصلاح القطاع الصحي.
وقال حسام بهجت، مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والتي كانت قد أقامت الدعوى التي صدر بشأنها الحكم: "نحن ننصح وزير الصحة والنخبة الحاكمة المساندة له أن يقرأوا بعناية حيثيات حكم وقف الشركة القابضة للرعاية الصحية قبل أن يفكروا في المسارعة بدفع قانون جديد للتأمين الصحي إلى البرلمان هذا العام كما أعلنوا مؤخراً."
واستندت حيثيات الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار أحمد الشاذلي، والتي اطلعت عليها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إلى أن قرار رئيس الوزراء بإنشاء الشركة القابضة خالف الحماية المكفولة للحق في الصحة بموجب الدستور المصري في المادة رقم 16 (بشأن كفالة الخدمات الصحية) والمادة رقم 17 (بشأن الحق في خدمات التأمين الصحي). كما استند الحكم إلى قرار رئيس الجمهورية عام 1981 بالموافقة على انضمام مصر إلى العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذي يكفل في المادة 12 "حق كل فرد في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية." وأشار الحكم ـ في خطوة هامة ـ إلى الشرح الرسمي الصادر لنص هذه المادة عن لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالأمم المتحدة في عام 2000.
وجاء في الحكم أن "التأمين الصحي على رأس وسائل ومظاهر الحق في الصحة، والذي بات بدوره يمثل حقاً من الحقوق الإنسانية في القوانين والتشريعات المنظمة لحقوق الإنسان على المستويين الداخلي والدولي، وذلك للارتباط الوثيق بين الحق في الصحة والحق في الحياة، وكفالة الدولة للرعاية الصحية تحول دون أن يكون الحق في الصحة محلاً للاستثمار أو المساومة والاحتكار."
كما قررت المحكمة أن "كفالة حق المواطن في الرعاية الصحية ليس مجرد إقرار لحق أساسي من حقوق الإنسان، ولكنه ضمان لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية."
بل ذهبت المحكمة إلى أبعد من ذلك في التأصيل القانوني للحق في الصحة، بحيث اعتبرت القواعد المنظمة للتأمين الصحي الاجتماعي جزءاً من قواعد النظام العام التي لا يجوز مخالفتها حتى عن طريق إصدار التشريعات: "إزاء حيوية قواعد التأمين الصحي الاجتماعي، وتعلقها بالنفع العام وبالمصالح الهامة في المجتمع وارتباطها بحماية الطبقات الضعيفة تحقيقاً لعدالة التوزيع، فإن هذه القواعد تنتمي إلى النظام العام، بما أكد عليه الدستور، ونصت عليه تشريعات التأمين الصحي والمواثيق والعهود الدولية."
كما بعث الحكم برسائل واضحة إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية فيما يتعلق بالخطط التي يجري إعدادها لإدخال تعديلات تشريعية على وظائف الهيئة العامة للتأمين الصحي. حيث أكد الحكم على القاعدة المستقرة في الفقه الدستوري بأن "الحق الذي يلتحف بحماية دستورية تقريراً ومدى لا ترخص لأداة قانونية أدنى من الدستور إعادة تنظيمه على نحو ينتقص من الحق." وشدد الحكم على أن النصوص القانونية لا تصاغ في فراغ ولا يجب انتزاعها عن المصلحة الاجتماعية المقصودة منها، ولذلك فإنه "لم يعد جائزاً أن ينال أي تشريع من عناصر [هيئة التأمين الصحي] ولا أن يغير من طبيعتها أو يجردها من لوازمها ولا أن يفصلها عن بعض أجزائها أو يدمر أصلها أو يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها من غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية." واعتبر الحكم أن أموال هيئة التأمين الصحي تعد أموالاً عامة لا يجوز للدولة التصرف فيها "وهي خارج إطار التعامل ويد الدولة عليها أقرب إلى يد الأمانة والرعاية منها إلى يد التصرف والاستغلال."
ووجه قرار المحكمة كذلك انتقادات شديدة إلى التوجه الحكومي إلى تحويل الصحة من حق تكفله الدولة إلى مشروع تجاري، من خلال تقديم الرعاية الصحية عن طريق هيئات اقتصادية تهدف إلى الربح. وحذرت المحكمة من أن "ترك أداء هذه الخدمة في يد القطاع الاقتصادي دون النظر إلى الواقع الاجتماعي للمواطن، ودون النظر لتأثير ذلك على الحق في الصحة، وجعله عرضة للتحكم والاحتكار وتربح القطاع الخاص من مرض المؤمن عليهم، مرة بشراء الأصول بأبخس الأثمان لأنها قُيّمت بقيمتها الدفترية، ومرة ثانية بإعادة بيع الخدمة الطبية محملة بأرباح القطاع الخاص الذي يهدف إلى الربح، بعد أن كانت تقدم من الهيئة بسعر التكلفة، وهو ما يصل في النهاية إلى تحويل التأمين الصحي من حق اجتماعي إلى مشروع تجاري، وفي وقت اعتبرت فيه قضية التكافل والتضامن الاجتماعي مطلباً قومياً في مصر، وهدفاً يجب أن ينعم به كل مواطن، لا أن يحرم منه غير القادر."
ورفضت المحكمة كافة الحجج التي تقدم بها محامو الحكومة لتبرير قرار نقل ملكية مستشفيات وعيادات ومعامل التأمين الصحي إلى شركة قابضة تتولى تقديم الخدمة، حيث قالت إن "الواجب الدستوري المُوَسَّد إلى الدولة محظور عليها النكول عن القيام به...بدعوى التطوير أو قصور الموازنة أو غير ذلك من الأسباب التي تتذرع بها الإدارة لتحقيق أهداف تفرغ هذا الواجب من مضمونه."
وشددت المحكمة ـ في قاعدة هامة ـ على أن "حق الإدارة في اتخاذ مناهج جديدة في الإدارة سواء بنفسها أو عن طريق غيرها محكوم بمراعاة القواعد والأحكام المنظمة لملكية المال العام ابتداء، وحق المواطن في الحصول على الخدمة الطبية بسعر معقول انتهاءً."
وقلل الحكم من شأن التأكيدات والتصريحات الحكومية بأن هيئة التأمين الصحي باقية وبأن الحكومة لا تنوي بيع وحداتها، وردت المحكمة بأن "الأمور في جهة الإدارة لا تدار بالنيات..لأن الإرادة الإدارية ليست إرادة شخصية لمصدر القرار، وإنما هي إرادة مقيدة بما يصدر من قوانين ولوائح."
كما رفضت المحكمة الدفع الشكلي الذي تقدم به محامو الحكومة بأن المدعين لا مصلحة لهم في إقامة الدعوى بحجة أن مراكزهم القانونية لن تتغير بإنشاء الشركة القابضة للرعاية الصحية. حيث أجاب الحكم بأن مصلحة المدعين وصفتهم متحققة "باعتبارهم مواطنين لهم على الدولة حق الرعاية الصحية سواء كانا مستظلين بمظلة التأمين الصحي أو على أمل وصول هذا الحق إليهم من خلال ما تنتهجه الدولة من سياسات وما تصدره من قرارات بشأن التأمين الصحي."