أحداث أسيوط الطائفية... حين يغيب القانون وحين تعالج "مصر الثورة" أزماتها على خطى "أمن الدولة": التهجير القسري تكريس للطائفية
بيان صحفي
أعربت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية عن انزعاجها الشديد من نتائج جلسة الصلح والتهدئة التي عقدت السبت 31 ديسمبر 2011 برعاية مسؤولين رسميين وشعبيين بعد أحداث العنف والتوتر الطائفي التي اندلعت في أربع قرى بمركز أسيوط يومي 29 و30 ديسمبر(قرى: منقباد والعدر والبهيج والسلام)، والتي انتهت باتخاذ عدة قرارات لا تستند لأي مرجعية قانونية أو دستورية، الأمر الذي رسخ منهج أمن الدولة في مصر ما بعد الثورة في التعاطي مع مثل هذه الأزمات.
حيث بدأت الأحداث يوم 29 ديسمبر عندما انتشرت إشاعات بقرية العدر حول قيام جمال عبده مسعود، الطالب الثانوي بمدرسة منقباد الثانوية المشتركة والمسيحي الديانة بنشر صور مسيئة للرسول على صفحته الشخصية على موقع فايسبوك، تلتها سلسة من الإعتداءات على منازل مواطنين أقباط يسكنون يقريتي العدر والسلام ومحاولات لحرقها.
وفي إطار الحلول التسكينية المتعسفة، التي دأب نظام مبارك على التعامل من خلالها مع الأزمات الطائفية، تدخلت الدولة ممثلة في عدد من المسؤولين بالإضافة لقيادات دينية وقبلية، لاحتواء الموقف، لينتهي الجميع إلى قرار يقضي بترحيل طالب الثانوي وأسرته نهائيا من القرية، جنبا إلى جنب مع محاكمته على نحو عاجل بتهمة ازدراء الأديان.
على أن يتم القبض – أيضا - على صديقه المتهم بالتحريض على الواقعة وأن يلقى نفس المصير، وأن يتم البحث عمن وراء هذا الشاب وزميله، على أن يطالهم نفس العقاب إن كانوا من أهل المحافظة، مع تقديم اعتذار رسمي من القساوسة بجميع وسائل الإعلام.
وقال إسحق إبراهيم الباحث ببرنامج حرية الدين والمعتقد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية: "بالإضافة إلى أن التهجير الذي فرض على عائلتين بالكامل هو عقوبة غير منصوص عليها قانونا وتمت خارج إطار القضاء، وبعيدا عن عملية تحقيقات حرفية وعادلة، فإن العقاب الذي تشارك في تنفيذه مؤسسات الدولة يقع على جماعة من الناس منهم من لا تربطه علاقة بواقعة النشر المزعوم حدوثها، ولم يستهدفوا إلا لأنهم مسيحيون، وهى سياسية كان ينتهجها جهاز أمن الدولة السابق لعلاج التوترات الطائفية، وقد أثبتت فشلها وعدم قدرتها على معالجة ومنع التوترات الطائفية."
ولفتت المبادرة المصرية إلى خطورة أحداث الانتقام الجماعي التي تعرض لها مسيحيو أربعة قرى في مركز أسيوط - تنوعت بين الترويع وإحراق المنازل - مؤكدة أن هذا النمط من الانتقام صار لصيقا بمعظم أحداث العنف الطائفي التي شهدتها مصر خلال السنوات الأخيرة. كما أعادت المبادرة المصرية رفضها الشديد لتهمة "ازدراء الأديان" الفضفاضة وسيئة السمعة والتي اشتهرت نيابات أمن الدولة في عهد مبارك باستخدامها لملاحقة المواطنين بسبب معتقداتهم الدينية.
وأضاف باحث المبادرة المصرية: "ينبغي على الدولة أن توقف فورا تنفيذ عملية التهجير القسري للعائلتين، وأن تضمن سلامة بقائهما بالقرية، بالإضافة إلى صرف التعويضات للمضارين من أصحاب المنازل وإلقاء القبض على كل من أشعل النيران بالمنازل. وينبغي على الدولة أيضا أن لا تحيل الطالب جمال مسعود للمحاكمة الجنائية بتهمة فضفاضة كازدراء الأديان كترضية ورغبة منها في فرض التهدئة في المجتمع على حساب الأفراد."
خلفية
وفقا لإفادات متنوعة من شهود العيان عن مجريات الأحداث في القرى الأربعة في مركز أسيوط يومي 29 و30 ديسمبر 2011، فقد اعترض زملاء للطالب جمال عبده مسعود بمدرسة منقباد الثانوية المشتركة بقرية منقباد صباح الخميس 29 ديسمبر على صور موجودة بصفحته الشخصية بموقع فايسبوك بزعم أنها مسيئة للرسول، ولعب الأخصائي الاجتماعي بالمدرسة دورا رئيسيا في تأجيج مشاعر الطلبة والأهالي عن طريق حشد الطلبة للتظاهر والاعتراض على الرسوم وضرورة معاقبة الطالب المسيحي. تجمهر أثر ذلك مئات الشباب المسلمين أمام المدرسة نحو التاسعة صباحاً مطالبين بتسليم الطالب لهم للقصاص منه، وهو الأمر الذي رفضه مدير المدرسة. ثم اتصل مدير المدرسة بالقيادات الأمنية، فوصلت قوة من الجيش والشرطة تحفظت على الطالب داخل قسم الشرطة وحولته إلى النيابة العامة في نفس اليوم، والتي أمرت – بدورها - بحبسه أربعة أيام ثم جددت حبسه في 2 يناير خمسة عشر يوما على ذمة التحقيقات بتهمة إزدراء الأديان. كما تمكنت القوة أيضا من تأمين خروج الطالبات المسيحيات حيث أن المدرسة مشتركة للبنين والبنات خوفاً عليهن وعودتهن إلى منازلهن.
ظهيرة ذلك اليوم، جرت اتصالات بين المسئولين التنفيذيين وبعض أعضاء مجلس الشعب خاصة الشيخ أحمد الرفاعي من التيار السلفي وقيادات دينية مسيحية. اتفق على عقد جلسة بديوان عام محافظة أسيوط في الثامنة من مساء نفس اليوم يقدم فيها والد الطالب الاعتذار عما بدر من ابنه على أن تستمر الإجراءات القانونية في مسارها.
إلا أنه وفي مساء نفس اليوم، تجمع مئات من شباب المسلمين من قريتي العدر (مسكن بيت الطالب) وبهيج، وألقوا الحجارة والكرات نارية على منزل جمال مسعود وعدة منازل مجاورة بقرية العدر، كما أطلقوا أعيرة نارية بالقرب منها وحاولوا اقتحامها عدة مرات. وتصدت لهم قوات من الجيش والشرطة أحاطت بمنازل الأقباط تحت قيادة مدير أمن أسيوط وحكمدار أسيوط ونائب مدير فرع الأمن العام، واستخدمت القنابل المسيلة للدموع لإبعاد التجمعات.
تمكنت تجمعات المسلمين من إشعال النيران في منزل الطالب جمال مسعود في قرية العدر في بداية الأحداث وقبل وصول التعزيزات الأمنية، و أيضا في حظيرتين للمواشي في منزلين مجاورين، مما أدى لنفوق سبعة رؤوس من الأغنام. تمكنت قوات الإطفاء من إخماد النيران والسيطرة عليها قبل أن تمتد إلى منازل المسيحيين أو تلتهم جميع محتويات المنازل التى طالتها كرات النار كما استطاعت قوات الأمن فرض الهدوء وإبعاد المتظاهرين عن منازل المسيحيين في الثانية عشر من مساء الخميس. ولم تحدث إصابات بشرية حيث أن أعدادا من المسيحيين تركوا منازلهم خشية التعرض لأعمال انتقامية.
وبحسب الرواية التي أكدتها العديد من المتواجدين بالقرى، أثناء خطبة صلاة الجمعة 30 ديسمبر، ندد بعض أئمة المساجد بما حدث من نشر رسوم مسيئة للرسول، مما دفع عشرات من أهالي قريتي العدر وبهيج بالتوجه مرة أخرى إلى منزل الطالب لإحراقه، فقامت قوات الأمن المتواجدة بقرية العدر من اليوم السابق بمنعهم وإخراج محتويات المنزل ونقلها خارج القرية بواسطة سيارات الشرطة مما دفع المتجمهرين لرشق قوات الأمن بالحجارة. استخدمت قوات الشرطة القنابل المسيلة للدموع مرة أخرى لتفريق المتجمهرين وإبعادهم عن الكردون الأمني المفروض على منازل المسيحيين، فرد الأهالي بإشعال كميات من البوص والمخلفات الزراعية حول منازل المسيحيين وإطلاق أعيرة نارية.
انتقلت أجواء توتر الجمعة إلى قرية سلام التي تبعد نحو خمسة كليو مترات عن قريتي العدر وبهيج، وأضرم العشرات النيران في أربعة منازل في منطقة الدمايرة قبلي منها منزل الطالب مينا جميل بشاي زميل يجلس بجوار الطالب جمال مسعود في الفصل بعد أن رشقوا المنزل بالحجارة وحطموا محتوياته. وانتقلت قوة من الجيش والشرطة – بعد نصف ساعة - إلى قرية سلام ومعها سيارة الإطفاء للقرية فقام بعض أهالي القرية بمنع وصولها لمكان الحريق، لكن القوة الأمنية نجحت في إبعاد المتجمهرين ومكنت رجال الدفاع المدني من إطفاء الحريق. ثم انتقل الشباب المسلم إلى منطقة أخرى بنفس القرية وأشعلوا النيران في منزلين آخرين نتج عن الحريق فيهما نفوق بعض المواشي وإصابات بحروق بسيطة لعدد من الأهالي الذين شاركوا في إخماد النيران، فيما تمكن أهالي المنزلين من الهرب. ثم اشتعلت النيران بمنزل صابر رياض بمنطقة قبلي البلد بالقرية وذلك بعد قذف كرات نارية عليه.
وصرح عبد الرحيم برعي محافظ أسيوط للتليفزيون المصري مساء الجمعة أن الهدوء عاد للقرى الثلاثة، العدر وبهيج وسلام، التي شهدت حرق بعض بيوت المسيحيبن فيها. أضاف المحافظ أنه نتيجة الاشتباك، أصيب خمسة مجندين من الشرطة ولم يصب أحد من المتجمهرين المسلمين ولا من الأقباط.
صباح السبت أمر مدير نيابة مركز أسيوط محمد سيد بحبس الطالب جمال عبده مسعود أربعة أيام على ذمة التحقيقات، ووجهت له تهمة ازدراء الأديان، فيما نفى الطالب المتهم أثناء تحقيقات النيابة نشر هذه الصور على صفحته الخاصة موضحا أنه لا يملك كمبيوتر شخصي بمنزله، وطلبت النيابة من المباحث الجنائية إعداد مذكرة تفصيلية حول ملابسات الواقعة وإجراء معاينة تصويرية للمنازل المحترقة بالقرى.
في مساء نفس اليوم عقد محافظ أسيوط اللواء السيد البرعي ومدير الأمن اللواء محمد إبراهيم اجتماعا حضره عدد من نواب مجلس الشعب المنتمين للإخوان المسلمين والسلفيين والجماعات الإسلامية، ووكيل وزارة الأوقاف وعدد من رجال الدين الإسلامي والمسيحي وممثلون لعائلات القرى التي شهدت الاعتداءات، وذلك لبحث مخرج لأجواء التوتر المنتشرة وسرعة إنهاء الخلافات بين المسلمين والأقباط بالقريتين التي احترقت بهما البيوت – العدر والسلام. وأصدر المكتب الفني لمحافظة أسيوط بيانا تطابق مع شهادات حصلت عليها المبادرة المصرية للمشاركين في الاجتماع.
اتفق المشاركون على أن يحاكم الطالب المسيحي الذي تسبب في هذه المشكلة بتهمة ازدراء الأديان محاكمة عاجلة، وأن يغادر هو وأسرته محافظة أسيوط نهائيًا، وأن يتم تحرير قضية بخصوص الحرائق التي لحقت ببعض المنازل الخاصة بالمسيحيين في قريتي السلام والعدر والتثبت من المتسبب فيها ومحاكمته. اتفق الحضور أيضا على أن يقدم القساوسة اعتذارا رسميا في جميع وسائل الإعلام، وأن يتم القبض على صديقه المحرض مينا جميل بشاي على الواقعة وينفذ فيه وفي أهل بيته ما نفذ في المتهم الرئيسي، وأن يتم البحث عمن وراء هذا الشاب وزميله وإن كانوا من أهل المحافظة يطبق عليهم نفس العقاب. كما اتفق المجتمعون على أن ينتقل رجال الدين الإسلامي إلى القرى المشتعلة بالأحداث والتوتر للقاء الشباب المسلم لإقناعهم بضبط النفس، وأن ينتقل رجال الدين المسيحي للقاء الشباب المسيحي لتهدئة الأوضاع، وأن تشكل لجان شعبية من الأهالي لتأمين القرى الملتهبة.
وبالفعل توجه في اليوم التالي عدد من المشايخ للقرى الملتهبة وقاموا بالتنبيه على الأهالي أن شخصا أخطأ يجب محاسبته وحده طبقا للقانون ودون معاقبة جميع الأقباط والذين لا ذنب لهم في الأحداث. فيما استنكرت القيادات الكنسية في أسيوط ما حدث من الطالب، ووصفوا تصرفه بغير المسئول. ورغم حالة الهدوء التي سادت القرى الأربع لكن لم يعد الطلبة للانتظام في الدراسة والعودة للمدرسة بقرية منقباد إلا الثلاثاء بعد زيارة قامت بها إدارة مدرسة منقباد الثانوية المشتركة – يوم الاثنين- للقرى الأربع التى شهدت توتراً طائفياً، لطمأنة الطلبة المسيحيين وتشجيعهم على العودة للدراسة.