التقشف يلتهم عيش المصريين.. الحكومة تزيح آخر صخرة تحمي الفقراء
بيان صحفي
الفائض الأولي إنجاز زائف يضع أموال الفقراء والطبقات الوسطى في جيوب المقرضين
بعد غدٍ السبت، 1 يونيو، يبدأ تطبيق قرار الحكومة الذي أعلن أمس الأربعاء برفع سعر الخبز المدعم ليبلغ أربعة أضعاف سعره الحالي، بزيادة تبلغ 300٪، وهو قرار مهدت له الحكومة قبلها بأيام قليلة على لسان رئيسي الجمهورية والوزراء. يمثل هذا القرار طعنة جديدة للفقراء الذين تنخفض مستويات معيشتهم بشكل هائل ومتسارع منذ نهاية عام 2016، بفعل سياسات التقشف الانتقائية التي تحابي الشركات الكبرى المتصلة سياسيًا والأغنياء، وبفعل التخفيضات المتواصلة في سعر الجنيه والارتفاع الجبار في خدمة الدين وآثاره، والصدمات السعرية المتكررة.
كما تمثل الخطوة رسالة رمزية بأن الصخرة الأخيرة في الحماية الاجتماعية، هي الأخرى قابلة للزحزحة تماما، جنبًا إلى جنب مع تقلص الأجور الحقيقية، وتراجع الإنفاق العام الحقيقي على الصحة والتعليم، وتسعير الخدمات العامة بسعر السوق، إذ يُتوقع ألا يكون هذا الرفع لأسعار الخبر هو آخر المطاف. فلطالما كان رفع الدعم عن الخبز عقبة أمام الحكومات المتعاقبة التي حاولت تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي منذ يناير 1977، وها نحن أمام أهم محاولة لإزاحتها، مما يمثل توجهًا إضافيًا لتجويع وإفقار مزيد من المصريين.
ويزداد الأمر سوءًا مع حزمة السياسات التي أعلنت قبل نهاية العام المالي الحالي التي تحُل في آخر يونيو، متضمنة رفع أسعار الدواء والخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية ورفع أسعار شرائح استهلاك الكهرباء، إضافة إلى الزيادة الوشيكة المرتقبة في أسعار الطاقة ضمن آلية التسعير الدوري. ولا معنى لذلك كله إلا زيادة الفقر واللامساواة ووضع مزيد من الضغوط على الطبقات الوسطى، بالذات في الشرائح الأقل دخلًا منها.
المصيبة في هذا القرار، مع كل آثاره الجسيمة تلك على حياة ملايين المصريين، أن الوفر الناتج عنه لا يبرر كل هذه القسوة الفاحشة ولا هذا العدوان الاقتصادي واسع النطاق، فهو قرار منابعه سياسية قبل كل شيء، وانعكاساته تمثل خيارًا سياسيًا واجتماعيًا يطأ سُبل عيش المصريين من أصحاب الدخول الدنيا.
كيف تبرر الحكومة الخطوة؟
يأتي القرار بعد أحاديث كررها المسؤولون التنفيذيون على مدار السنوات الماضية حول ما تتحمله الدولة من أعباء جرَّاء الدعم العيني للفقراء.
بدأ الأمر بتوجيهات من رئيس الجمهورية، وخطط "وضعت في الدرج" - حسب تصريحات لوزير التموين- خلال الأزمة الاقتصادية. لتخرج تلك الخطط حاليًا في ظل معدل تضخم قارب 32.5 ٪ في إبريل من العام الحالي، وتوقعات بأنه لن ينخفض خلال القريب العاجل إلى المستويات التي يستهدفها البنك المركزي ليصبح بين 7 و9 بالمئة.
لا تستخدم الحكومة في تبريرها لهذه الخطوة حديثها المعتاد حول "تسرب الدعم من مستحقيه"، الذي كان تاريخيًا مُرتكزًا أساسيًا للتغييرات المتواصلة في أنظمة الحماية الاجتماعية. هذه المرة، تتمحور التفسيرات الحكومية حول التكلفة على الموازنة، ولا معقولية أن يستمر سعر الرغيف منذ 1988 عند خمس قروش للرغيف.
والحقيقة أن التكلفة الحقيقية لرغيف الخبز "المدعّم" تراجعت كثيرًا خلال السنوات الماضية: من حيث عدد المنتفعين من الدعم، ومن حيث وزن الرغيف الذي تم تخفيضه ثلاث مرات خلال عشر سنوات فقط ليصل إلى 90 جرامًا انخفاضًا من 120جرامًا، وهو ما يعتبر تخفيضًا للتكلفة.
في الماضي القريب، وخلال أزمة مشابهة في 2008، كانت تكلفة برامج الدعم الغذائي في مصر أكبر بكثير من الوضع الحالي. حينها كانت تكلفة برامج الدعم تقدر بـ 21.1 مليار جنيه، وكان متوسط سعر صرف الجنيه أمام الدولار في ذلك العام (5.5 جنيه لكل دولار)، أي أن تكلفة الدعم كانت تعادل 3.83 مليار دولار. أما الآن، فالتكلفة الإجمالية للدعم الغذائي كله تقارب 134 مليار جنيه ما يعادل نحو 2.85 مليار دولار بسعر الصرف الرسمي الحالي.
يدلنا ذلك على تراجع التكلفة الحقيقية لبرامج الدعم الغذائي، وأن مخصصات الدعم في الموازنة العامة لم تستطع مواكبة التغيرات في أسعار الصرف المحلية أو معدلات تضخم أسعار الغذاء المرتفعة في العموم في مصر، بالأخص مع تخفيضات العملة المتتالية. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنه خلال تلك الفترة ارتفع عدد سكان مصر من 83 مليون نسمة في 2008 إلى ما يقرب من 114 مليون نسمة.
شتَّان أيضًا بين استجابة النظام السابق للأزمة الغذائية في 2008 وبين الاستجابة الحالية. فقد سارع النظام السابق بعد تطور الأحداث ومقتل المواطنين في طوابير الخبز إلي زيادة حصص القمح المُورَّدة للمخابز، من أجل تهدئة الأمور والحفاظ على تدفق سلس للخبز تحديدًا، وزاد من مخصصات دعم الغذاء بما يقارب 0.5٪ من الناتج المحلي خلال أشهر قليلة، كما زادت التحويلات النقدية الموجهة للفقراء وتم رفع الأجور في القطاع العام كجزء من استيعاب أزمة التضخم في أسعار الغذاء.
أهمية الخبز للمصريين
لدى المصريين - وبالأخص الفقراء منهم- حساسية كبيرة للخبز، حيث يعتمدون بشكل أساسي عليه في غذائهم اليومي. فالقمح كان مسؤولًا عن توفير نحو 39٪ من السعرات الحرارية اليومية للمصريين خلال السنوات الماضية. تزعم الحكومة إن السعر المنخفض يزيد من استهلاك الخبز وتوجيهه لأغراض أخرى كتحويله لعلف للطيور.
وفي الحقيقة زاد اعتماد المصريين الفقراء على الخبز بشكل واضح منذ جائحة كورونا في 2020، بفعل عدم القدرة على توفير السلع الغذائية الأخرى كاللحوم والخضروات والفاكهة، بل وارتفاع أسعار سلع كانت تقليديًا سلعًا شعبية في متناول أغلبية المواطنين، كالعدس والكشري مثلًا. فاستهلاك القمح ومنتجاته وعلى رأسها الخبز، يزيد مع ارتفاع التضخم في أسعار السلع الأخرى، بالتالي فإن رفع أسعار الخبز 300٪ سوف يؤدي لا محالة إلى تقليل الكميات المستهلكة منه، وبالتالي يعرض الكثير من المصريين الفقراء لخطر الجوع الحقيقي، وعدم الحصول على السعرات الحرارية اللازمة للحياة يوميًا.
الآثار جسيمة على الفقر واللامساواة
يقول وزير التموين مستنكرًا الاعتراض على رفع سعر الخبز: "ما المشكلة في أن تكون الخمسة أرغفة بجنيه واحد؟"، الحقيقة أن هناك مشكلة مروعة في ذلك.
بعد تخفيض الجنيه في نهايات عام 2016، والموجة التضخمية التي تلته، زاد عدد الفقراء من 27.8٪ من المصريين إلى 32.5٪، وتراجع نحو خمسة مليون مصري إلى ما تحت خط الفقر الوطني.
ومع الضغوط المتوالية على مستويات معيشة الفقراء، من جائحة كوفيد-19 ثم الموجات التضخمية المتتالية مع التخفيضات التدريجية للجنيه، والإجراءات التقشفية المتكررة برفع أسعار الخدمات العامة وتحويلها إلى استثمارات خاضعة للسوق، بدلًا من أن تكون خدمات ممولة من الضرائب تلتزم الدولة بتقديمها كقرار اجتماعي، ثم التخفيض الأخير للجنيه وتخفيض الدعم اتساقًا مع توصيات صندوق النقد الدولي، يُتوقع أن تزيد نسبة الفقر إلى ما يتجاوز 40٪ على الأقل. هذا، ولم يعلن الجهاز المركزي للمحاسبات نتائج مسح الدخل والإنفاق منذ مارس 2020.
أما عن اللامساواة والتفاوت الاجتماعي، فمصر بالفعل كانت تحتل مرتبة مرتفعة فيما يتعلق باللامساواة في الثروة وفي الدخل، بحسب قاعدة بيانات اللامساواة العالمية التي يقودها الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي. حيث يستحوذ الواحد في المائة الأغنى من المصريين على 63٪ من الثروة، مقابل 4٪ فقط من الثروة يتشاركها نصف المصريين الواقعين في أسفل السلم الاجتماعي. كما يستحوذ العشرة في المائة الأغنى على 47.6٪ من الدخل مقارنة ب 15٪ من الدخل لنصف المصريين. ويقدّر البنك الدولي أن هناك أكثر من سبعين في المائة من المصريين كانوا ينفقون أقل من 42.3 جنيه يوميًا، أو 1269 جنيهًا شهريًا، عام 2019.
زيادة سعر الخبز ليصبح أربعة أضعاف سعره الحالي، هي خطوة ستمس 60 مليون مواطن، وقد تكون سببًا في دفع ربع المصريين القابعين على حافة خط الفقر الوطني إلى ما تحته، وسيكون لها آثار خطيرة على غذاء الناس، وعلى المصريين تحت حد الجوع، المعروف بالفقر المدقع.
ليس الخبز وحده: التقشف والفائض الأولي
في الحقيقة ليس الخبز وحده الذي يتعرض للتخفيضات والتقشف. فهناك تراجع حقيقي في مجمل الخدمات الاجتماعية، والأجور الحقيقية وغيرها. يتجلى ذلك فيما تعتبره الحكومة إنجازًا، وهو التحول لفائض أولي في الموازنة، طلب الصندوق في مراجعته الأخيرة أن يزيد إلى 4٪ من الناتج المحلي.
الفائض أو العجز الأولي هو إيرادات الحكومة مخصومًا منها المصروفات، باستبعاد خدمة الدين والفوائد. ويكشف التحول من عجز إلى فائض خلال السنوات الماضية، تقشفًا عميقًا في كل المصروفات، خلاف الفوائد التي تبتلع الجزء الأكبر من الإيرادات. وهكذا؛ فإن الفائض المحقق هو تجسيد للتقشف الانتقائي، أي تخفيض مزايا المواطنين في الخدمات العامة وتحول ضرائبهم إلى خدمة الدين المتزايد، الخارجي والداخلي، وتمويل الأرباح الريعية لمن يقرضون الدولة في الخارج وفي الداخل من بنوك وأفراد وشركات ومؤسسات مالية. الفائض الأولي إنجاز زائف على حساب المصريين.
وَفْر الخبز كاذب
مبررات الحكومة في رفع أسعار رغيف الخبز بتلك النسبة الكبيرة لا تتفق مع الوفورات المالية المحدودة التي يمكن تحقيقها من تلك الخطوة، ولا توازي الأثر الاقتصادي والاجتماعي السلبي لرفع تلك الأسعار، خاصة أنها تمس الشرائح الأفقر.
بحسب أرقام موازنة العام القادم، تخصص الحكومة ما يقرب من 98.05 مليار جنيه دعمًا كليًا للخبز، يشمل هذا 90.7 مليارًا لدعم رغيف الخبز، بالإضافة ل 5.2 مليارات لدعم الدقيق للمستودعات، و2.04 مليارات لدعم نقاط الخبز التي تستبدل بسلع أخرى. يعني ذلك أن تكلفة إنتاج رغيف الخبز تساوي 90.7 مليار جنيه مقسومة علي 76.7 مليار رغيف، هم مجمل الإنتاج السنوي بعد استبعاد نسبة تغيير النقاط، وهو ما يعني 1.18 جنيه لكل رغيف (الحكومة تقول إن التكلفة 1.25 جنيه)، يدفع منها المواطن 5 قروش لكل رغيف، ما يعني أن فارق تكلفة الإنتاج تساوي 1.13 جنيه لكل رغيف.
وهكذا فإن زيادة السعر من 5 قروش إلى 20 قرشًا، سوف يوفر 15 قرشًا في كل رغيف. لتنخفض تكلفة الإنتاج إلى 98 قرشًا، وهي ليست بعيدة عن التكلفة الحالية.
فما يمكن أن توفره تلك الزيادة من وفورات لا يتجاوز 11.5 مليار جنيه سنويًا علي أقصي تقدير، وهو رقم يمكن توفيره من داخل الموازنة العامة بطرق كثيرة.
على مستوى آخر، فقد شهد دعم الخبز تراجعًا متواصلًا في العقد الأخير، سواء كنسبة من استخدامات الموازنة، أم كنسبة من الناتج المحلي، وذلك رغم ارتفاع معدلات التضخم والفقر في الفترة ذاتها، وهو ما يعني أنه صار يمثل مساهمة ضئيلة الوزن في الموازنة.
ففي مشروع موازنة العام المالي 2024 /2025، لا يتجاوز دعم الخبز نسبة 1.6٪ من إجمالي الإنفاق العام، ولا يزيد عن 0.5٪ من الناتج المحلي، مقارنة ببند الفوائد على الديون الذي يمثل ثلث الاستخدامات و10.6٪ من الناتج المحلي، أي حوالي عشرين ضعف نسبة دعم الخبز. ويكاد دعم الغذاء (الذي يستفيد منه حوالي 60 مليون مصري) يماثل نفس نسبة الأجور المخططة لقطاع الخدمات العامة (الي يضم موظفي مجلسي النواب والشيوخ ورئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء والمجالس التخصصية والدواوين العامة للمحافظات ووزارة المالية ووزارة الخارجية، أي قلة من كبار الموظفين)، حيث تبلغ حوالي 91 مليار جنيه، وتمثل 16٪ من إجمالي الأجور.
رفع سعر الخبز والتوفير على حساب هذا البند هو وفر ضئيل بثمن باهظ، وقابل للتحميل على بنود أخرى، كأجور كبار الموظفين، أو دعم الصادرات مثلًا، الذي يتجاوز ثلاثة وعشرين مليارًا في الموازنة. هل الصادرات أهم من الحياة؟ أهم من الجوع؟
التحول للدعم النقدي
الحل البديل لدعم الخبز، الذي طرحه بعض الوزراء ردًا على انتقادات المنتقدين، كان هو التوسع في الدعم النقدي وربما إلغاء الدعم العيني تمامًا.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن التحول للدعم النقدي كان يعني خلال السنوات الماضية تخفيضا في إجمالي دعم الفقراء الحقيقي وليس تحويلًا لمسار آخر.
والواقع أن الدعم النقدي له عيوب كبيرة جدًا عند الالتجاء إليه طريقة للحماية الاجتماعية للفقراء. أولًا: قيمته الحقيقية فيما يوفره من سلع تنخفض بمرور الوقت، فما بالنا في توقيت يتزايد فيه التضخم بمعدلات كبيرة. وثانيًا: يحتاج الدعم النقدي لشبكة معلومات دائمة التحديث وعمليات تقييم متواصلة تستنزف الموارد عبر جهاز كبير من الموظفين الحكوميين القائمين على التقييم. وثالثًا وهو الأهم: مازال الدعم النقدي المطبق خلال السنوات الماضية يستبعد شريحة كبيرة من الفقراء ويعاني من تسرب كبير إلى غير المستحقين. وهو ما يهدم منطق التحول من أساسه إلا لو كان الغرض هو تخفيض الدعم.
ويمثل الدعم العيني في مصر حاليًا أفضل الحلول لمشاكل الجوع ونقص التغذية، فقد يؤدي التحول للدعم النقدي إلى مشكلات في توزيع الموارد المالية داخل الأسر، منها استئثار الأفراد الأكبر سنًا والأكثر قوة داخل منظومة العلاقات الاجتماعية بمبالغ الدعم وعدم حصول الأطفال عليها، كما أن المصروفات الطارئة المرتبطة بالتعليم والصحة قد تدفع الكثيرين إلى إنفاق مبالغ الدعم الغذائي علي أشياء أخري غير الغذاء، مما يفاقم من المشاكل المرتبطة بتغذية الفقراء في مصر.