مقدمة- في تاريخ التأمين الصحي رحلة طويلة بدأت في منتصف الستينات من القرن الماضي حينما تأسست الهيئة العامة للتأمين الصحي عام 1964 وصدرت القوانين المختلفة وهدفها المعلن كفالة الحق في الرعاية الصحية التأمينية تدريجيا لجميع المواطنين. وكان المبدأ العام الذي يحكم هذه القوانين هو السعي نحو التوازن بين معياري كفاءة الأداء في تقديم الخدمات وشمول حزمة الخدمات وبين الإنصاف والعدالة في تحمل الأعباء المالية للعبء المرضي عبر صناديق التأمينات الاجتماعية والصحية للمشاركة في مخاطر المرض.
ومنذ منتصف التسعينات من القرن الماضي تجري محاولات متكررة لإصلاح النظام الصحي برمته، وفي المقدمة منه نظام التأمين الصحي الذي بات بعد خمسين عاما من تأسيسه يعاني من العديد من نقاط الضعف أبرزها عدم رضاء المواطنين عن مستوى تقديم الخدمات وكفاءة من يقدمونها، إضافة لنقص إتاحة الخدمات التأمينية في الريف مقارنة بالحضر واقتصار التغطية على ما لا يزيد عن 54% من إجمالي السكان.
وكانت مشكلة الإنفاق الصحي وما زالت هي جوهر التحديات القائمة، حيث أكدت الدراسات الموثقة من الجهات الرسمية ذاتها أن حجم الإنفاق الأسري على الخدمات الصحية من جيوب المواطنين سواء غير المؤمن عليهم أو المؤمن عليهم يتجاوز 60% من الإنفاق الكلي على الصحة، إضافة لتدني ما تخصصه الموازنة العامة للإنفاق على الرعاية الصحية وهو ما لا يتجاوز 5% من حجم مصروفات الموازنة العامة.
وفي السنوات العشر الأخيرة قدمت الحكومة عدة مسودات لقوانين جديدة للتأمين الصحي كانت في مجملها تفتقد الرؤية الشاملة لطبيعة التغيير المطلوب لإصلاح التأمين الصحي. فقد افتقرت تلك المسودات للدراسات الشاملة حول كيفية ارتباط نظام التأمين الصحي في مصر بقوانين التأمينات الاجتماعية التي صدرت في نفس الوقت تقريبا. كما خلت المسودات من فكرة التوزيع العادل لتكلفة العبء المرضي بين المواطنين من ناحية وبين موارد الخزانة العامة للدولة من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي كان من الممكن تحقيقه بفرض ضرائب مباشرة أو غير مباشرة لتمويل هذا النظام بما يضمن معايير التكافل الاجتماعي والإنصاف والإتاحة في توفير الحماية الصحية التأمينية لشرائح المجتمع.
وفي العامين الماضيين كثفت الحكومة جهودها للانتهاء من مشروع جديد لما أطلقت عليه الحكومة (قانون التأمين الصحي الاجتماعي الشامل) الذي يعد من الأهداف الكبرى في مسار المجتمع المصري نحو التنمية والعدالة. فالنظام الصحي يحتاج إلى إصلاح حقيقي وإلى نظام تأميني بديل شامل يحقق معايير العدالة والإتاحة والكفاءة والجودة ولا يتجاهل ارتباط التأمين الصحي بنظم التأمينات الاجتماعية بشكل عام.
في هذا السياق ـ وقبل التعرض للتعليق على آخر المسودات المنشورة للقانون الجديد ـ فإننا نشير إلى "إعلان المبادئ" الصادر عن لجنة الدفاع عن الحق في الصحة في نوفمبر 2009، والذي حددنا فيه المبادئ التي تحكم موقفنا من القانون ـ أي قانون ـ والمخاطر التي حذرنا من احتواء المشروع الحكومي عليها. وتؤكد هذه المبادئ على الآتي:
1- ضرورة تحديد المبادئ العامة والأهداف المطلوب تحقيقها من القانون الجديد، إضافة إلى المصطلحات والمفاهيم المستخدمة فيه بوضوح، وطرح مسودة القانون للمناقشة على نطاق واسع بين مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب المختلفة والنقابات والمواطنين قبل عرضه علي مجلس الشعب، وعدم تمريره مباشرة من مجلس الدولة إلى مجلس الوزراء دون عرضه كاملا على فعاليات المجتمع المختلفة. وقد امتنعت الحكومة حتى الآن عن الكشف عن مشروعها الجديد ـ وهو المشروع الذي يختلف كثيراً عن آخر المسودات المنشورة في 2007 ـ بما يعكس سلوكا غير ديمقراطي يفتقد إلى الشفافية، وهو ما دفعنا للتعامل هنا مع المسودة التي نشرتها صحيفة المصري اليوم غير كاملة، والتي قد تختلف قليلاً أو كثيراً عن الشكل النهائي للمشروع.
2- احترام حق المواطن في الصحة، بما يتضمن الحق في رعاية صحية تأمينية عادلة عبر المشاركة في تحمل مخاطر العبء المرضي، وحماية حقوق المواطن التأمينية الاجتماعية، وهي الحقوق التي كفلتها قوانين التأمينات الاجتماعية الحالية عبر أكثر من نصف قرن (قانون 79 لسنة 1975 وتعديلاته، قانون 112 لسنة 1980، قانون 108 لسنة 1976 وتعديلاته)، ورفض المساس بتلك الحقوق في ظل ما يتردد حول تعديلات لقوانين التأمينات الاجتماعية والمعاشات المعمول بها حالياً.
3- التأكيد على رفض تهرب الحكومة من مسئوليتها عن زيادة الإنفاق الصحي العام وضرورة الوصول به إلى النسب الموصي بها دوليا (من 7% إلى 10%). ونشير هنا إلى منشور إعداد الموازنة العامة الجديدة لعام 2010-2011، والذي على الرغم من أنه يحدد أهدافه في رعاية محدودي الدخل فإنه لا يتطرق إلى الرعاية الصحية باعتبارها من أهداف الموازنة الأساسية، ما يعكس اتجاه الحكومة لتحميل المواطنين عبء النظام التأميني الجديد.
4- التحذير من استخدام آليات الحزم التأمينية المتعددة تحت مسميات جديدة – خاصة ما أطلق عليه "حزمة الكوارث الصحية الشخصية" ـ والتي ستحرم المشاركين من حقوقهم التي كفلتها قوانين التأمينات الاجتماعية (في التأمين ضد العجز والمرض والشيخوخة والبطالة وإصابات العمل والوفاة).
5- أهمية الاعتماد على نسب الاشتراكات العادلة والثابتة في أي نظام للتأمين الصحي، ورفض فرض الرسوم والمدفوعات الإضافية بما يعوق إتاحة تلقي الخدمات، خاصة في مستوى المستشفيات (مثل تحميل المنتفع بجزء من تكلفة التحاليل والأشعة والعمليات الجراحية والإقامة بالمستشفيات)، ورفض اقتصار مساهمة الخزانة العامة في النظام التأميني الجديد علي دعم من تسميهم الحكومة "الفئات غير القادرة"، خصماً مما كانت الخزانة تدفعه فعليا للتأمين علي طلاب المدارس (قانون 99) أو للعلاج على نفقة الدولة.
6- التأكيد علي وقوفنا وراء نظام صحي متكامل وتأمين صحي شامل لا يغير من شكل ملكية المؤسسات الصحية العامة المختلفة تحت مسميات مختلفة.
7- التأكيد أيضاً علي وقوفنا وراء هيكل أجور عادلة لكافة أفراد الفريق الطبي (أطباء وممرضين وعاملين) بما يكفل لهم حياة كريمة، بوصفه حقاً طبيعياً لهم وفي الوقت نفسه وسيلة ضرورية لتحسين جودة الخدمات الصحية.
وبتطبيق هذه المبادئ على المسودة المنشورة في 21 أكتوبر1 فإنه يتضح لنا أن مشروع القانون الحكومي الجديد يحتوي على العديد من هذه المخاطر التي حذرنا منها. ونؤكد على ضرورة إدخال إصلاحات عميقة وتعديلات جوهرية على هذا المشروع كواجب وطني، سواء داخل مجلس الوزراء أو بعد إحالته إلى مجلسي الشعب والشورى. كما ندعو جميع القوى المجتمعية إلى رفض هذا المشروع إذا أصرت الحكومة على تقديمه بشكله الحالي.
---
1- يتكون نص المسودة من 32 مادة في خمسة فصول وما نشر تنقصه المواد من (12 إلى 16 و19 إلى 21) دون أسباب واضحة لعله خطأ مطبعي غير مقصود أو غير ذلك.