طمس الحقائق..من الأوراق الرسمية لعملية فض اعتصام رابعة
في يوم 23 نوفمبر 2014 استقبل رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي وفد "اللجنة القومية المستقلة لجمع المعلومات والأدلة وتقصي الحقائق في الأحداث التي واكبت ثورة 30 يونيو وما أعقبها من أحداث"، والتي كانت فترة عملها قد انقضت قانونيًا قبلها بيومين، بعد أن قضت ما يقرب من عام في توثيق وقائع العنف الرسمي والأهلي على مدار الفترة التي بدأت بخروج المسيرات المليونية العارمة للمطالبة بعزل الرئيس السابق محمد مرسي في يونيو 2013 وحتى تنصيب السيسي رئيسًا في يونيو 2014.
لقراءة تقرير طمس الحقائق..من الأوراق الرسمية لعملية فض اعتصام رابعة كاملاً
تسلم الرئيس السيسي يومها التقرير النهائي للجنة من الوفد الذي ضم كلاً من رئيسها فؤاد عبد المنعم رياض، أستاذ القانون والقاضي الدولي السابق بالمحكمة الجنائية الدولية بشأن يوغسلافيا السابقة، ونائب رئيس اللجنة المستشار إسكندر غطاس، مساعد وزير العدل السابق، والأمين العام للجنة القاضي عمر مروان، الذي يشغل حاليًا منصب وزير العدل.
وذكر بيان رئاسة الجمهورية الصادر في نفس اليوم أن السيسي وجه بإحالة التقرير النهائي إلى مجلس الوزراء "لدراسته وإرساله إلى كافة الجهات المعنية والقضائية المختصة لاتخاذ اللازم فيما جاء بالتقرير من وقائع". كانت اللجنة قد تشكلت في ديسمبر السابق بقرار رئيس الجمهورية (رقم 698 لسنة 2013) برئاسة فؤاد رياض وعضوية خمسة آخرين هم اسكندر غطاس واثنان من أساتذة القانون وممثلين عن كل من المجلس القومي لحقوق الإنسان والمجلس القومي للمرأة. ونص القرار على تعيين عمر مروان - وكان وقتها مساعدًا لوزير العدل- كأمين عام للجنة، والذي قام بدوره باختيار 17 قاضيًا للعمل كأمانة فنية للجنة، فضًلا عن الإداريين المنتدبين أيضًا من "الجهات والهيئات القضائية". وقال عمر مروان لاحقًا أن الدولة خصصت لعمل اللجنة اعتمادات مالية بلغت 732 ألف جنيه.
انتهى عمل اللجنة -التي كان مقرها بمجلس النواب - بتسليم تقريرها النهائي للرئيس السيسي؛ فالقرار الجمهوري بتشكيلها لم يمنحها سلطات التحقيق الرسمي أو استدعاء المسؤولين أو توجيه الاتهامات أو إحالة الوقائع للمحاكمة، وإنما اقتصر كما يشير اسم اللجنة على تكليفها بجمع المعلومات والأدلة عبر "عقد اللقاءات والمقابلات…وإجراء المناقشات…وتحليل الأحداث…وبيان الوقائع" وهكذا. وبالرغم من ذلك فقد كان الجميع في انتظار صدور التقرير، بوصفه التوثيق الرسمي الوحيد - حتى اليوم- بشأن الأحداث الدامية لصيف 2013، وعلى رأسها عملية فض اعتصام أنصار مرسي في ميدان رابعة العدوية في 14 أغسطس من ذلك العام، والموصوفة من يومها بكونها "أسوأ مذبحة في تاريخ مصر الحديث". وبحسب الأرقام الرسمية النهائية فقد أسفرت عملية فض اعتصام رابعة وحدها وفي يوم واحد عن مقتل أربعة ضباط وخمسة مجندين من قوات الشرطة وما لا يقل عن 618 مدنيًا، وهو رقم تقر السلطات بأنه يقتصر فقط على الجثث التي وردت إلى مصلحة الطب الشرعي ولا يشمل الضحايا المدنيين الذين استخرج أقاربهم تصاريح بالدفن ونقلوهم بمعرفتهم من مقر الاعتصام، والذين قدرت مصادر مستقلة عددهم في حدود 200 آخرين.
بعد ثلاثة أيام من اجتماعها بالسيسي عقدت اللجنة مؤتمرها الصحفي الأخير لإعلان التقرير، والذي قال رئيس اللجنة إنه جاء في 766 صفحة، فضلاً عن 11 ألف صفحة من الملاحق والمرفقات والوثائق، بخلاف الأسطوانات المحتوية على أدلة وصور وفيديوهات. لكن اللجنة لم تنشر يومها سوى ملخص تنفيذي من 57 صفحة، من بينها سبع صفحات فقط حول فض رابعة، وقام بإعداده وعرضه في المؤتمر عمر مروان بصفته الأمين العام.
قدم ذلك الملخص التنفيذي تقريبًا نفس الرواية الرسمية التي رددتها السلطات الرسمية في أعقاب المذبحة، وهي ذات الرواية التي اعتمدتها النيابة العامة لاحقًا كأساس لاستجواب ومقاضاة 739 شخصًا- جميعهم من المعتصمين- في محاكمة جنائية بتهم التجمهر والقتل والعنف وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، في محاكمة بدأت في 2015 وانتهت بعد ثلاث سنوات بأحكام بالإعدام والمؤبد، فضلًا عن إدانة 22 طفلًا قُبض عليهم أثناء أو عقب فض الاعتصام وحكم عليهم بالسجن عشر سنوات يتلوها الخضوع لمراقبة الشرطة لخمس سنوات أخرى.
تتلخص تلك الرواية الرسمية في عدة عناصر أساسية: أن اعتصام رابعة كان "بؤرة مسلحة"، وأن قوات فض الاعتصام أنذرت المعتصمين عبر مكبرات الصوت وحاصرتهم ومنحتهم مهلة للمغادرة الطوعية عبر ممر آمن خصصته لذلك الغرض، وأن المعتصمين قاوموا قوات الفض التي لم تستعمل سوى سيارات الطنين وخراطيم المياه وبواعث الغاز المسيل للدموع، ثم بادر المعتصمون بإطلاق الأعيرة النارية على القوات التي سقط منها قتلى وجرحى فاضطرت القوات للرد بالذخيرة الحية "بالقدر الضروري والمتناسب" قبل أن تحكم السيطرة على الميدان، ثم سمحت بخروج أغلب المعتصمين بعد أن ألقت القبض على المتورطين منهم في العنف، وعثرت في مكان الاعتصام على 51 سلاحًا ناريًا وكمية من الذخائر.
لم ينشر التقرير النهائي حتى اليوم. وتوفي رئيس اللجنة فؤاد رياض في يناير 2020 عن عمر ناهز 92 عامًا، وكان آخر ما كتبه قبل شهر من وفاته على صفحته بموقع فيسبوك تضمن شكوى من أن تقرير اللجنة "لا زال طي الكتمان".