الواقع الموازي: تعليق على تقرير الحكومة المصرية للاستعراض الدوري الشامل

كتب: عمرو عبد الرحمن 

مدير وحدة الحريات المدنية - المبادرة المصرية للحقوق الشخصية 

 

مقدمة

 

استعدادًا لجلسة الاستعراض الدوري الشامل لملف حقوق الإنسان في مصر، المنتظر عقدها في جنيف يوم الثلاثاء 28 يناير الجاري، تقدمت الحكومة المصرية في أكتوبر الماضي بتقريرها الوطني لآلية مجلس حقوق الإنسان الدولي التي تخضع لها مصر للمرة الرابعة منذ الاستعراض الأول عام 2010. 

يعكس التقرير الوطني ما بات نمطًا يحكم تقارير الحكومة المصرية أمام الهيئات الحقوقية الأممية، وهو نمط يتسم بتقديم وتعداد الإجراءات الحكومية الاعتيادية والدورية بوصفها تمثّل بحد ذاتها تحسنًا في الحالة الحقوقية، فيما يتجاهل تمامًا جذور الأزمة الحقوقية الشاملة التي تعاني منها مصر حاليًا. تتمثل هذه الجذور في بنية تشريعية مقيدة لممارسة الحقوق المدنية والسياسية المكفولة دستوريًا، وممارسات أمنية وقضائية تجعل من جهات إنفاذ القانون كيانًا فوق المحاسبة عمليًا، وحزمة سياسات مترابطة تعصف بغالبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. والمحصلة هي آلاف من المقيدة حريتهم بالحبس الاحتياطي أو السجن بعد محاكمات تفتقر لمعايير العدالة، ومجال عام مغلق يحرم فيه المواطنين من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية، ومؤشرات تنمية إنسانية متراجعة بشكل خطير. 

في مواجهة ذلك المشهد لا يُنتظر من الحكومة المصرية أن تحول إجراء الاستعراض الدوري الشامل إلى مجرد مناسبة تعدد فيها إجراءاتها الاعتيادية المختلفة - وهي إجراءات يمكن تقييم بعضها بالإيجاب فعليًا - ولكن كان من المنتظر أن تعلن تصورها لطبيعة الأزمة الحقوقية الحالية وخططها لمواجهتها، والأهم أن تشرح أسباب عدم وفائها بأغلبية ما قبلته من توصيات في الاستعراض السابق في 2019 ثم تجاهلت تنفيذها تمامًا كما سبق الذكر.  


استراتيجيات بلا أهداف أو مؤشرات: 

 

يتجلى النمط السابق ذكره منذ السطور الأولى للتقرير الوطني، إذ يذكر التقرير تحت عنوان "الإجراءات المتخذة في سبيل تنفيذ التوصيات" سبعة مبادرات واستراتيجيات تبنتها الحكومة منذ المراجعة السابقة، باعتبارها استراتيجيات "ذات صلة بحقوق الإنسان" كما يسميها التقرير، أي أن أهدافها تتضمن تلبية التزامات دستورية ودولية بحماية وتعزيز حقوق أساسية (فقرة 10). تتضمن هذه الاستراتيجيات مثلًا: الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان المتبناة في 2021 وهي الأكثر صلةً بالموضوع بطبيعة الحال، وكذلك استراتيجيات التنمية المستدامة ومكافحة الفساد والتي تعالج جوانب مختلفة تتجاوز حماية وتعزيز الحريات والحقوق الأساسية بالمعنى المباشر للكلمة. 

ولكن الملاحظ على هذه الاستراتيجيات جميعها أنها تتضمن أهدافًا فضفاضة للغاية، ومؤشرات على نفس الدرجة من العمومية لقياس الأثر. وهذه العمومية تسمح للحكومة بأن تقدم أي تدبير متخذ على طريق تطبيق تلك الاستراتيجيات بوصفه تحسنًا يقتضي التقدير. 

على سبيل المثال، يعتبر التقرير الأخير لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وكذا التقرير الوطني، إجراء الانتخابات الرئاسية في 2023 وقبلها الانتخابات البرلمانية في 2020 والانتخابات الدورية لعدد من النقابات المهنية كمؤشرات على تحسن في حالة الحق في المشاركة السياسية. ويعتبر التقرير الوطني كذلك أن مبادرة الحوار الوطني الرئاسية التي بدأت فعالياتها في 2022 مؤشرًا على تحسن في حالة حرية التعبير (فقرة 30)، وكذا إصدار التراخيص المطلوبة لعدد من المواقع الإلكترونية والمنصات الخبرية لممارسة عملها (فقرة 31). بل ويعتبر التقرير سماح الحكومة بتنظيم مسيرة مناصرة للبيئة في قمة المناخ في شرم الشيخ 2022 أو تنظيم تظاهرة دعا لها مسؤولو الدولة للاحتجاج على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 2023 (فقرة 35) كمؤشرات على تحسن في حالة الحق في التجمع السلمي، كما يعتبر تأسيس عددًا من اللجان النقابية العمالية كمؤشر على تحسن في حالة الحق في التنظيم (فقرة 38).

كل هذه الإجراءات هي محض إجراءات دورية واعتيادية لا يمكن اعتبارها بحد ذاتها تحسنًا أو تدهورًا في حالة الحقوق المذكورة. وذكر الحكومة لها كمؤشرات تحسن يتسق مع طبيعة الأهداف الفضفاضة الموضوعة في الاستراتيجية الوطنية، والتي تتخذ صيغًا مصل "كتحسين مناخ التنوع واختلاف الآراء إزاء مختلف القضايا العامة"، أو "تعزيز الوعي العام بثقافة التجمع السلمي". لا يمكن لأهداف على هذا القدر من العمومية أن تلهم أي سياسات محددة أو مؤشرات يعتمد عليها. 

كان من المفترض، في المقابل، أن توضح الحكومة علاقة هذه الإجراءات بحماية وتعزيز الحقوق المذكورة، والأهم، أن تعلق على الانتهاكات المتعددة التي وثقتها منظمات حقوقية محلية ودولية في سياق هذه الإجراءات. على سبيل المثال، كان من المنتظر أن يشرح التقرير الوطني كيف يؤدي انتخاب رئيس الجمهورية بعد تعديل دستوري في 2019، يمدد فترات الرئاسة لفترة إضافية بلا سند، إلى تعزيز الحق في المشاركة السياسية. كما كان من المفترض أن يعلق التقرير الوطني على التقارير الحقوقية العديدة التي صدرت عن منظمات حقوقية محلية أو دولية ووثقت طيفًا واسعًا من الانتهاكات الخطيرة التي أحاطت بالعملية الانتخابية منذ فتح باب الترشيح، وصولًا إلى الحكم بحبس المرشح المعارض الوحيد الذي حاول الترشح من خلال جمع توكيلات التأييد المطلوبة مباشرة من المواطنين في هذه الانتخابات.  

وكان من المفترض ألا تسرد الحكومة عدد التصاريح التي أصدرتها للمواقع الإلكترونية والمنصات، ولكن أن تشرح لنا أسباب رفضها ترخيص مواقع أخرى بدون سند قانوني، أو حجب العديد من المواقع الخبرية والصحفية الأخرى التي تقدرها المنظمات الحقوقية المصرية بما يتجاوز الـ 130 رابطًا - سواء استنادًا لمواد قانون تنظيم الصحافة والإعلام 175 لسنة 2018، أو بدون سند قانوني على الإطلاق. وكذلك لم يكن من المفترض أن تسرد أعداد اللجان النقابية التي قبلت مديريات وزارة القوى العاملة توفيق أوضاعها، بل أن تشرح لنا أسباب رفض أو بالأحرى حلّ لجان نقابية أخرى أخرى. وقبل كل ذلك كان من المفترض أن تشرح لنا الحكومة لماذا ألقي القبض على العشرات ممن مارسوا الحق في التجمع السلمي في نفس المناسبات التي تذكرها الحكومة، أي تظاهرات الاحتجاج على العدوان الإسرائيلي على غزة.

كذلك فذكر الأرقام المطلقة لن يفيد في شرح موقف الحكومة بشأن هذه القضايا، ما يعنينا هو نسبة ما يُتخذ من إجراءات من بين إجمالي الإجراءات المطلوبة. على سبيل المثال، يشير التقرير إلى استخدام رئيس الجمهورية للسلطات المخولة إليه بحكم المادة 155 من الدستور في العفو عن 77585 مسجونًا في الأعياد والمناسبات القومية، والعفو عن 605 من المحكوم عليهم من كبار السن وذوي الحالات الصحية المتراجعة، بخلاف 27 حالة إفراج صحي (فقرة 24). كما يشير التقرير إلى إخلاء سبيل 1434 من المتهمين المحبوسين احتياطيًا بقرارات من النيابة العامة أو المحاكم المختصة (فقرة 25). ولكننا لا نعلم - سواء في حالة العفو الرئاسي أو إخلاء السبيل- نسبة هذا العدد من إجمالي عدد المحبوسين احتياطيًا في مراكز قانونية متماثلة ولا المعايير المستخدمة لاتخاذ مثل هذه القرارات.


اعتبار المشكلة هي الحل:

 

معضلة الأهداف والمؤشرات الفضفاضة والأرقام المطلقة تتكثف أكثر في حالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتصبح للأسف مدعاة للحيرة أو السخرية. يحفل التقرير بالإشارة لأي إجراء حكومي يدخل في صميم سياستها المالية والنقدية المعتادة باعتباره من ضمن جهودها لتحسين حالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حتى لو كان هذا الإجراء بحد ذاته سببًا في انتهاك أي من هذه الحقوق. 

على سبيل المثال يذكر التقرير رقمًا مطلقًا يتعلق بزيادة نسبة مخصصات دعم رغيف الخبز في الموازنة العامة للدولة للعام الحالي بنسبة 51٪ (بند أ فقرة 45)، وهي زيادة متوقعة بحكم تراجع سعر العملة المحلية والتضخم العالمي. ولكنه يتجاهل تمامًا تراجع نسبة دعم رغيف الخبز في الموازنة العامة على مدار السنوات الأربع الماضية نفسها، بل وتراجع نسبة مخصصات الدعم السلعي ككل من مجمل مخصصات الدعم في الموازنة. إذ تراجع الإنفاق الحقيقي على هذا البند بنسبة 11٪ ليكمل سلسلة من التراجعات في السنوات الماضية من 8٪ قبل عشر سنوات إلى 3.7٪ في الموازنة الجديدة. الأمر هنا لا يقتصر على مؤشر فضفاض ولكنه يمثل خداعًا صريحًا. 

ينطبق منهج الخداع ذاته على الأرقام المذكورة بشأن ارتفاع معاشات العاملين بالقطاع العام والخاص وزيادة الحد الأدنى للمعاشات (بند ج فقرة 45). فأي مراقب يعلم جيدًا أن مجرد مقارنة بسيطة للنسب والأرقام المذكورة بمعدلات التضخم الحالية ستظهر تراجعًا ملفتًا في قيمة المعاشات وليس العكس، وهو ما ينطبق بشكل أقل قليلا في حالة الحد الأدنى للأجور، الذي رغم زياداته المتوالية يظل أقل من حد الفقر. 

أما فيما يتعلق بالتعليم، يعود التقرير إلى لعبة الأرقام المطلقة منزوعة السياق، ليتحدث عن ارتفاع كبير في نسب الفتيات المقيدات في مراحل التعليم المختلفة (فقرة 58)، بينما يصمت تمامًا عن التراجع الحاد في نسبة الإنفاق على التعليم في الموازنة العامة للدولة، أو نسبة هذا الإنفاق من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة منصوص عليها دستوريًا. لا يذكر التقرير هذه الوقائع من الأصل ناهيك عن أن يقدم تبريرًا لها. 

مبرر هذا الصمت والتجاهل نجده في الفقرة الأولى في الجزء الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتي تتحدث عن التزام الحكومة المصرية ببرامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الهيكلي المتفق عليها مع مؤسسات التمويل الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي (فقرة 44). ومن المعروف أن هذه البرامج بحد ذاتها، بما تقتضيه من تخفيض عمدي للإنفاق الحكومي ولقيمة العملة المحلية، هي المسؤولة عن التراجع الحاد في قيمة الأجور والمعاشات وتقلص نسب الإنفاق على الخدمات العامة أو الدعم. بل إن هذه القيم مرشحة للمزيد من الانخفاض اتساقًا مع توجه الحكومة للتحول للدعم النقدي بديلًا عن الدعم السلعي، والذي يحتفي به التقرير بوصفه تقدمًا علي طريق كفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. 

وتستخدم الحكومة فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية أيضًا الفلسفة  نفسها الخاصة بالاستراتيجيات، حيث تسرد قائمة كبيرة من المبادرات المختلفة، دون أي إشارة لوضعيتها في سياق السياسات العامة، ودون بيان لأثرها على المشكلات المختلفة. مثلًا، في حالة برنامج تكافل وكرامة"، هل قل عدد الفقراء نتيجة للبرنامج؟ هل لعب البرنامج دوره في حماية الفئات الأفقر في المجتمع؟ وكيف؟ المبادرات لا تصلح لأن تكون بديلًا للسياسات ومؤشرات الأداء. 


انتقائية في عرض "المنجزات" والإخفاقات: 

 

بعد أن يغرق التقرير القارئ في بحر من الأرقام المطلقة والأهداف الفضفاضة، يعود ليذكر سريعًا أن هناك عدد من الأهداف التي لا تزال الحكومة تسعى لتحقيقها على طريق تحسين حالة حقوق الإنسان. وهذه الأهداف ومؤشراتها، مذكورة في بعض الاستراتيجيات الحكومية ذاتها، ناهيك عن ذكر الكثير منها في الدستور الحالي، وتضمن التوصيات التي قبلتها الحكومة المصرية بلا تحفظ في الاستعراض السابق في 2019 العديد منها كذلك. 

ولكن اللافت للنظر أن هذه الأهداف المذكورة التي لم تنجزها الحكومة هي نفسها الأهداف الوحيدة المحددة بدقة وتشمل التزامات تشريعية أو دستورية ملموسة. على سبيل المثال لا يشرح لنا التقرير عدم تقديم الحكومة حتى الآن لمشاريع قوانين مكافحة التمييز (مادة 53 من الدستور الحالي)، أو دعم حرية تداول المعلومات، أو الإدارة المحلية (مادة 242 من الدستور الحالي)، بالرغم من التعهد بذلك في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان نفسها، وعلى الرغم من اشتمال مخرجات الدورة الأولى من جلسات الحوار الوطني الصادرة في أغسطس 2023 على توصيات بشأن الإسراع في تبني هذه التشريعات، خصوصًا تشريعي مناهضة التمييز والإدارة المحلية. 

أما الالتزامات الدستورية بإصدار قانون منظم لعملية العدالة الانتقالية (مادة 241)، أو تخصيص نسب من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي (المواد 18، 19، 23 على الترتيب )، فلم يرد لها ذكر من الأصل ولا حتى في الاستراتيجية الوطنية المذكورة. 

وفيما يتعلق بالتوصيات المقبولة في الاستعراض السابق، فلم يشر التقرير الوطني لأي توصية مقبولة تتعلق بإجراء ملموس كإلغاء أو تعديل تشريع قائم، أو الحد من ممارسة مؤسسية بعينها، أو إقرار تشريع جديد. ومن ضمن أمثلة تلك التوصيات الملموسة والتي تجاهلها التقرير تمامًا "تنقيح القوانين القائمة لكفالة الامتثال لدستور 2014" (توصية 52،31)، "إعادة النظر في تعريف الإرهاب الوارد في قانون الإرهاب 94/2015 لمنع استخدامه لتقييد الحقوق، مثل حرية التعبير" (توصية 31،134)، "تعديل قانون مكافحة الإرهاب ليتواءم مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان" (توصية 31،137)، "وضع تشريعات محددة تتعلق بحرية المعلومات وإمكانية الحصول عليها" (توصية 31،170)، "تقييم إمكانية إعادة النظر في التشريعات المتعلقة بوسائط الإعلام لضمان اتساقها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان" (توصية 31،177)، "تقييد الاستخدام المفرط لتدابير الاحتجاز السابق للمحاكمة وتدابير الإخضاع لمراقبة الشرطة في الحدود الضيقة المبينة في المادة ٥٤ من الدستور" (توصية 31، 122)، "النظر في إعلان وقف تنفيذ عقوبة الإعدام، وإعادة النظر في جميع الأحكام التي فرضت فيها عقوبة الإعدام" (توصية 31، 102)، "إلغاء أو تعديل قانون الأحوال الشخصية لضمان المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة في جميع المسائل المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية، وبالميراث، والطلاق، وحضانة الأطفال" (توصية 221،31)، "النظر في سحب التحفظات على اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة" (توصية 31،18). 

في المقابل، يشير التقرير لعدد من التشريعات المنتظرة والتي يفترض أن تقود إلى تحسن ملموس في حالة حقوق الإنسان حال تبنيها. على رأس هذه التشريعات قانون الإجراءات الجنائية (بند أ فقرة ١11)، وقانون العمل (فقرة 49). إلا أن المسودات التي طرحتها الحكومة لكلا القانونين قد حفلت بانتهاكات متعددة لطائفة واسعة من الحقوق وتراجعًا واضحًا عن الالتزامات الدستورية والدولية بشأنها، إلى الحد الذي دفع عددًا من المنظمات الحقوقية المحلية إلى حث الحكومة على التريث في طرح هذه التشريعات نفسها إذ أن الوضع الحالي، على سوءه، يبقى أفضل من الوضع المقترح. 

في مواضع أخرى من التقرير تعزو الحكومة أي قصور في إنفاذ التزاماتها الدستورية إلى أزمات خارجة عن إرادتها أو توقعها كتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي عقب جائحة كوفيد-19  أو النزاعات الإقليمية (فقرة 44)، أو بالطبع استمرار التهديدات الإرهابية (فقرة 106)، أو شيوع معتقدات ثقافية تتناقض مع جهود الحكومة في رفع وتعزيز الوعي بثقافة حقوق الإنسان. 

في الواقع لا ننكر أبدًا عمق التحديات التي تمثلها هذه التطورات، ولكن المعضلة أن الاستجابة الحكومية لهذه التحديات تفاقم من أثرها السلبي لا العكس. تراجع الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة، مثلًا، لا يمكن أن يسهم في التلطيف من أثر التباطؤ العالمي الناتج عن جائحة الكوفيد، بل بالعكس سيضع المزيد من الضغوط على المؤسسات الصحية على وجه التحديد، وهو ما رأيناه تحديدًا في ذروة أزمة الكوفيد، ووثقنا الأثر السلبي لتراجع التعيينات الحكومية في هذا القطاع الحيوي، وقصور تدخلات الدولة في التصدي لجائحة كوفيد-19 وأثرها غير المتساوي على الفئات الأضعف في المجتمع. وكذلك فالاستجابة لتحدي الإرهاب أو النزاعات الإقليمية لا يمكن أن يكون بالخروج على المبادئ والضمانات الدستورية والقانونية للحق في المحاكمة العادلة أو الأمان الجسدي. هذه الاستجابة الحكومية مجربة في الماضي ولم تنجح في معالجة هذه المعضلة من جذورها، بل زادت من تفاقمها. 

وأخيرًا، فرفع الوعي بثقافة حقوق الإنسان ليس مجهودًا نظريًا تقوم عليه عدد من المؤسسات التعليمية أو الدينية الرسمية، فالمعتقدات الراسخة لقرون لن تتغير من خلال مناهج تعليمية أو دورات تدريبية، على أهمية هذه المبادرات بالطبع. ولكنها ستتغير عندما يلمس المواطن تحولًا جوهريًا في سياسات السلطة العامة تجاه تبني معتقدات جديدة. لا يتسق مثلًا السعي المحمود لإصلاح الخطاب الديني ومواجهة العنف والتمييز الطائفيين، مع استمرار القيود الأمنية على بناء الكنائس بالمخالفة للقانون القاصر نفسه، ولا مع استمرار تعقب كتاب الرأي أو منتجي المحتوى باتهامات إزدراء الأديان. الرسالة التي يتلقفها المواطن أن الحكومة غير جادة في مواجهة هذه الظواهرالسلبية، بل إنها على استعداد للاستجابة لأي ضغط مجتمعي عليها يدفعها لسياسة عكس خطابها المعلن. وكذلك لا يستقيم السعي لمواجهة ثقافة الحط من شأن المرأة في المجال العام، أو مواجهة التحرش والعنف الجنسيين، مع الخطاب التحريضي الذي تتبناه النيابة العامة نفسها ضد قطاع واسع من منتجات المحتوى الترفيهي على منصات التواصل الاجتماعي، بل وإحالة الكثير منهن إلى المحاكمة وفقًا لنصوص قانونية فضفاضة تجرم ما يعرف مثلًا بـ "الاعتداء على قيم الأسرة المصرية". ومن المفترض في تقرير وطني حكومي أن يركز في عرضه على هذه الاستجابة نفسها، بدلًا من محاضرة المتلقين عن عمق التحديات التي تواجهها كافة دول العالم في الواقع. 


خلاصة: 

 

مرة أخرى، الاستعراض الدوري الشامل هو إجراء يستهدف مناقشة توجهات الحكومات بشأن الأزمات المحيطة بحالة حقوق الإنسان في مجتمعاتها، وليس إجراءً يهدف لاستعراض جهود الحكومات الاعتيادية والدورية في الوفاء بالتزاماتها الدستورية. وفي الواقع، فالدبلوماسية المصرية قد احترفت هذا الخلط لسنوات طويلة بشكل يهدد بتفريغ إجراء الاستعراض الدوري الشامل من محتواه. وبالتالي، فالمفترض أن تنتبه الدول الأعضاء بالمجلس، والمنظمات الحقوقية الدولية التي تراقب هذه المناسبة المهمة، لهذه الاستراتيجية المتعمدة وتواجهها بوضع الحكومة المصرية أمام مسؤولياتها وأن تضغط عليها لتقديم شرح أو تبرير لاستمرار أشكال محددة من انتهاكات الحقوق الأساسية، أو القصور عن عن مواجهتها تشريعيًا ومؤسسيًا على الأقل. عندها فقط يكون لهذا الإجراء معنى وقيمة.