الملخص والمقدمة: حاولت استخراج بطاقة الرقم القومي. في استمارة الطلب كتبت بهائي أمام خانة الديانة. رفض الموظف استلام الاستمارة وطلب مني أن أقدم شهادة ميلادي. أبرزت له الشهادة التي تثبت أنني بهائي مولود لأبوين بهائيين. رغم ذلك رفض الموظف قبول الاستمارة وطلب مني أن أقدمها إلى المكتب الرئيسي في القاهرة. عندما ذهبت إلى القاهرة قابلت ضابطاً يدعى وائل، فتح درج مكتبه وأخرج كومة كبيرة من المستندات والأوراق وقال، "انظر، كل هذه استمارات من بهائيين يرغبون في استخراج بطاقات رقم قومي. لن تحصلوا عليها أبداً".
- نير نبيل
قال إنني ارتكبت معصية وسألني عن سبب رغبتي في العودة إلى المسيحية، وقال: "إن كان حظك سيئاً مع زوجك الأول، كان يجب عليك أن تجدي رجلاً مسلماً آخر". وعرض علي المساعدة والخدمات، حيث قال: "يمكن أن أجد لك رجلاً مسلماً طيباً. وإن كان الأمر يتعلق بالنقود، يمكن أن نساعدك في العثور على عمل. إذا كنت تريدين العودة إلى أسرتك بسبب عدم وجود بديل، سنساعدك في العثور على شقة." وعندما صممت على أن أبقى مسيحية، قال لي: "حسناً، إذن يجب علينا أن نفتح تحقيقاً في تهمة التزوير".
ـ جلسن صبحي كامل
يلزم القانون المصري كل مواطن بلغ سن السادسة عشرة باستخراج بطاقة تحقيق الشخصية التي تحمل رقماً قومياً يعطى لكل فرد عند ميلاده. وتعد هذه البطاقة ضرورية للالتحاق بالتعليم الجامعي، والتعيين في الوظائف، والتصويت في الانتخابات، والسفر خارج البلاد أو داخلها، وإجراء أبسط المعاملات المالية أو الإدارية.
وتختص مصلحة الأحوال المدنية التابعة لوزارة الداخلية المصرية بإصدار بطاقات تحقيق الشخصية، وشهادات الميلاد والوفاة، وعقود الزواج، وغيرها من الوثائق الهامة. وتشترط كل هذه الوثائق إثبات ديانة المواطن، من بين جملة بيانات إلزامية أخرى.
وعند تحديد الديانة أو تسجيلها، لا تقر الحكومة المصرية إلا الديانات التي تشير إليها بالديانات "السماوية" أو "المعترف بها" الثلاث: وهي الإسلام والمسيحية واليهودية. وليس للمواطن المصري أن يختار إثبات ديانة أخرى غير هذه الديانات الثلاث. ولا تستند هذه الاختيارات المقيدة إلى نصوص أي قانون مصري، وإنما إلى تفسير وزارة الداخلية الخاص للشريعة الإسلامية. وليس للمواطن المصري أن يختار إثبات ديانة أخرى غير هذه الديانات الثلاث، ولا أن يمتنع عن إثبات أي ديانة في الأوراق. وما لم يقبل المواطن هذه الشروط فإن السلطات ترفض إصدار البطاقة أو غيرها من الوثائق التي تظهر فيها خانة الديانة.
وتنتهك هذه السياسات والممارسات حق المصريين في حرية العقيدة. كما أنها تؤدي عملياً إلى حرمان هؤلاء المواطنين من طائفة واسعة من الحقوق المدنية والسياسية وكذلك الاجتماعية والاقتصادية، وذلك بسبب الضرورة القصوى لبطاقة تحقيق الشخصية في معظم مجالات الحياة العامة. وكما يظهر هذا التقرير بالتفصيل، فإن نتائج هذه السياسات تمتد في بعض الحالات لتمس أشد مناطق الحياة الخاصة حميمية.
وبينما يطال التأثير السلبي لتوجه الحكومة المصرية هذا أي مواطن لا يدين بالإسلام ولا المسيحية ولا اليهودية، أو أي شخص يرغب في عدم الكشف عن معتقداته الدينية، فإن الواقع العملي في مصر اليوم يظهر أن الضرر الأكبر لهذه السياسات يقع على كاهل كل من المصريين البهائيين، أو الأفراد الذين تحولوا أو يرغبون في التحول من الإسلام إلى المسيحية. ويدور هذا التقرير بشكل أساسي حول خبرات هؤلاء الأفراد.
ويعد المصريون البهائيون ـ على قلة عددهم ـ أكبر الجماعات الدينية المستقلة غير المعترف بها في مصر، أو ربما كانوا الجماعة الوحيدة على الإطلاق. حيث يعد الإسلام السني هو الديانة الرسمية لما يقرب من 90% من سكان البلاد، بينما يشكل الأقباط أغلبية النسبة المتبقية. وبينما تحتوى كلتا المجموعان الرئيسيتان على بعض التنوعات الدينية داخلهما، فإن من ينتمون إلى طوائف مسلمة أو مسيحية لا يواجهون مشكلة في تسجيل أنفسهم كمسلمين أو كمسيحيين في الأوراق الرسمية. أما المجموعة الثانية التي يعد أفرادها ضحايا للسياسة الحكومية المذكورة، أي المتحولون من الإسلام إلى المسيحية (أو أي ديانة أخرى)، فإنهم لا يتعرضون للحرمان من الوثائق الرسمية استناداً إلى أي قانون يجرم تغيير الديانة على هذا النحو، وإنما على أساس تفسير المسؤولين لتحريم الشريعة الإسلامية للتحول عن الإسلام باعتباره شكلاً من أشكال الردة. وعلى النقيض من ذلك، فإن المصريين الذين يتحولون من المسيحية (أو أي ديانة أخرى إلى الإسلام) نادراً ما يواجهون أي صعوبات في تغيير أوراق إثبات شخصيتهم لتعكس انتماءهم الديني الجديد.
وبدون الحصول على بطاقة تحقيق الشخصية يخسر المواطن ـ من بين ما يخسره ـ إمكانية إجراء أبسط المعاملات النقدية في البنوك وغيرها من المؤسسات المالية. كما تتطلب أنشطة الحياة اليومية الأخرى ـ كتسجيل الممتلكات، أو استخراج وتجديد رخصة القيادة، أو صرف المعاشات ـ تقديم بطاقة تحقيق الشخصية. أما بالنسبة لجهات العمل، سواء في القطاع العام أو الخاص، فإنه لا يجوز لها قانوناً تعيين أي شخص لا يملك بطاقة تحقيق الشخصية، وكذلك الحال بالنسبة للقبول في المعاهد والجامعات. ويتطلب استخراج عقود الزواج أو جوازات السفر تقديم شهادة الميلاد؛ أما إتمام إجراءات الوراثة والمعاشات وإعانات الوفاة فلا يمكن أن يتم دون استخراج شهادات الوفاة. وبلغ الأمر أن رفضت وزارة الصحة تطعيم بعض أطفال البهائيين ضد الأوبئة بعد أن رفضت وزارة إصدار شهادات ميلاد تثبت انتماءهم للبهائية في خانة الديانة أو تسمح لهم بتركها خالية.
وفي ظل هذه العواقب الوخيمة الناتجة عن عدم امتلاك بطاقات شخصية، فإن بعض المتحولين من الإسلام إلى المسيحية يضطرون إلى اللجوء لتزوير أوراق تثبت ديانتهم الحقيقية. ولما كان ذلك الأمر يشكل جريمة تزوير في أوراق رسمية، فإنهم بذلك يعرضون أنفسهم للسجن لسنوات أو لغرامات مالية كبيرة.
وقد تسببت التكنولوجيا الحديثة في تعميق المشكلة. ففي الماضي عندما كانت البيانات تملأ يدوياً في البطاقات والشهادات، كان بعض البهائيين مثلاً يتمكنون في بعض الأحيان من إقناع أحد مكاتب السجل المدني التابعة لمصلحة الأحوال المدنية بترك خانة الديانة فارغة أو تدوين كلمة "أخرى" أمامها. وبالمثل فقد كان من الممكن لبعض المتحولين للمسيحية أن يعوّلوا على تعاطف أحد موظفي السجل المدني في منطقتهم لإثبات تغيير ديانتهم واسمهم في الوثائق الرسمية. إلا أن الحكومة تعمل منذ فترة على إلغاء هذا البديل تماماً. فمنذ عام 1995، أصبح لزاماً على كافة المواطنين الراغبين في استخراج هذه الوثائق أو على بدلات لها، استخراجها عبر الحاسب الآلي من مصلحة الأحوال المدنية بوزارة الداخلية، والتي يستغل مسؤولوها هذا الشرط لإجبار البهائيين على تسجيل أنفسهم وأبنائهم كمسلمين أو مسيحيين. وفي القريب العاجل، ربما في أوائل عام 2008، سيتوجب على كافة المواطنين استبدال بطاقاتهم القديمة بأخرى صادرة عبر الحاسب الآلي، حتى وإن كان لديهم بطاقات ورقية سارية.
وأثناء إعداد هذا التقرير روى العديد من المصريين في المقابلات التي أجريناها معهم كيف حاولت وزارة الداخلية استخدام أسلوب الضغط والترهيب لإجبارهم على قبول انتماء ديني لا يتفق مع إرادتهم. وفي بعض الحالات قام المسؤولون بمصادرة وثائق تحقيق شخصية سليمة وسارية لإجبار أصحابها على استخراج بطاقات جديدة لأنفسهم أو لأبنائهم. كما شهدت العديد من السيدات المسيحيات اللائي كن قد تحولن إلى الإسلام ثم أردن العودة إلى المسيحية مرة أخرى أن أحد كبار الضباط بمباحث الأحوال المدنية في القاهرة حاول الضغط عليهن عبر ترهيبهن تارة ورشوتهن تارة أخرى لإقناعهن بالإبقاء على الأوراق التي تعتبرهن مسلمات على غير إرادتهن. وفي بعض الحالات أدت سياسة عدم التسامح الرسمي تجاه التحول أو العودة إلى المسيحية إلى إبطال الزيجات أو تدمير عائلات بأكملها.
القوانين المصرية والدولية
تتنافى هذه السياسيات والممارسات مع مبادئ القانونين المصري والدولي. حيث يكفل الدستور المصري في المادة 40 المساواة بين كافة المواطنين ويحظر التمييز على أساس الدين (من بين عدة أسس أخرى). كما تنص المادة 46 على أن "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية." ويسمح قانون الأحوال المدنية الصادر عام 1994 للمواطنين بتغيير أو تصحيح البيانات الواردة في وثائق تحقيق الشخصية الخاصة بهم، بما في ذلك تغيير خانة الديانة، عبر تسجيل البيانات الجديدة مباشرة، دون اشتراط الحصول على موافقة مصلحة الأحوال المدنية.
ويلزم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الحكومة المصرية، التي قامت بالمصادقة عليه، باحترام حق كل إنسان في حرية الدين والمعتقد (المادة 18)، بما في ذلك الحق في إظهار وممارسة المعتقدات الدينية، أو حتى عدم الانتماء لأي ديانة. ويحدد العهد الدولي المادة 18 كأحد المواد التي لا يجوز تقييد العمل بها حتى في أوقات الطوارئ. كما يقر الدستور المصري في مادته 151 أن المعاهدات الدولية لها قوة القانون المحلي. وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بأن الحماية الدستورية لحرية العقيدة تتضمن الحق في عدم تعرض المرء للإكراه من أجل الإعلان عن عقيدته.
وبينما لا يجيز القانون فرض أي قيود على حرية المعتقد تحت أي ظرف من الظروف، فإن المادة 18 تنص على أن حق الإنسان في "إظهار دينه أو معتقده" لا يجوز أن يخضع إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية." وقد ادعت الحكومة المصرية، وأيدتها في ذلك بعض أحكام المحاكم، أن إثبات الفرد لاعتناقه للبهائية أو تغيير ديانته من الإسلام إلى أي ديانة أخرى يعد من قبيل "إظهار معتقد" يحرمه الإسلام، وعليه فإنه يجوز منعه بدافع الحفاظ على "النظام العام". غير أن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة تشير إلى أنه لا يجوز لأي دولة فرض قيود على حرية أي إنسان في إظهار دينه بدافع الحفاظ على "النظام العام" أو "الآداب العامة" استناداً إلى مرجعية دينية وحيدة، حتى وإن أصدرت قراراً بأن تكون هذه المرجعية هي الدين الرسمي للبلاد.
كما تكفل المادة 18 أيضاً الحماية لحق الآباء والأوصياء القانونيين في تعليم أبنائهم المعتقد الديني الذي يختارونه. ويفرض الدستور المصري مادة التربية الدينية كـ"مادة إلزامية" في مراحل التعليم العام، حيث يلتزم الطالب بدراسة الدين المسجل في شهادة ميلاده. أما من قاموا بتغيير ديانتهم من الإسلام إلى المسيحية ولم يمكنهم الحصول على اعتراف الدولة بهذا التغيير، فإنهم يجبرون على تسجيل مواليدهم كمسلمين، ومن ثم فإنه يفرض على هؤلاء الأطفال دراسة الدين الإسلامي طوال فترة تعليمهم بالمدارس. كما يضطر الآباء والأوصياء البهائيون أن يوقعوا على "إقرار" يقضي بأن أبناءهم "ليس لديهم مانع من الامتحان في مادة" التربية الدينية الإسلامية أو المسيحية في المدارس العامة، وهو ما يخالف الرأي الرسمي للجنة المعنية بحقوق الإنسان والذي يقضي بأن تعميم تدريس دين بعينه في التعليم العام "لا يتماشى" مع حرية المعتقد الديني بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية "ما لميتم توفير إعفاءات أو بدائل غير تمييزية بما يتناسب مع رغبات الآباء والأوصياء." [1]
وعندما صادقت الحكومة المصرية على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في عام 1982، أرفقت بالتصديق إعلاناً يقضي بالتزامها بنصوص العهد "مع الأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية". وقد احتجت الحكومة أثناء نظر دعاوى قضائية أمام المحاكم الإدارية بأن السياسات التمييزية التي تتخذها ضد البهائيين أو أولئك الذين يتحولون من الإسلام إلى المسيحية تستند إلى الحكم الراجح للشريعة الإسلامية باعتبار هؤلاء الأشخاص من المرتدين، مشيرةً إلى المادة 2 من الدستور والتي تقضي بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع في البلاد.
وتاريخياً فقد أيدت المحاكم المصرية الموقف الرسمي الذي يقضي بأن الشريعة، أو على الأقل الأحكام القطعية فيها، تمثل ركناً أساسياً من أركان النظام العام وأن الاعتراف بـ"الردة" أو تسجيل أي ديانة بخلاف الديانات السماوية الثلاث "المعترف بها" في السجلات الرسمية يعد انتهاكاً لمبادئ النظام العام. غيره أنه لا توجد أية أحكام قطعية وفقاً للشريعة الإسلامية فيما يتعلق بإصدار الحكومة لوثائق إثبات الشخصية. وكما سيرد في هذا التقرير بالتفصيل فإن ادعاء الحكومة بأن يديها مكبلة في تطبيق الشريعة في مسألة الأوراق الرسمية لا أساس له من الصحة. فبدلاً من إتباع منهج ينتصر للقيم الأساسية للعدالة والمساواة ويوافق بين الشريعة وبين القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن الحكومة تتبع سياسة تنتهك بشكل صارخ الحقوق الأساسية المعترف بها دولياً لمواطنيها.
كما أن القانون الدولي لا يجيز إدراج تحفظات على المعاهدات القانونية إذا كان التحفظ "يتعارض مع هدف المعاهدة والغرض منها." ولذلك فإن أي تحفظات على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تؤدي إلى وقف العمل بأحد الحقوق الأساسية المكفولة بموجب اعرف الدولي، كاستخدام الدولة المصرية للشريعة كمبرر لتقييد حرية المعتقد الديني، تعد غير مقبولة من الناحية القانونية.
و تظهر الحالات الموثقة في هذا التقرير أن الممارسات التعسفية للحكومة فيما يتعلق بإدراج خانة الديانة في وثائق تحقيق الشخصية تنتهك الحق الأساسي للفرد في "أن يدين أو يعتنق" معتقداً من اختياره، وهو الحق الذي لا يسمح الدستور ولا القانون الدولي بأي مساس به لأي سبب كان.
كما أن ادعاء الحكومة أن التحول من الإسلام إلى دين آخر أو اعتناق ديانة غير معترف بها يشكل "إظهاراً" أو ممارسة لمعتقدات دينية (وليس مجرد اعتناق لها) ليس له أي أساس لا من ناحية المنطق ولا من ناحية الوقائع.
فمن ناحية المنطق، ليس من المفهوم أن تقول الحكومة للمواطنين إنهم أحرار في اختيار أي معتقدات دينية يرغبون فيها، ثم ترفض أن يجيب المواطنون بأمانة عندما تطالبهم بتحديد معتقداتهم. فقد يكون من المقبول أن تقول الحكومة للمواطنين "بإمكانكم أن تؤمنوا بما شئتم ولكن الدولة ليس عليها أن تعترف بما تؤمنون به." ولكن ما تقوله الحكومة هنا للمواطنين هو: "إذا لم تكذبوا عندما نطالبكم بالكشف عن معتقداتكم فسنحرمكم من أوراق إثبات الشخصية التي لا غنى لكم عنها في تسيير حياتكم اليومية في هذا المجتمع."
وحتى لو افترضنا أن تقديم المرء لإجابة صادقة حين يتم سؤاله عن ديانته يعد "إظهاراً" لمعتقد ديني، فإن استناد الحكومة إلى مبرر حفظ "النظام العام" لا يكاد يصمد أمام الوقائع. فقد فشلت الحكومة على الدوام في أن تثبت كيف يمكن أن يتأذى النظام العام إذا ما سُمِح للمواطنين بتسجيل ديانتهم الحقيقية في وثائق تحقيق الشخصية الخاصة بهم. كما أن القيود التي تفرضها الحكومة هنا تعد تمييزية بشكل صارخ ضد ديانات بعينها، وما يتبع ذلك من تجاوزات في مجالات الصحة والتعليم والعمل وغيرها لا يتناسب نهائياً مع تحقيق أي غرض متصور من حفظ النظام العام. وفي عام 1996، أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكماً ضد الحكومة اليونانية نص على أن "الحق في حرية الاعتقاد يجرد الدولة من أي سلطة في تحديد مدى مشروعية معتقدات دينية ما أو الطرق المستخدمة في التعبير عن هذه المعتقدات ." [2]
وقد احتجت الحكومة مراراً بأن إلزام المواطنين بإثبات معتقداتهم الدينية في وثائق تحقيق الشخصية أمر ضروري لتحديد أي نظام من نظم قوانين الأسرة سوف يسري على المواطن المعني، إذ إن كافة قوانين الأحوال الشخصية في مصر تستند إلى ديانة المواطن. غير أن هذا الغرض نفسه يمكن تحقيقه بسهولة دون انتهاك حرية المعتقد أو حقوق أخرى: بأن يتم تسجيل ديانة الشخص وغيرها من البيانات في قاعدة البيانات المركزية لمصلحة الأحوال المدنية، على أن يتم الرجوع إليها عند الضرورة من أجل تحديد النظام القانوني واحب التطبيق في مسائل الأحوال الشخصية. كما تعجز هذه الحجة أيضاً عن أن تفسر قرار الحكومة بوقف إجراء منح البهائيين وثائق تحقيق الشخصية مدرج فيها كلمة "أخرى" أمام خانة الديانة، أو إصرارها على التعسف في إخضاع المتحولين من الإسلام إلى المسيحية لأحكام قانون الأحوال الشخصية للمسلمين.
الشريعة الإسلامية وتعددية النظم القانونية في مصر
إن ادعاء الحكومة أن سياساتها الحالية هي الوحيدة التي تتفق مع مقتضيات الشريعة ليس له أيضاً أي أساس من الصحة. فكما ورد أعلاه، وكما سيرد في هذا التقرير بالتفصيل فإن ثمة تفسيرات متعددة في الشريعة لمفهوم الردة وتبعاتها، وهو ما يظهر في المواقف المختلفة التي اتخذتها المحاكم المصرية من المسألة على مدار السنين. ففي حين يجمع علماء المسلمين على أن ترك الإسلام معصية كبرى يحرمها الدين، فليس ثمة اتفاق مماثل حول ما إذا كان يجوز للدولة أو يجب عليها إنزال أي عقوبة دنيوية أو مدنية على تاركي الإسلام إلى المسيحية أو إلى أي ديانة أخرى.
وبالمثل، فبينما يجمع علماء المسلمين على أن البهائية تعد خروجاً ورِدّة عن الإسلام، فإن القرآن لا يقصر حرية العقيدة أبداً على أتباع الديانات الثلاث "المعترف بها"، ولم يدّع الفقهاء مثلاً أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أو الصحابة قد أقروا التعايش فقط بين المسلمين والمسيحيين واليهود، حتى في مهد الإسلام. وبالإضافة إلى ذلك، لم تقدم الحكومة المصرية أو المحاكم أي أساس فقهي يؤيد إكراه من المتحولين إلى المسيحية أو البهائيين على الكذب وادعاء كونهم مسلمين أو انتمائهم لديانة غير ديانتهم الحقيقية، كعلاج للردة.
و في مايو/أيار 1996، أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكماً برفض طعن على قرار لوزارة التربية والتعليم بفرض قيود على ارتداء الفتيات للحجاب في المدارس الحكومية. وتعتبر حيثيات هذا الحكم، خاصة فيما يتعلق بمسألة تطبيق الشريعة، وثيقة الصلة بمحاولات الحكومة استخدام مبادئ الشريعة في تفسير سياستها المتعلقة بإثبات الديانة في الأوراق الرسمية. فقد رأت المحكمة في حكمته أن الحكومة ملزمة بتبني أكثر التفسيرات الدينية حفاظاً على مصالح الناس، بما يتوافق مع تغير الأحوال وبغض النظر عن الإجماع الفقهي حول هذا التفسير، طالما لم يناقض الأحكام القطعية للإسلام. وبالرغم من اختصاص المحكمة الدستورية العليا بإصدار تفسيرات ملزمة لنصوص الدستور، وعلى الرغم من القوة المعنوية للحيثيات الواردة في أحكامها، إلا أن هذه الحيثيات لا تحمل صفة الإلزام القانوني تجاه غيرها من المحاكم.
إضافة إلى ذلك، يعتبر النظام القانوني المصري نظاماً "تعددياً"، بمعنى أنه يقوم على تطبيق الشريعة بشكل موازٍ لتطبيق القوانين المدنية. وبينما لم تتناول التشريعات المصرية قضية الردة على الإطلاق، فإن الممارسة العملية تظهر أن التبعات القانونية للردة في الأغلب تقتصر على مسائل الأحوال الشخصية، التي يُحتكم فيها إلى القانون الديني وليس المدني بالنسبة لكافة المصريين تقريباً ـ سواء الشريعة الإسلامية أو القانون الكنسي ـ كأمور الزواج والطلاق ورعاية الأطفال والميراث ونحو ذلك. وبالرغم من أن هذا الوضع في حد ذاته ينطوي على عواقب تمييزية ضد البهائيين والمتحولين من الإسلام إلى المسيحية مما لا يتسع له مجال هذا التقرير، فإن استخدام تهمة الردة في حرمان الأفراد من حقهم في أوراق رسمية سليمة يؤدي إلى عواقب تتسع لتطال طائفة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وقد تصدى بعض المصريين لهذه السياسات القمعية عن طريق إقامة دعاوى أمام محكمة القضاء الإداري ضد المسؤولين عنها. و في بعض القضايا صدرت الأحكام لصالحهم، إلا أن المسؤولين قاوموا الامتثال لهذه الأحكام وطعنت الحكومة المصرية على عدد منها. وفي أبريل/نيسان 2006، أصدرت محكمة القضاء الإداري حكماً يلزم مصلحة الأحوال المدنية بإصدار بطاقات تحقيق شخصية وشهادات ميلاد لأسرة بهائية، استناداً إلى أن الشريعة الإسلامية هي التي توجب ذكر اعتناق المدعين للبهائية من أجل تنظيم حقوق وواجبات الجماعات الدينية المختلفة. غير أن الحكومة طعنت على هذا الحكم، وقامت المحكمة الإدارية العليا بإلغائه، وأيدت حق الحكومة في تقييد إثبات البهائية في وثائق تحقيق الشخصية على أساس الحفاظ على "النظام العام". وبذلك فإن الإدارية العليا قد ساوت خطأ بين الحق في ممارسة الشعائر الدينية من ناحية، والذي يجوز تقييده في بعض الحالات القاهرة، وحرية اعتناق المعتقدات الدينية من ناحية أخرى، وهي حرية مطلقة لا يجوز تقييدها لأي سبب كان.
تغيير الديانة
ويواجه المصريون الذين يولدون على الإسلام ويتحولون فيما بعد إلى المسيحية رفضاً مجتمعياً شديداً ومضايقات رسمية سافرة. ولذلك، فإن أغلب من تحولوا إلى المسيحية إن لم يكن جميعهم لم يقدموا على اتخاذ الإجراءات الرسمية اللازمة لتعديل وثائق تحقيق الشخصية الخاصة بهم بغرض إثبات تغيير ديانتهم كما هو مكفول في قانون الأحوال المدنية، في حين هاجر عدد غير محدد منهم إلى بلدان أخرى، أو اضطروا إلى الاستغناء عن البطاقات الشخصية أو إلى تزوير بطاقات تمكنهم من تسيير حياتهم بشكل مخالف للقانون. وكما يظهر هذا التقرير، فإن بعض من أعلنوا تغيير دينتهم إلى المسيحية تعرضوا للاعتقال على أيدي ضباط الأمن بتهم الإخلال بالنظام العام وتعرضوا في بعض الحالات إلى التعذيب.
وفي بلد يكاد تعداد سكانه يبلغ 79 مليوناً يدين ما يقرب من 90% منهم بالإسلام بينما يدين أغلب الباقين بالمسيحية، فإنه ليس من المستغرب أن يرغب عدد صغير من الأفراد في كل عام في التحول من دين إلى آخر. وقد قمنا بتوثيق عدد من الحالات قام فيها الأقباط بالدخول في الإسلام، خاصة عند الزواج من مسلم (طبقاً للشريعة الإسلامية، لا يجوز للمسلمة أن تتزوج بغير مسلم)، أو عند الطلاق من أزواجهن/زوجاتهن المسيحيين (حيث لا تجيز الكنيسة القبطية الطلاق إلا لأسباب محدودة)، أو لغير ذلك من الأسباب، ومن ثم أردوا العودة إلى المسيحية. وفي العادة، لا يواجه هؤلاء الأفراد أي مشكلة من أي نوع عند تحولهم إلى الإسلام في الحصول على وثائق تحقيق الشخصية التي تثبت ديانتهم الجديدة، إلا أنهم عادةً ما يواجهون رفضاً وتحرشاً شديدين من جانب المسؤولين عندما يحاولون العودة إلى المسيحية.
وقد طعن نحو 202 حالة من بين هؤلاء الراغبين في الرجوع إلى المسيحية ضد قرارات مصلحة الأحوال المدنية أمام محكمة القضاء الإداري بالقاهرة وحدها. وأصدرت المحكمة، بين عامي 2004 وأوائل 2007، أحكاماً لصالح عدد من المدعين، نفذتها وزارة الداخلية في النهاية بعد تأجيل التنفيذ لفترات طويلة. غير أنه ببلوغ رئيس المحكمة سن التقاعد في سبتمبر/أيلول 2006، عادت المحكمة لسابق عهدها وإلى موقفها الأصلي باعتبار العودة إلى المسيحية صورة من صور الردة.
ويمتد رفض الحكومة المنهجي قبول طلبات المواطنين الراغبين في تغيير ديانتهم في السجلات الرسمية وإظهار معتقداتهم الحقيقية ليشمل فئة أخرى مميزة من المسيحيين المصريين الذين صنفتهم الدولة كمسلمين دون علمهم وبالمخالفة لإرادتهم. وتخص معظم هذه الحالات أبناء مسيحيين تحول أحد والديهم إلى الإسلام، فتم تغيير ديانة الأبناء تلقائياً إلى الإسلام، دون مراعاة لإرادة الأبناء أو إرادة أمهاتهم، بل وغالباً دون حتى أن يعلم الأبناء بأنهم قد أصبحوا رسمياً من المسلمين. حتى أن العديد ممن يندرجون تحت هذا التصنيف لم يعلموا أنهم قد أصبحوا "مسلمين" إلا عندما تقدموا بطلبات لاستخراج بطاقات الرقم القومي عند بلوغهم سن السادسة عشرة، حيث وجدوا أن الدولة قد سجلتهم رسمياً كمسلمين، بل وغيرت أسماءهم المسيحية دون علمهم إلى أسماء إسلامية. وتستند مصلحة الأحوال المدنية في هذه السياسة التعسفية إلى التفسير السائد للشريعة الإسلامية، والمدعوم بعدة أحكام قضائية، والذي يقضي بأنه في حالة كان أحد الأبوين مسلماً والآخر غير مسلم، يتبع الابن تلقائياً "خير الأبوين ديناً" – أي الإسلام.
وعندما حاول هؤلاء المواطنين المصريين التأكيد على مسيحيتهم، مدعومين بوثائق من البطريركية القبطية الأرثوذكسية تثبت أنهم ولدوا مسيحيين، وعاشوا حياتهم بأكملها يدينون بالمسيحية، تعرضوا على يد مسؤولي مصلحة الأحوال المدنية لنفس التمييز والصد اللذين يتعرض لهما المواطنون الراغبون في العودة من الإسلام إلى المسيحية. وقد أقام 89 مواطناً على الأقل من هؤلاء دعاوى أمام محكمة القضاء الإداري. وجاءت مذكرات الدفاع التي تقدم بها محامو الدولة في هذه القضايا لتحاول إثبات أن هؤلاء الأشخاص "مرتدون" بموجب الشريعة الإسلامية، وأنه بذلك يحق للدولة أن تمتنع عن الاعتراف بديانتهم الجديدة أو إعطائهم أي حق يتعلق بتغيير الديانة. وحتى تاريخ صدور هذا التقرير، كانت المحكمة قد أصدرت أحكاماً في سبع من هذه القضايا جاءت جميعها لصالح المدعين. وقد نفذت الحكومة هذه الأحكام في النهاية بعد تعطيل التنفيذ تعسفياً ولفترات طويلة، من خلال بإصدار وثائق تحقيق شخصية للمواطنين المعنيين مثبت فيها كونهم مسيحيين. غير أنه لم تصدر أي أحكام أخرى مماثلة منذ تقاعد رئيس المحكمة في سبتمبر/أيلول 2006.
العلاج
حاولت واحدة على الأقل من الهيئات شبه الرسمية معالجة استمرار فشل الحكومة المصرية في حماية الحرية الدينية للمواطنين الذين يغيرون ديانتهم للمسيحية أو المصريين البهائيين. فبتاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول 2006، رفع المجلس القومي لحقوق الإنسان، والذي قامت الحكومة بإنشائه، مذكرة إلى رئيس الوزراء السيد أحمد نظيف، توضح الصعوبات التي يواجهها المصريون البهائيون وتقترح حذف خانة الديانة من بطاقات الشخصية أو إعادة تطبيق نظام تدوين كلمة "أخري" في خانة الديانة. وفي أغسطس/آب 2007، أعلن المجلس القومي لحقوق الإنسان عن اعتزامه صياغة مشروع قانون لمناهضة التمييز وأنه سيطلب من الحكومة عرضه على البرلمان من أجل توقيع عقوبات جنائية على من ينتهك النص الخاص بمنع التمييز في الدستور.
إن رفع خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي سوف يشكل ولا شك خطوة إيجابية، إذ سوف يمثل إشارة على الموقف الحيادي للدولة حيال ديانة المواطن خلال إجراء معاملاته اليومية. إلا أن الروايات العديدة الواردة بين دفتي هذا التقرير توضح أن جذور هذه القضية أعمق من مسألة أن تظهر الخانة أو لا تظهر على بطاقات الرقم القومي. فهذه المشكلات العميقة التي يواجهها البهائيون والمتحولون إلى المسيحية في مجالات مثل الحصول على الخدمات الأساسية ما هي إلا نتاج لإصرار الحكومة على تسجيل معلومات خاطئة بشأن هؤلاء المواطنين في ملفات مصلحة الأحوال المدنية، وهي مسألة لا تتناولها توصيات المجلس القومي لحقوق الإنسان.
لذا، فإن على الحكومة المصرية أن تتخذ إجراءات فورية لضمان أن تكون الديانة المدونة في ملفات مصلحة الأحوال المدنية وكذلك البيانات المذكورة في أي وثيقة من الوثائق الضرورية، انعكاساً صحيحاً لمعتقدات المواطن والديانة التي يختارها ويمارس شعائرها، دون التعرض لأي عواقب مدنية أو جنائية ضارة. كما ينبغي على الحكومة إصدار تعليمات للمسؤولين بالتوقف عن ممارسة أي ضغوط على المواطنين للتحول إلى الإسلام أو قبول هوية دينية مخالفة لإرادتهم.
---
[1]التعليق العام رقم 22 [العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المادة 18]، اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، الجلسة الثامنة والأربعون، 20 يوليو/تموز 1993، يمكن الاطلاع عليه على الموقع الاكتروني http://www.ohchr.org/english/bodies/hrc/comments.htm، الفقرة السادسة.
[2]Manoussakis and Others v. Greece، (18748/91) المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان 41، (26 سبتمبر/أيلول 1996)، فقرة رقم 47. كانت القضية تتعلق برفض الترخيص لكنيسة جديدة بدعوى الحفاظ على النظام العام.